عائشة سلطان
احتفاء بالحياة العادية
في عالم فرضت فيه السوشال ميديا شروطها وبصمتها وأعرافها، حتى صارت قيمة الحدث وعمق اللحظة ودلالة المناسبة وحتى الأحداث الوجودية كالميلاد والموت، والمرض والحب والصداقة، وكأنها لا وجود لها، أو لم تحدث ما لم توثقها الكاميرا وتظهر على صفحات ومواقع السوشال ميديا.
وفي هذا الواقع صار الوجود لا يقاس بالأهمية والعمق والأثر، ولكن بعدد الإعجابات، والتداول والانتشار، هكذا يعيش الكثيرون أيامهم، ويحسبون إنجازاتهم: كم إعجاباً حققنا؟ وكم مرة تحولنا إلى «ترند»؟
وسط هذا العالم البعيد عن إنسانيته وعاديته، يصبح التوقف عند فنجان قهوة في الصباح نوعاً من العودة للبساطة التي كنا نمارس بها أيامنا، وقد كنا نحبها، ونعلي بها ومن خلالها شؤوننا الخاصة والصغيرة دون أي هوس بانتصارات يتردد صداها في كل مكان عبر غرباء حول العالم، يعبرون لنا عن مشاعرهم بالأزرار والإشارات والرموز ولا شيء آخر نعرفه عنهم!
لكنك حين تعلي من شأن لحظاتك البسيطة والعادية، فإنك تعيد العالم إلى حجمه الحقيقي، وتضع نفسك في مركز التجربة الإنسانية، لا في واجهة العرض، فتمشي في شوارع معتادة كأنك تطأها للمرة الأولى، وتلمس أحجار الجدران، وتتأمل العناكب في الشقوق، ورائحة المطر على خشب الأبواب البالية، وحين تجلس في مقهى صغير تفرح روحك، وأن تتأمل مفرش الطاولة التقليدي وخشب الطاولة العتيق وكأنك تكتشف سر الخلق في هذا المكان الصغير.
الاحتفاء بالتفاصيل العادية ومحبتها هو نوع من مقاومة الفراغ السخيف الذي تخلقه البهرجة التي تملأ السوشال ميديا، وهو عودة حقيقية للجوهر، فالعادي والبعيد عن الفرجة ليس تافهاً كما نتصور، إنه الوجه الصادق للوجود، والنسخة القديمة من شخصياتنا في تلك الأيام التي لم نصبح فيها منصات وواجهات للفرجة، ألا تشتاقون لتلك النسخة الصادقة منكم قبل مرحلة الشهرة المقيتة؟ إن تمكنا من العودة للحياة بهذا السلام البعيد عن الإنجازات المزيفة، فإن هذا هو الإنجاز، وهو يعني أننا فهمنا الدرس، والدرس هو أن الجمال لا يُصنع من إنجازات شاهقة، بل من لحظات مطمئنة وهادئة وبلا ضوضاء.
1054 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع