التعلّق المرضي: الوجه الخفي للعلاقات غير المتوازنة

د. نزار گزالي

التعلّق المرضي: الوجه الخفي للعلاقات غير المتوازنة

دكتوراه في علم النفس – مدير مركز الاستشارات النفسية والاجتماعية في جامعة EPU

حين نبحث عن ذواتنا في الآخرين، فإننا غالبًا نكون أمام حالة نفسية أعمق مما نتصور. فالتعلّق، في معناه الأساسي، كما يشير إليه جون بولبي في نظريته الكلاسيكية عن التعلّق، هو حاجة إنسانية هدفها تحقيق الأمان وتنظيم المشاعر. لكنه قد يتحول إلى علاقة غير متوازنة حين يصبح وجود الآخر شرطًا أساسيًا للراحة النفسية والسعادة، وهي حالة تُعرف بالتعلّق المرضي (Bowlby, 1969).

في الحياة اليومية نسمع عبارات مثل: “حياتي متعلقة بوجوده”، أو “غيابه كارثة بالنسبة لي”. هذه ليست مشاعر حب عميقة كما يظن البعض، بل هي شكل من أشكال التعلّق القَلِق الذي وصفته ماري آينسورث في دراستها حول أنماط التعلّق، حيث يتشبث الفرد بالآخر خوفًا من الهجر أو الرفض (Ainsworth et al., 1978).

كلما انحرفت العلاقة عن مسارها الطبيعي من ارتباط صحي إلى ارتباط غير صحي، ظهرت اضطرابات نفسية وعاطفية قد تؤثر في جودة الحياة. وتختلف أسباب التعلّق المرضي من شخص إلى آخر، تبعًا للفروق الفردية والعمرية والتجارب الحياتية وطبيعة التنشئة الاجتماعية. وغالبًا ما تبدأ جذوره في مرحلة الطفولة، كما تؤكد الأدبيات العلمية، نتيجة الحرمان العاطفي، فقدان أحد الأشخاص المقربين، أو ضعف التقدير الذاتي. وهذه العوامل تُهيئ الفرد لتطوير أنماط تعلق غير آمنة تستمر إلى مرحلة البلوغ (Mikulincer & Shaver, 2016).

الأشخاص الذين يعانون من التعلّق المرضي يعيشون في دائرة الخوف — الخوف من الوحدة، الخوف من الفقد، الخوف من عدم القبول. وهذا الخوف لا يكون بدافع الحب الحقيقي، بل بدافع الحاجة الشديدة إلى الأمان النفسي.

ومن خلال خبرتي الإكلينيكية، لاحظت وجود علاقة واضحة بين التعلّق المرضي وبعض الاضطرابات النفسية والجسدية، فيما يسمى بالأمراض الجسد-نفسية. هذا يتوافق مع ما توصلت إليه دراسات عديدة، تؤكد أن أنماط التعلّق غير الآمن ترتبط بزيادة التوتر، واضطراب الجهاز الهضمي، والقولون العصبي، والارتجاع المريئي، بل وحتى الوسواس القهري (Maunder & Hunter, 2002; Doron & Goodman, 2014).

من بين الحالات التي عالجتها، امرأة في الثلاثين من عمرها كانت تقول:

“لو غاب عني أشعر أنني مخنوقة… ولا أستطيع أن أفرح أو أستمتع بالحياة.”
وبعد جلسات علاجية منتظمة، بدأت ترى حقيقة العلاقة التي كانت تمنحها حجمًا أكبر من الواقع، في حين كان الطرف المقابل يعيش علاقة سطحية. ومع الوقت، تعلمت كيف تخفف شدة التعلّق وتعيد توجيه طاقتها نحو ذاتها.

رحلة التحرر من التعلّق

التحرر لا يحدث بين ليلة وضحاها، لكنه يبدأ حين يقرر الفرد تغيير الصوت الداخلي المسيطر على أفكاره. يشبه الأمر معالجة مرض جسدي؛ فكما لا يُعالج التهاب الكلى بالمسكنات، كذلك لا يُعالج الألم النفسي بالذكريات أو بمحاولات التواصل غير الضرورية.

من الأخطاء الشائعة في هذه المرحلة:
• الاستماع إلى الأغاني الحزينة
• الاحتفاظ بأغراض تذكّر بالشخص المتعلق به
• محاولة العودة للتواصل
هذه السلوكيات لا تُشفى الجرح، بل تُعيد فتحه.

هذا هو السبب في أهمية الدعم النفسي المهني خلال هذه المرحلة، لتفادي الانتكاسة أو الأعراض الانسحابية العاطفية، ولتعلم كيفية بناء توازن داخلي جديد قائم على الذات، لا على الآخر.

التعلّق الصحي… والتعلّق المرضي

التعلّق الصحي يعزز العلاقة، لأنه يقوم على:
• التوازن بين الأخذ والعطاء
• احترام الحدود الشخصية
• القبول والتقدير

أما التعلّق المرضي فيقوم على الخوف، ويقود غالبًا إلى علاقة مرهقة وغير مستقرة.

لا تتردد في طلب العلاج والدعم النفسي. فالعلاج النفسي لا يعالج الألم فقط، بل يعيد بناء جودة الحياة كاملة. وكما أكرر دائمًا:

“الاعتراف بمعاناتنا النفسية ليس ضعفًا… بل هو أول خطوة في طريق القوة والتعافي.”

المراجع

Bowlby, John. Attachment and Loss: Vol. 1. Attachment. New York: Basic Books, 1969.

Ainsworth, Mary D. S., Mary C. Blehar, Everett Waters, and Sally Wall. Patterns of Attachment: A Psychological Study of the Strange Situation. Hillsdale, NJ: Erlbaum, 1978.

Mikulincer, Mario, and Phillip R. Shaver. Attachment in Adulthood: Structure, Dynamics, and Change. 2nd ed. New York: Guilford Press, 2016.

Doron, Guy, and Guy S. Goodman. “Obsessive Compulsive Disorder and Attachment: The Relationship Between ‘Fear of Abandonment’ and Obsessive Behaviors.” Journal of Anxiety Disorders 28, no. 3 (2014): 282–288.

Maunder, Robert G., and Jonathan J. Hunter. “Attachment Relationships as Determinants of Physical Health.” Journal of Psychosomatic Research 53, no. 4 (2002): 697–704.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1235 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع