حين علمتنا سارة

د.سعد العبيدي

حين علمتنا سارة

في صباحٍ دافئٍ من صباحات خريف البصرة، جلست ليلى، معلمة الصف الثالث المتوسط، خلف مكتبها الخشبيّ العتيق، تراقب فناء المدرسة يزدحم بخطى الطالبات وضحكاتهنّ. كانت تفكر في طريقةٍ تُعيد لعيونهنّ بريق الجدِّ والمنافسة، وفي خضمّ تأمّلها تلك الوجوه المشرقة بحلمٍ لم يتّضح بعد، كانت عيناها تستقرّ دائمًا على سارة. فتاةٌ هادئة الملامح، تمشي بخطواتٍ واثقة كأنها تُخفي فقرها تحت كبرياءٍ جميل. لا تشتكي، ولا تبرر غياب، ولا تُظهر ما تعانيه من ضيق ذات اليد. اعتادت التحدث بثقةٍ تُحرج المعلمة أحيانًا، وكأنها خُلقت لتُذكّر الآخرين أن الفقر امتحانٌ ينجح فيه من لم يفقد الإيمان بنفسه.
تأمّلت وجهها الهادئ، وقالت في سرّها: ما أعجب هذا الصمت يا صغيرتي...! أهو رضًا بما كتب الله، أم كبرياء من وُلدوا كبارًا؟ أعرف قصّتك. أعرف الأب الذي لم يعد من اختطافه، والأم التي تصحو قبل الفجر لتخبز للناس ما لا تملك أن تأكله.
تنهدت بصمت، ثم أغلقت دفتر الحضور ببطءٍ كمن يُغلق بابًا على فكرةٍ تتكوّن في رأسها.
راودتها رغبة خفيفة أن تشتري لـ سارة ما كانت بأمسّ الحاجة إليه "حذاءً مدرسيًا جديدًا يليق بخطاها الهادئة"، لكنها ما لبثت أن تراجعت، تعرف كبرياء في داخلها لا يسمح بقبول عطيةٍ مباشرة، ولا نظرة شفقةٍ عابرة. ابتسمت لنفسها، كمن اهتدى إلى مخرجٍ ذكي، وقالت في سرّها: هي أشطر بنات الصف... ولمَ لا أجعل الهدية جائزةً للتميّز؟ ستكون هي الأجدر بها حتما، فأعلنت أمام الصف:
-صاحبة الدرجة الأعلى ما بعد التسعين، ستفوز بجائزة حذاء مدرسي أنيق يلائم العمر.
مرّ الامتحان على غير العادة؛ ضحكاتٌ مكتومة وهمهماتٌ متوترة، وعيونٌ تلمعُ بشغف الفوز أكثر من الرهبة، وحين عادت إلى مكتبها لتصحّح الأوراق، وجدت نفسها تبتسم كلما قلبت ورقةً جديدة، فالإجابات نموذجية، وكأن بنات الصف بأسرهن عقدَن اتفاقًا سرّيًا على التفوّق.
جلست ليلى متحيّرة أمام الأوراق، وقد نلن أغلب الطالبات الدرجة الكاملة. ابتسمت وهي تفكر بطريقةٍ تحفظ عدلها وتشجعهن معًا، ثم قالت في نهاية الحصة: جميعكن تفوقتُنَّ، والهدية واحدة... فليحسمها الحظ.
كتبت الطالبات أسماءهن على أوراق صغيرة، وضعتها في كيسٍ أعدّته مسبقًا، حرّكته قليلًا، ثم مدّت يدها وسحبت الورقة الرابحة، راحت تفتحها ببطء، وفي صوتها شيء من الترقّبٍ:
-سارة.
ارتجّ الصفّ بالتصفيق، وركضت سارة نحو المعلمة، ووجهها يشعّ بفرحٍ لم تعرفه منذ زمن.
كانت تأتي كل يوم بحذاءٍ ممزّقٍ بالكاد يستر قدميها، وها هي الآن تنال حذاءً جديدًا، لا كثمنٍ لتفوّقها فحسب، وإنما كمكافأةٍ صامتةٍ لطول صبرها وإيمانها بأن الغد مهما طال، لا بد أن يبتسم.
بعد الظهر، عادت ليلى إلى بيتها مثقلةً بيومٍ صغيرٍ في أحداثه، كبيرٍ في أثره. ألقت الحقيبة على الكرسي، وجلست أمام الزوج، تحدّثه وعيناها ما تزالان عالقتين بذلك المشهد : تصفيق الطالبات، وابتسامة سارة التي لم تفارق ذاكرتها، كانت كلماتها تتقطع بين الدهشة والعاطفة، فقال لها مبتسمًا، وهو يراقب ارتباكها الجميل: يبدو أنكِ فرِحتِ بفوز سارة، فلمَ الحيرة يا ليلى؟
قالت بصوتٍ متهدّجٍ فيه ابتسامة ودمعة: لأنني حين فتحت الصندوق بعد الدرس، اكتشفت أن كل الأوراق تحمل اسمًا واحدًا... سارة.
ساد صمتٌ خفيف في الغرفة، قبل أن يقول الزوج، وكأنه يخاطب شيئًا أكبر من القصة: يبدو أن البنات في مدرستك أكثر نضجًا منا نحن الكبار.
ابتسمت ليلى وهي تحدّق في وجهه، وقالت بصوتٍ خافتٍ يشبه الدعاء: كم أتمنى لو نتجرّد من أهوائنا، ونمنح أصواتنا لمن يستحقّها فعلًا... نتعلّم من أطفالنا قبل أن تلوّثهم السياسة، ومن شعوبٍ لم تملك نفطًا، لكنها امتلكت ضميرًا، فحوّلت وجعها إلى وعي، وحلمها إلى وطنٍ يُبنى بالصدق لا بالوعود الكاذبة والشعارات.
***

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

661 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع