
الدكتور رعد البيدر
بَينَ خَوف الدَهاشنَة و أكاذيب البَيت الأبيض
في سبعينيّات القرن الماضي شاهدتُ فيلماً مصريّاً بعنوان " شيءٌ من الخوف " تدورُ أحداثهِ في " الدَهاشنة " أحدى قُرى محافظة الشرقية بجهورية مصر العربية، كانت القرية تعيشُ تحت سطوة "عَتريس" الطاغية - الذي وَرَثَ القسوة عن جَدِهِ عتريس الأكبر، وفرضَ سُلطتهِ على أهل قريته بالخوف لا بالمحبّة، وبالإكراه لا بالاقتناع. أدعى عتريس بأنّه حامي القرية، بينما كان السبب الحقيقي لسطوته واستقوائه، هو أن يعيش مُطاعاً ومُترَفاً ومعه أفراد عصابته، حتى صار الخوف لغةً نظّمَت حياة أهل القرية بخضوعهم وصمتهم الجماعي.
بعد أكثر من ثلاثة عقود أتضَّحَ أن المشهد القرويّ في الدهاشنة هو انعكاساً لما حدث عالمياً. فقد كشفت دراسة أميركيّة بعنوان (حُجَجٌ واهية False Pretenses) نُشرها " مركز النزاهة العامة وصندوق الصحافة المستقلة " في 23 كانون الثاني / يناير 2008 أنّ الرئيس الأميركي جورج بوش الأبن ومساعديه في الإدارة الأمريكية - أدلوا بـ 935 تصريحاً كاذباً بين تاريخ الهجمات على أبراج التجارة العالمية في 11 أيلول / سبتمبر 2001 وتاريخ بدء العدوان الأميركي على العراق في 20 آذار / مارس 2003، لتهيئة الرأي العام وأقناعهِ بتقّبُل مُبّرِرات شَن حرب واسعة النطاق تستهدف تغيير نظام الحُكم العراقي.
أظهرت الدراسة أنّ الأكاذيب الأمريكية لم تكُن هفوات عابِرة، بل جزءاً من حملة مُنَظَّمة. وبيّنت أنّ بوش ومسؤولين كباراً - منهم " ديك تشيني، كوندوليزا رايس، ودونالد رامسفيلد " زعموا مِراراً أنّ العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، أو يسعى لامتلاكها، وأنّ له صلات بتنظيم القاعدة، وتبين لاحقاً أنّ ما روَّجَ لهُ من ادعاءات لم يكُن إلا مغالطات مدروسَة لافتِعال حرب انتقامية.
وفي أعقاب احتلال بغداد تَعَّرَت الأكاذيب الغربية، فلم يُعثَر على أيّ أثر للأسلحة المزعومة، وتبيّن أنّ ما بُني عليه قرار الحرب الأمريكي – البريطاني على العراق، كان وَهماً يفوقُ في خطورته ممارسات عتريس وعصابته بفرض الخوف على أفراد قرية الدَهاشنة. في حين مارَسَ ( بوش و بلير) نفس الظلم بحجم أوسع ، وعلى دولٍ وليس افراد، مستخدمين مغالطات محكمة وشعارات رنّانة عن الحُرّيَة والديمقراطية والأمن الدولي.
لم تتوقف الخُدعة عند احتلال العراق؛ فقد استبدلت واشنطن خطابها من " الخطر العراقي " إلى " نشر الديمقراطية"... ثم إلى " الحرب على الإرهاب " في انتقال لغوي يُخفي المعنى ذاته: الهيمنة عِبرَ الخوف. ولم يكن ذلك طارئاً على السياسة الأميركية، بل تطبيقاً لسلوك قديم انتهجته الإدارات المتعاقبة في التعامل مع قضايا العالم، حيث يُعاد تدوير الخوف مع تغليفهِ بشعارات بَّراقة لتبرير التدّخُل وفرض الإرادة بالقوة.
رَبطاً بين مخاوف الدهاشنة من تجبُّر عَتريس، وشيءٍ من أكاذيب بوش وإدارته وشريكهم بلير، يتّضح أنّ الأوّل مارَسَ الظلم مكشوفاً بالسلاح الشخصي على بسطاء القرية، بينما الطرف الثاني مارس الظلم بلغة ناعمة وشعارات مُضلّلة وعلى مستوى دول بأكملها، واستخدم لاحقاً اسلحة منها ما هو محرم دولياً. مما يعني أن كلاهما جعل الخوف وسيلةً للهيمنة والطاعة، وإن اختلفت الأدوات والمستويات.
الختام يُلزمني أن أطرحَ سؤالاً: إذا كانت تلكَ الأكاذيب قد وثّقَت عن سنتين قبل احتلال العراق، فمن يُرشِدُني على جِهَةٍ أحصَت الأكاذيب الأميركية في أكثر من 22 سنة، بعدَ احتلال العراق؟

836 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع