"لقد جئتكم محرراً لا فاتحاً": العبارة التاريخية واستثمارها في الصراعات الفكرية والطائفية في العراق المعاصر

قلم باندان

"لقد جئتكم محرراً لا فاتحاً":العبارة التاريخية واستثمارها في الصراعات الفكرية والطائفية في العراق المعاصر

لقد تجاوزت عبارة الجنرال البريطاني مود، حين أعلن عند دخوله بغداد في مارس 1917، في كونها مجرد تصريح عابر لحظة تاريخية، لتصبح نموذجًا متكررًا في ممارسة الديمغواجية السياسية والاستراتيجيات الخداعية في الصراع على السلطة. إذ أن عبارة "لقد جئتكم محرراً لا فاتحاً" لم تكن مجرد كلمات لإقناع العراقيين بنوايا الاحتلال البريطاني الطيبة، بل كانت أداة تضليل منهجية لترسيخ مشروع سياسي عميق يهدف إلى الهيمنة وتغيير البنية الاجتماعية والثقافية للعراق.
إن ما يثير الانتباه هو أن هذه العبارة قد تحولت عبر الزمن إلى مبدأ استراتيجي في الحروب الفكرية والعقائدية والسياسية، حيث يمكن لأي قوة أو سلطة أو حركة سياسية أن تستخدمها لتبرير مشاريعها تحت ستار التحرير أو الإصلاح أو الحماية، بينما تكون الحقيقة على الأرض عكس ذلك تمامًا. وفي سياق العراق بعد الاحتلال الأمريكي، نجد أن هذا النمط قد استمر، وإن اختلفت الأسماء والأشكال، لكنه ظل يحتفظ بمفاعيله السياسية والفكرية والاجتماعية. فقد أصبح كل من تمكن من السيطرة على مقاليد الحكم يعتمد على هذا المبدأ لتبرير سيطرته ولتمرير مشروعه السياسي، والذي غالبًا ما يهدف إلى التغيير العقيدي والمذهبي والتحولات الديمغرافية والفكرية التي تعيد تشكيل هوية المجتمع وفق أهداف الاستحواذ والسيطرة.
ومن أبرز وسائل تنفيذ هذا المشروع، كانت المليشيات الطائفية، التي لعبت دورًا مركزيًا في ترجمة خطاب "التحرير لا الفتح" إلى واقع ملموس. فقد استُخدمت هذه المليشيات كأدوات تنفيذية لتقسيم المجتمع، وفرض السيطرة على المناطق، وتغيير التوازنات الديمغرافية بما يخدم الأجندات السياسية والعقائدية. فالخطاب التحريري الذي يبدأ بالكلمات الطيبة ويخفي النوايا الحقيقية، يتحول إلى غطاء لممارسة العنف وفرض السيطرة الفكرية والمذهبية، والمليشيات هنا تمثل اليد التنفيذية لهذه الاستراتيجية، حيث تعمل على ترسيخ الانقسامات، وفرض التحولات العقائدية، وتطبيق أجندات خارجية وداخلية بطريقة مباشرة على الأرض، بما يضمن استمرار المشروع طويل المدى لتغيير البنية المجتمعية والقيم والعقائد.
إن النظر إلى الأمر من منظور فلسفي سياسي يستدعي التأمل في آليات التضليل الديمغواجي وأثرها على الوعي الجمعي للمجتمع. فالخطاب الذي يبدأ بالتحرير وينتهي بالاحتواء، يعكس لعبة مزدوجة بين القوة والخداع، حيث يُستخدم الوعي الجمعي كأداة لتحقيق أهداف استراتيجية أكبر. وهذه الظاهرة ليست محصورة بالعراق وحده، لكنها تتضح فيه بشكل صارخ بسبب التاريخ الطويل من التدخلات الخارجية والصراعات الداخلية التي جعلت العبارة تتكرر في أشكالها المتعددة، مستثمرة في ضعف المؤسسات، والانقسامات المذهبية، والفراغ الفكري والسياسي، وتصبح بذلك أداة لإعادة هندسة المجتمع بطريقة خفية تحت ستار الشرعية والإنقاذ والتحرير.
ومن منظور نقدي، يمكن القول إن تكرار هذه العبارة يبرز صراع القيم والمبادئ، إذ يتحول خطاب التحرير إلى أداة لتفكيك البنية الاجتماعية وتغيير العقيدة والمذهب والمبادئ، مما يؤدي إلى تهشيم الهوية الوطنية وتجذير الانقسامات المجتمعية. وفي هذا السياق، يصبح الخطاب الرسمي والسياسي غالبًا مجرد غلاف لإخفاء الهدف الحقيقي، وهو الهيمنة والسيطرة والتغيير الجذري للبنية المجتمعية، وهو ما يمكن اعتباره جزءًا من مشروع أعمق يهدف إلى إعادة هندسة المجتمع العراقي وفق مصالح القوى المسيطرة.
إن مقارنة هذه الحالة بالحروب العقائدية والفكرية الأخرى عبر التاريخ تظهر لنا أن التضليل الاستراتيجي عبر الخطاب هو وسيلة متكررة لتسويق المشاريع السياسية الكبرى. سواء كان الاحتلال البريطاني في مطلع القرن العشرين، أو التدخل الأمريكي في بدايات القرن الحادي والعشرين، أو حتى الاستراتيجيات الداخلية لبعض القوى المحلية، فإن النمط ذاته يظهر: الوعود بالتحرير والتغيير الإيجابي، بينما الهدف الحقيقي هو الهيمنة، وإعادة ترتيب القيم والهويات والمبادئ.
وفي العراق، تجلى هذا بشكل جلي في التحولات الديمغرافية والفكرية التي رافقت الاحتلال الأمريكي، حيث ساعدت المليشيات الطائفية على إحداث تغييرات سريعة في ميزان القوى المجتمعية، وتعميق الانقسامات، وزرع ثقافة الخوف والتبعية، وفرض أجندات عقائدية واسعة ومؤثرة على المجتمع. وهكذا، صارت عبارة مود ليست مجرد ذكرى تاريخية، بل خريطة استراتيجية مستمرة تُطبَّق عبر أدوات حديثة، بخطاب معاصر لكن بنفس الهدف القديم: الهيمنة والسيطرة، وتغيير القيم والمبادئ والعقيدة على نحو جذري. كما أن استخدام المليشيات كأدوات عملية ساعد على ترسيخ مشروع التغيير العقائدي بطريقة متدرجة لكنها شاملة، بحيث يغطي كل مستويات المجتمع، من الفكر والتعليم والثقافة وصولًا إلى البنية الاجتماعية والمجتمعية نفسها.
إن تحليل هذه الظاهرة يستلزم التأكيد على أن الخطاب الزائف، المقرون بأدوات تنفيذية كالمليشيات، ليس مجرد سياسة آنية، بل جزء من استراتيجية طويلة المدى لتغيير المجتمع بشكل جذري. فالتحرير المعلن، وإن بدا مشروعًا انسانيًا أو إصلاحيًا، يتحول إلى آلية لتقسيم المجتمع وإعادة تشكيله وفق أجندة محددة، سواء كانت عقائدية، مذهبية، أو سياسية. وهذه الاستراتيجية المتجددة عبر الزمن تؤكد أن العبارة التاريخية لمود قد صارت مبدأ عمليًا في الصراع على السلطة، وأداة لتمرير مشاريع التغيير الاجتماعي والفكري والديمغرافي.
وفي الختام، يشير هذا إلى أن فهم آليات التضليل السياسي والفكري واستخدام أدوات التنفيذ مثل المليشيات الطائفية ليس ترفًا أكاديميًا، بل ضرورة لحماية المجتمع من الوقوع في فخ الخطاب نفسه. إن قراءة التاريخ ومقارنة الخطاب الرسمي بالواقع، ومعرفة كيفية استغلال هذه الأدوات لتنفيذ مشاريع تغيير عقائدي وديمغرافي، تمكّن من التمييز بين التحرير الحقيقي والتحرير الزائف، بين السلطة التي تخدم مصالح المجتمع وتلك التي تخدم أجندات خارجية أو مشاريع هيمنة داخلية. ومن هنا، يصبح الوعي النقدي والفلسفي أداة دفاعية أساسية لإعادة بناء المجتمع على أسس وطنية وقيمية سليمة، بدل أن يتحول إلى ساحة لصراع مصالح مدعوم بخطاب زائف، تحت غطاء العبارة الشهيرة: "لقد جئتكم محرراً لا فاتحاً". إن إدراك هذه الحقيقة ومواجهتها يتطلب تحليلًا مستمرًا ووعيًا جماعيًا، وفهمًا دقيقًا لكيفية استخدام القوة والخطاب لتحقيق أهداف طويلة المدى، مع التمييز بين ما يُقال وما يُنفَّذ على أرض الواقع.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

656 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع

تابعونا على الفيس بوك