د.سعد العبيدي
وداع جاك بين حزننا وبهجتهم
في مدينة نيوكاسل المترامية على ساحل الشمال الإنجليزي، عاش جاك؛ شابٌّ مرح، يملأ الأمسيات ضحكًا وخفّة، لا يُلقي بالًا لما حوله، حتى لمرض السكري الذي تسلّل إلى جسده بصمت. ظلّ يعامله بلا مبالاة حتى أسقطه، فرحل قبل أسبوعين.
رتّبت العائلة كلّ شيء بهدوء، وحدِّد موعد الوداع في الثالثة من عصر الإثنين، منتصف آب في مقبرة (Whitley Bay) المطلة على بحر الشمال. وبينما يدفعنا الوفاء بعلاقتنا مع هذه العائلة إلى الحضور، كان الفضول كذلك يرافقنا للتعرّف على طقوس توديع المجتمعات الأخرى موتاهم.
سألنا شقيقته جاك الكبرى قبل المجيء عن شكل اللباس في هذه المناسبة الحزينة، فقالت ببساطة: "كلٌّ يلبس ما يشاء". وعند الوصول في الوقت المحدد، بعد قيادةٍ للسيارة عدة ساعات، كان المشهد يضم أكثر من ستين رجلًا وامرأة من مختلف الأعمار، يرتدي بعضهم ألوانًا زاهية، كأنهم قادمون إلى حفل عرس لا إلى وداع ميت.
في الوقت المحدد بدأ دخول الكنيسة وسط المقبرة، والنعش محمول من أربعة أصدقاء، على وقع موسيقى أغنية (Highway to Hell) "الطريق السريع إلى الجحيم".
طلبت سيدة هي القس الوقوف للصلاة، ثم الترتيل بكلمات قصيرة. التفتت بابتسامة خفيفة منوهة الى أن الأغنية ليست هي ما يسمع في مثل هكذا مواقف، لكنها جاءت نزولا عند رغبة جاك وأصدقائه الذين تعاهدوا وهم مراهقون أن يودعوا أول الراحلين منهم على أنغامها، فضحكت وانفجر الحضور بالضحك.، إلا نحن، العائلة المسلمة الوحيدة، فقد كنّا مسكونين بجلال الموقف، غير قادرين على مجاراة هذا المزاج المبهج.
تحدثت شقيقته بعد ذلك عن مقالبه منذ الصغر، فأضحكت الجمع مجددًا، ثم سار في كلمته أقرب الأصدقاء على النهج نفسه. عادت القس للصلاة، والحاضرون يردّدون من بعدها، قبل أن تُسدل ستارة بين النعش والحاضرين، إيذانًا بانتهاء المراسم، والخروج أيضًا على أنغام الموسيقى.
سألنا عن سرّ الضحك، فقالوا إن الجنازة عندهم امتداد لشخصية المتوفى، وإن جاك كان مرحًا يكره الحزن، فاختاروا أن يودعوه بما يحب. أمّا الدفن، فقد أوضحوا أن جثمانه أُرسل للحرق، تنفيذًا لرغبته التي كرّرها في حياته على الرغم من أن العائلة لا تؤمن بذلك، وسيستلمون الرماد في قنينة لذره في البحر.
لم تنتهِ المراسم بعد؛ فقد أشارت شقيقته إلى حانة قريبة لختام الوداع، خُصص ركن منها لصور جاك منذ طفولته حتى آخر أيامه، يمرّ المعزون من أمامها كما لو كانوا يسيرون في دروب عمره الأربعين. توجّه أغلبهم لطلب المشروبات، ثم جلسوا مجموعات يتحدثون ويضحكون، وكأن الأقداح أمامهم تدفع الحزن بعيدًا خطوة بعد خطوة.
على طاولتنا، سألت إحدى السيدات عن عاداتنا نحن العراقيين في مثل هذه المواقف، فأجبنا بأننا نحتضن الحزن ثلاثة أيام بعد الدفن، ثم نعيد الاستذكار بعد أربعين يومًا، وفي كل خميس منها ننصب عزاء ونجدد الذكرى، وقد يطول الأثر في النفوس سنين. فردّت مبتسمة: "نحن، عن أنفسنا — وقد نختلف عن غيرنا — نكسر الحزن بالبهجة حتى يزول". وأتبعتها شقيقته، وهي ترفع نخب أخيها الذي تحب: "الحالتان، بالمحصلة، تصنعان سلامًا للنفس… لكن بطريقتين مختلفتين".
وهكذا، وأثناء آخر خطوة من مراسم العزاء، أخذ الأب والأم الجميع بالأحضان. وأثناءها، جال العقل بمسألة ضحكهم وبكائنا الصامت، فشعرنا وكأن الموت كان يجلس بيننا، يصغي لما يقال، ويتأمل هذا التباين بين من يودّع بالدموع ومن يودّع بالضحكات، كأنه يهمس في سرّه: "الطريق مختلف، لكن النهاية واحدة".
1475 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع