
إبراهيم فاضل الناصري
حين تنطفئ القناديل القديمة:كلمة في انكسار البنية الاجتماعية بين الأمس واليوم
"كل مجتمع هو مرآة زمنه، وكل شرخ في روابطه هو انعكاس لتغيّر القيم التي صاغت هويته، وما بين الأمس واليوم تمتد مسافة تحمل دروسًا في القوة والضعف، في الوفاء والخيانة، وفي القدرة على الصمود أمام تيارات التغيير."
وقطعا ما عاد المشهد الاجتماعي اليوم يشبه ما كان عليه يوم كانت الأسرة الممتدة، والعشيرة المتماسكة، هما السور الحصين الذي تُشاد به الديار وتُصان به الحرمات، والميزان الذي تُوزن به الرجال، والظلّ الذي يفيء إليه الناس ساعة العسرة. ففي ظل التحولات العميقة التي جاءت بها العولمة الاجتماعية، والانفتاح الرقمي، والتداخل الثقافي العابر للحدود، تهاوت جدران كانت تُعدّ صلبة لا تُمسّ، وتعرضت المؤسسات الاجتماعية التقليدية، وفي مقدمتها العشيرة والأسرة، لانكسارات عنيفة لم تطَل ظاهرها فحسب، بل طعنت روحها ومكانتها ومعناها.
لقد أمطرت الحداثة المتسارعة الجاهزة المجتمع الذي يحتوينا بوابل من المتغيرات الأخلاقية والاجتماعية والسياسية، حتى أصبح يختبر صورته القديمة كل يوم، ويجد نفسه أمام تصدعات وتشوهات تتسع دون أن يعرف من أين بدأ الشرخ ولا إلى أين يمضي. فتبدلت القيم والأعراف والتقاليد، وضاعت البوصلة الأخلاقية، وترهّلت المرجعيات التي طالما كانت تحفظ للمجتمع إيقاعه الجمعي. وما كان يومًا من الثوابت، صار اليوم من المتغيرات، وما كان يُعدّ أساسًا صار تفصيلًا يخضع لحسابات ظرفية لا تمتّ إلى عمق القيم بصلة.
وما بين القيم الموروثة التي شكّلت وجدان المجتمع عبر قرون، وبين موجة الانفتاح الحضري الجارفة، نشأت فجوة واسعة، كأنها هوة لا يُرى قرارها. فالمجتمع الذي كان يرى في النسب والعشيرة ركائز للهوية والحماية والمعنى، بات يرى روابط تُختبر عند أول منعطف سياسي أو اجتماعي، فإذا بها تتهاوى في اللحظة التي يُفترض بها أن تتماسك.
ولعل أبرز ما يكشف حجم هذه التصدعات ما جرى مؤخرًا للمرشح الحاج علي ذياب الأحمد الأسعد العبد الحميد، وهو رجل ينتمي إلى واحدة من أعمق قبائل العراق أثرًا وأكثرها حضورًا، قبيلة البو ناصر، وإلى عشيرة البو عايد التي كانت يومًا مضرب المثل في النجدة وصون الجار والوقوف عند الشدائد. لقد خاض الرجل الانتخابات محمّلاً بإرث قبلي لا يخفى على أحد، لكنه خرج بخسارة لم تكن سياسية بقدر ما كانت خسارة في عمق الرابط الاجتماعي فالألف وثلاثمئة صوت التي نالها الحاج لم تأتِ على الاغلب من رحم العشيرة او القبيلة، بل أتت من الأصدقاء والمحبين والمؤازرين، وكأن رابطة الدم والحمولة غدت أقل حضورًا من رابطة المعرفة العابرة.
وهذه ليست حادثة انتخابية؛ إنها شاهد اجتماعي صارخ على أن القناديل القديمة قد خمد نورها، وأن الأعمدة التي حملت المجتمع لم تعد قادرة على أداء أدوارها نفسها.
ولكي نُقدّر حجم فقدان التماسك، لا بد من العودة إلى التاريخ المدوي لهذه القبيلة نفسها. فـ البو ناصر لم تكن قبيلة عابرة في سجل الفروسية العراقية، بل كانت قبيلة يُكتب تاريخها بوهج الشرف وفروسية الرجال ونبل المواقف. كان فرسانها إذا دعى الداعي نهضوا كالسيل، لا يستأخرون ساعة ولا يترددون عند نداء الأرض، وكانت نخوتهم تسبق كلماتهم، وغيرتهم تُعلّم الأجيال معنى الرجولة الحقّة. وفي العصر العثماني، يوم كانت البلاد مسرحًا لحملات وقوى متنازعة، ضربت القبيلة أروع الأمثلة في صورة التحدي لنصرة الشرف والدفاع عن الديار؛ فكم وقفت قبال عسف حملاتٍ جائرة، وكم ردّت ظلمًا وقع على القرى والضعفاء، وكم حفظت طرق المسافرين والتجار، وكم مدت ظلّها على الجوار حماية وصونًا. كان رجالها إذا تحركوا تحرك معهم العزّ كلّه، وإذا اصطفوا شدّوا الأرض من تحت أقدامهم تماسكًا.
ذلك التاريخ لم يكن مجرد ماضٍ جميل، بل كان روحًا تسري في العروق يومًا. أما اليوم، فها هو أحد أبناء القبيلة يقف وحيدًا في مفترق الطريق، كأن القبيلة التي كانت بالأمس توحد صفًا كاملاً عند أول نداء، لم تعد تجد في ذاتها القدرة على جمع بضع مئات عند لحظة اختبار.
إن ما جرى ليس جرحًا في كفّ رجل، بل جرح في جسد البنية الاجتماعية كلها. إنه سؤال مُوَجَّه إلى الوعي الجمعي: كيف انطفأت القناديل التي كانت تهدي الطريق؟ كيف تراجعنا حتى بات ظهر الرجل مكشوفًا في بيئة كان فيها الظهر أقوى من الرمح؟ أين ذهبت النخوة التي كانت تُقيم القيامة لأجل كلمة؟ وأين تلك العزوة التي كانت تُبنى بها القبائل وتُحفظ بها البلاد؟
إننا نعيش زمنًا يعيد اختبار كل شيء: هويتنا، روابطنا، معنى انتمائنا، وموقع الأسرة والعشيرة في حياتنا. ولسنا نطالب بعودة الماضي كما هو، فالماضي كله لا يصلح للحاضر، كما أن الحاضر كله لا يمكن أن يعيش بلا جذور. ما نحتاج إليه هو رؤية تعيد للأشياء معناها: أن نفهم أن الأسرة ليست بقايا زمن، وأن العشيرة ليست عبئًا على الحداثة، وأن القيم ليست نصوصًا تُتلى، بل روابط تُقام. فالمجتمع الذي يفقد تماسكه يصبح هشًا كالغبار، تتقاذفه الرياح من كل صوب. والمستقبل الذي يُبنى على التفكك لن يكون إلا امتدادًا لوهن أشدّ.
إنّ انطفاء القناديل القيمية القديمة ليس قضاءً مقدرا ومحتوماً، لكنه يصبح كذلك حين نعجز عن إشعال قناديل جديدة تحفظ الجوهر وتراعي العصر. وما لم نلتفت إلى هذا الشرخ، وما لم نُعد بناء ما تهدّم، فإننا سنقف قريبًا على أطلال أخرى لا تقوم بعدها حياة.

921 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع