نظرات في الربيع العربي.. سنة التغيير

 

                           

من الطبيعي أن تستأثر الأحداث الجارية في عدد من الدول العربية باهتمام السياسيين والكتاب والصحافة والإعلام، بل ومراكز الدراسات والأبحاث والمتخصصين في الثقافة والاجتماع والاقتصاد والتاريخ، الحكومات والمنظمات، ذلك أن الذي حصل ويحصل أو سيحصل خطير ومتميز في إطار حركة التاريخ الحديث لهذه الدول، وبما ينطوي عليه ذلك من انعكاسات وترددات، ربما يتجاوز صداها الحدود الوطنية للمحيط الإقليمي والدولي.

وبالتالي هو جدير بهذا الاهتمام وعلى وجه الخصوص عندما ينظر لها من زوايا ومظاهر مختلفة، على سبيل المثال لا الحصر، الحراك يعبر عن ظاهرة جديدة، بل لم يسبق له مثيل عربيا، ولهذا يدور الجدل، ليس فقط فيما إذا كان هذا الحراك قد جرى بشكل عفوي أم بفعل فاعل.. انطلق من رحم معاناة حقيقية وألم، بعد أن نفد صبر هذه الشعوب في حصولها على حقوقها المشروعة، أم جاء بناء على تحريك وتوجيه وتحريض من الخارج بما يرقى أن يكون صناعة أجنبية، آخذين بنظرية المؤامرة التي عادة ما تقيد أي تفسير لحدث كبير فيه شيء من الغرابة أو مثير للجدل. ونحن معذورون في ذلك، إذ هكذا تركت أحداث الماضي التي قادت لتغيير السلطة الانطباع لدى الشعوب، وتأكدت لاحقا في مذكرات القادة ورجال المخابرات، حيث ثبت الآن أنه لم يبرأ انقلاب عسكري تقريبا من شبهات التدخل الأجنبي.

وبالمناسبة لا يزال كتابنا إلى اليوم أسرى التفسير المادي في قراءة الأحداث وتحليلها، لا شيء فيها للروح، للغيب، للقضاء والقدر، لحكمة الباري عز وجل، صانع الكون ومدبره، نتحدث بإسهاب عن دور هذا الطرف أو ذاك ونبالغ فيه، استنادا لما نلمسه ونشاهده ونسمعه ونقرأه بحواسنا القاصرة، لا ما نتأمل فيه، على افتراض أنه – ذلك الطرف - يصنع الحدث بملء إرادته وخياراته، وكأن مقادير الأمور قد تركت في هذا الكون، هكذا ليعبث فيها من يشاء ومتى يشاء وبأي طريقة يشاء، كأن هذا الكون غير محكوم أزليا بالسنن، التي كانت وراء التغيير الحقيقي في الأقوام والأمم وحضارات قامت ثم بادت.. قال تعالى: (قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) آل عمران 137.. شواهد حسية لا تحصى، عن تدبير الله وقدره في القرآن والسنة، لاحظ هذه الآية (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين) الأنفال 9.. (ولله جنود السموات والأرض وكان الله عزيزا حكيما) الفتح 7.. (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) غافر 51.. (...وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون..) الشعراء 227.. (ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله ..) الكهف 23 - 24.

يمضي القرآن الكريم في التوسع في وصف دور السماء في صناعة التغيير حتى يبلغ دقائق الأمور ويمضي إلى إحساس الإنسان، ليؤثر فيه تمهيدا لصناعة الحدث القدر، لاحظوا كيف تحرك السماء الأحاسيس والقناعات والرؤى في اللحظات التي سبقت المنازلة الكبرى في واقعة بدر يوم الفرقان (إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور * وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور) الأنفال 43 - 44. ومضات قرآنية حاسمة وقاطعة تعبر عن مداخلة واضحة للسماء في حركة المتغيرات على الأرض، ومدد إضافي رباني يكمل دور البشر حيث تقتضي السنن الكونية الأخذ بالأسباب، وكل شيء إنما يأتي بمقدار، وبحساب دقيق ومواعيد محددة (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا) الكهف 59.. الذي حصل في الماضي يمكن أن يحصل في الحاضر وفي المستقبل بل ويتواصل حتى يرث الله الأرض ومن عليها (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) الفتح 23.

الحاصل بالنسبة لأمة ذات عقيدة راسخة لا مجال أمام المحلل كي يضمن الموضوعية والدقة إلا أن يتناول كل القوى المؤثرة والفاعلة بعين الاعتبار.. مادية حسية كانت أم روحية غيبية، خصوصا في إفرازات عمليات تغيير تتعاظم فيها فرص التمكين متمثلة في صعود إسلاميين للسلطة لأول مرة.

لا يتوقف الجدل عند القوة المحركة فحسب، بل يتوسع ليشمل التوصيف اللائق بحركة التغيير هذه، هل ينبغي أن نطلق عليها فعلا ربيعا عربيا؟ أم هو خريف عربي بامتياز، ليس فقط بفضل الكلفة العالية التي رافقت التغيير وحجم المعاناة والألم وما صاحب ذلك من دمار وخراب. سوريا ماثلة للعيان وبالأمس ليبيا، بل ما يروج له بعض المتشائمين من أن هذا الحراك يدفع المنطقة وبسرعة لما هو أخطر نحو «سايكس بيكو» جديدة، أو ربما هي خارطة جديدة لشرق أوسط جديد، يجري فيها تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ كما يقال..لا نؤكد ولا ننفي.. ويبقى احتمال لا بد أن نتحسب له.

وطالما أن المخاض ما زال قائما وفي الغالب عسيرا، فإن من غير المجدي اختزال مجمل التجربة، وإجمالي حركة التغيير بالنظر إلى مقدماتها فحسب وتجاهل مآلاتها ونتائجها، بينما المنطق يقول إن النشاط الإنساني أو الحدث لا بد أن ينتهي، كي يصبح واضحا جاهزا للنظر والتأمل والتحليل، وطالما - كما ذكرت - أن حركة التغيير ما زالت حية، نشطة، وفي مخاض تنتظر الولادة، قد تكون طبيعية، تونس مثلا، أو طبيعية لكن رافقها ألم وترقب، مصر مثلا، أو قيصرية كما حصل في ليبيا ويجري اليوم في سوريا، فإن أي استنتاج قطعي الدلالة. وهذا ما نحتاج له في قراءة حراك التغيير سيعتبر سابقا لأوانه حتى تبلغ التجربة نهاياتها وتصبح ملامح النموذج الجديد محددة وقابلة للقياس، وهذا بالطبع لم يحصل حتى الآن.

لا مفر من الترقب والانتظار، ولا حاجة لاستعجال الأمور، لكن بدلا من طرح أحكام مسبقة على تجربة لم تستكمل بعد، سيكون من المجدي أن ينصرف من يعنيهم أو يهمهم أمر هذا التغيير للرصد والمتابعة، والتحليل والتقييم، بل وحتى التنظير، لأن تجربتنا كشعوب حديثة العهد في مثل هذا النوع من التغيير. وبالتالي فإن مساهمة الكتاب والباحثين والمحللين مطلوبة بل لا مفر منها في إغناء التجربة ورفدها، بما يكرس تطورها الطبيعي بأقل كلفة وأدنى تضحية باتجاه الأهداف المرسومة لها وتفادي انحرافها عنها، وللبحث صلة.

* نائب الرئيس العراقي

 

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1209 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع