
د.سعد العبيدي
بلاد تدفن الأحياء على أٍقساط
في زقاقٍ ضيّقٍ من مدينة الشعب، تهيّئ لمياء الفطور لشقيقتيّها الصغيرتين قبل المضي بهما إلى المدرسة، تبتسم كي لا تريان ما يعتمل في صدرها من تعبٍ مكتوم، وتُخفي خلف تلك الابتسامة وجع الحاجة الذي يزداد كل صباح. وحين تعود إلى البيت الخالي، تدخل المطبخ، تجمع الصحون الفارغة كمن يلمّ ما تبقّى من نهارٍ لم يبدأ بعد، تفكر في الأشهر التي قضتها عاطلةً عن العمل بعد أن أُغلق مكتب الترجمة بسبب الإفلاس، وبالوعود التي قطعتها لمعارف تستدين منهم، ومالك البيت الذي يطالبها بالإيجار أو الإخلاء، وبفواتير الكهرباء المكدّسة على الطاولة كأحجارٍ فوق صدرها. كلُّ هذا، ومعه وعدٌ بالزواج، أذابته بصمتٍ يوم أدركت أن الحبَّ ترفٌ لا يليق بمن تحمل على كتفيها عبءَ المسؤولية منذ اختطاف والديها بانفجارٍ أعمى وهما في طريق العودة إلى البيت.
خمسُ سنواتٍ تمرّ على ذاك اليوم وعلى تخرّجها من قسم الترجمة، وخمسين طلبَ عملٍ لا تثمر إلا اعتذارًا جافًّا، أو شرطَ “الدفع المسبق” لآلاف الدولارات، لا تملك منها سوى الحلم. تمضي الأيام من أمامها كطابورٍ طويلٍ من الوجوه، تنتظر فيه دورها بلا نداء. وفي ظهيرةٍ خانقة، تراقب الغبار المتصاعد في الأرجاء، حين يرنُّ الهاتف. صوتُ "ميسم" على الطرف الآخر يحمل شيئًا من الأمل:
- لمياء، هناك إعلان جديد... شركةٌ تجاريةٌ كبيرة تطلب مترجمة براتب جيد.
تشهق بخفّةٍ، كمن يلتقط أنفاسه بعد غرقٍ طويل، وتسألها بلهفةٍ عن التفاصيل. تجيب ميسم بتروٍّ:
-لا أعرف سوى أنها شركةٌ يُقال مملوكة لرجلٍ من كبار هذا الزمان... ويديرها ابنه البكر.
تصمت لمياء لحظةً، ثم تقول، كمن يخشى أن يفلت من يده آخر خيطٍ للرجاء: سأجرّب حظي... لقد أنهكني الانتظار.
في الصباح، تستيقظ قبل الأذان بقليل، تتوضأ بماءٍ باردٍ، ثم تخطو نحو سجادة الصلاة، تحاول منها أن تستدرّ شيئًا من الطمأنينة. تُطيل السجود كأنها تثبّت جبهتها في الأرض كي لا تسقط من هشاشة الرجاء. وحين تنهض، تغسل وجهها مجددًا، تُصفّف شعرها على عجل، ترتدي فستانها الكحليّ، تُمسك شهادتها كما يُمسك غريقٌ بلوح نجاة، وتغادر البيت بخطًى حذرةٍ نحو المجهول، تاركةً الباب مواربًا لصوت الطفلتين النائمتين وهمستها الخافتة: ادعيا لي، هذه المرة كي لا أعود خائبة.
في الوقت المحدّد، تقف أمام بوابة الشركة الزجاجية، تدفعها بخجل، تستقبلها موظفةُ الاستعلامات حتى الجلوس في قاعةٍ يخيّم عليها صمتُ الترقّب بين خمس فتياتٍ يتبادلن نظراتٍ قلقة. وحين يُنادى اسمها تنهض بخطى مترددة وتدخل.
خلف المكتب الفخم يجلس شابٌّ أنيق، يقدّم نفسه بتعالٍ مصقولٍ بالمال، هو المدير التنفيذي. يتصفّح أوراقها ببرودٍ متعمّد، ثم يرمي سؤاله كمن يختبر شيئًا لا يعنيه: الحالة الاجتماعية؟
- أعيش مع أختيَّ الصغيرتين.
يهزّ رأسه مبتسمًا: عزّ الطلب.
تتجمّد ملامحها، فيتدارك بنبرةٍ مصطنعة: زلة لسان… ترجمتك ممتازة، وأنتِ الأولى، ومن يستحق الوظيفة.
تتنفس الصعداء، يلمع الأمل في عينيها، تهمس: الحمد لله… كنت بحاجة لهذا العمل.
يرفع نظره إليها أخيرًا، تتقاطع نظراتهما لحظةً واحدة تكفي لتكشِف طبقاتٍ من الخداع خلف بريق عينيه. يبتسم ابتسامةَ إغواءٍ ويقول بنبرةٍ هادئةٍ كأنها أمرٌ عابر: الوظيفة لكِ… بشرطٍ بسيط.
تتجمّد الكلمات في حلقها، تشعر بحرارةٍ تصعد إلى وجهها، وتهمس: ما هو؟
يميل إلى الخلف في مقعده الوثير، يشبك أصابعه، ثم يقول ببرودٍ لزجٍ لا يليق إلا بالوحل: ساعة واحدة تكونين فيها لي وحدي.
لحظةُ صمتٍ خانقة، لا يُسمع فيها سوى أزيز المكيّف، كأن الهواء نفسه يخجل من أن يتنفس. تحاول أن تضحك لتكذّب ما سمعت، لكن شيئًا في نبرته يخنق الضحكة في حنجرتها. تخفض رأسها، يختلط في داخلها الخوف بالذلّ والغضب، تتذكّر ملامح الطفلتين، الإيجار المتراكم، طوابير العاطلين، أحداث تشرين التي كادت تقتلها... ثم تنهض ببطء، تحمل أوراقها بيدٍ مرتجفة، وتغادر بخطى تتعثّر بين الكرامة والجوع، لا تلتفت خلفها.
الشارع مكتظٌّ بالسيارات، بالصور والدعايات الانتخابية، كأن المدينة تحتفل بخيبتها الجماعية. تفتّش بعينيّها عن وجه المدير، ووالده بين المرشحين فتشعر بالغثيان، كأنها تمشي فوق لافتاتٍ من الكذب. تمضي كمن يحمل جثّة كرامته بين ذراعيه. في الزاوية طفلٌ يبيع مناديل ورقية لعابرين مثخنين بالضجر، وسيدةٌ تبحث في القمامة عن بقايا خبزٍ، وشرطيٌّ يُقسم لمتجاوز على الرصيف أن الوطن بخير.
ترفع رأسها نحو السماء الرمادية وتهمس: نحن لا نعيش هنا... نحن نُدفن أحياءً وعلى أقساط.
تفتح الباب، فتندفع شقيقتاها نحوها كعصفورين خرجا لتوّهما من قفص الانتظار. تسألها هيفاء ولهفة الفرح تسبق صوتها: أبشّري! قبلوكِ؟
تنحني عليهما قليلًا، تمسح على شعرهما وتبتسم ابتسامةً كسيرةً كأنها تحاول أن تقنع نفسها قبل أن تقنعهما، ثم تقول بصوتٍ مبحوح: الدنيا لم تقبلنا بعد.
***

910 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع