القبلية السياسية والهزيمة الاجتماعية

د يسر الغريسي حجازي
دكتوراه في الفلسفة وعلم النفس الاجتماعي
مستشارة نفسية ومدربة نظامية
22.08.2025

القبلية السياسية والهزيمة الاجتماعية

هل نشهد اليوم عودةً للقبلية السياسية عالميا؟ السؤال هو: هل تُعدّ القيادة العالمية الحالية، بخصائصها الاجتماعية وطابعها المعاصر، ديناميكيةً تُجسّد التنظيمات الاجتماعية البدائية؟
ما يتضح هو اننا نتعامل مع قبلية سياسية ذات هوية عرقية عنصرية، وميلٍ خطير نحو تحالفات سياسية توافقية، لها عواقب تمييزية تتعارض مع المصلحة العامة والقيم الديمقراطية. غالبًا ما ترتبط سياقات الانتماء هذه، المعروفة بتحالفات الانتماء، بالعداء والسلطة القبلية المطلقة. وما نشاهده اليوم، هو استخدام صفقات مالية شيطانية كاستراتيجية سياسية لحشد دعم القيادات المرغوب فيها من اللوبي الرأس مالي. ومن اجل الحفاظ على حوار مستمر مع المجتمعات التي تتشارك الهوية القبلية، يتم بناء ودعم قاعدة مأجورة لتشجيع المجتمعات المحلية على التصويت، ليكونوا جزءًا من القرار المنظم. ويتم ذلك من خلال مراكز الاقتراع. في المقابل، يُكافأ قادة المجتمع بالمشاركة في السلطة والحصول على امتيازات كبيرة مثل: سهولة الفوز بالمناقصات، والوظائف، والمناصب، وغالبية المقاعد في البلديات، والمحاكم، والنقابات، والخدمات الاجتماعية، إلخ. هذا النهج القبلي يضمن نظام الاستقطاب. وهكذا يبدا نتاج التابعيين والموالين الي اسيادهم. وتكبر رقعة الفساد لتصبح ثقافة الشعوب، مثل القول الشهير: "الناس على دين ملوكها".
ويستخدم لوصف تأثير الحكام والملوك على سلوك شعوبهم. حيث يميل الناس إلى التأثر بأخلاق وسياسات من يتولون أمورهم وقيادتهم.
ويتم التصديق بان العالم غير منصف، وحتى تتحصل على مبتغاك يجب عليك ان ترضخ للقبلية وان تكون جزءا منها حتى لو أنك ابتعدت عن قيمك واخلاقك الحميدة. انها سياسة العصابات والسلطة الابوية، التي تجتاح عقول الناس لغاية ان تصبح ثقافة سائدة في مجتمعات منهزمة. الا ان القبلية السياسية لها عواقب وخيمة على الاستقرار السياسي والاجتماعي. لان سياسة التمييز بين فئات الشعب يعني هو التسبب في إقصاء الفئات المهمشة، وزيادة الفقر والانقسام الاجتماعي، فضلًا عن التوترات في المؤسسات الاجتماعية والحكومية. جميع المواطنين الذين لا ينتمون إلى القبيلة السياسية والمهيمنة، سوف يعانون من عدم الوصول إلى الموارد والفرص، بل وحتى في الوصول إلى العدالة. فبمجرد وجود تفاوتات وفوارق كبيرة في المجتمع، تظهر الانقسامات الاجتماعية، والتعصب، والشعور بالظلم، والغضب والاغتراب. ومع الصراعات بين المجتمعات، يظهر تفكك النسيج الاجتماعي وعلى سبيل المثال: عندما لا يتمكن أبناء الأسر الفقيرة من الحصول على مقعد عمل حتى لو كانوا مؤهلين، يحصل أبناء الآخرون الغير مؤهلين على وظائف. وهذا بسبب ان آباءهم يشغلون مناصب سياسية رفيعة. كما تساهم عدم المساواة في الشعور بالإقصاء، وقد يؤدي إلى التوترات والعنف يمكن أن يُقوّض هذا الاستقرار السياسي، ويُثير الشك، ويُضعف ثقة المجتمعات المحرومة بالمؤسسات والممثلين السياسيين.
إضافةً إلى ذلك، تُشكّل هذه التفاوتات عقباتٍ أمام التنمية الاقتصادية، وتحدّ من الإمكانات البشرية وتُقلّل الإنتاجية والتقدم التكنولوجي، والحصول علي جودة الحياة.
كما يُساهم التهميش الاجتماعي في زيادة الفقر، والإقصاء من المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. علاوةً على ذلك، يُولّد عدم المساواة الإحباط والغضب بين المجتمعات المحرومة، بالإضافة إلى الأمراض النفسية، وفقدان الثقة بالسلطة والتشكيك في مصداقية القادة. تُنشئ السياسة القبلية دائمًا بيئةً صراعيةً سامة، إذ تُعزز المحسوبية، أو المحاباة للأقارب، وقد تُشعل فتيل الصراعات في المجالات الأسرية، والمجتمعية، والسياسية، والقانونية، والمهنية. كما أنها قد تُضعف الحافز والإنتاجية، وتُصعّب حياة المواطنين وتُعوقهم. وقد تُؤدي المحسوبية إلى تعيين أشخاص غير مؤهلين في مناصب مهمة، لمجرد صلاتهم العائلية، مما قد يُخلف عواقب سلبية وضارة على الإدارة الاقتصادية والاجتماعية. والمحسوبية هنا تعني الفساد، لأن المحاباة، سواءً في السياسة أو العمل أو في السياق الأسري، يتسبب في تشوهات عديدة. فالمحسوبية تخلق مناخًا من انعدام الثقة، والشك وتثبيط الهمم، لدرجة انها تساهم في هزل ثقة النظام السياسي.
علي سبيل المثال، تشهد الولايات المتحدة سياسة قبلية، واستقطابًا سياسيًا حادًا. كما ان وضع المهاجرين في الولايات المتحدة في عهد الرئيس ترامب، تتمحور بالتهميش والإقصاء. ويساهم هذا التعرض للمحنة الاجتماعية في "الهزيمة الاجتماعية" والشعور بالعجز لدى ضحايا التمييز العنصري في مواجهة التحديات العلائقية. علاوة على ذلك، يبدو ترامب قائدًا ذا تطلعات وتقاليد قبلية نموذجية. انه يتحدث بلغة قاسية مثل الشرير الذي يريد معاقبة كل من لا يشارك أفكاره، اومن وصول مهاجرة. ترامب يريد ترسيخ هويته وانتمائه العرقي، وقيادة البلاد وفقًا للمعايير والصور النمطية التي يتشاركها مؤيديه.
وفي الانتخابات الاخيرة، قدّم ترامب نفسه على أنه المنقذ وهو من سيقود الولايات المتحدة نحو مستقبل أفضل، وانتقد بشدة السياسات السابقة. ان سلطته الأبوية ونزعته الإقليمية لا حدود لهما، لكنهما كشفتا عن شخصية تتمتع بجنون العظمة، والنرجسية والاستبدادية. تعكس سياسة ترامب استقطابًا سياسيًا حادًا، وانقسامات سياسية عميقة. وبينما يتزايد التحدي لإجراء حوار وطني ودولي بنّاء، يُشكل أسلوب ترامب تهديدًا خطيرًا للاستقرار الجيوسياسي الإقليمي والعالمي للولايات المتحدة.
كما تشير القبلية السياسية إلى الانتماء والولاء القوي، الذي يشعر به الأفراد تجاه حزبهم أو مجموعاتهم السياسية، مما يؤدي غالبًا إلى زيادة التعصب وصعوبة الحوار البنّاء.

وقد تتجلى هذه الظاهرة في عقلية "نحن ضدهم" او بلغة التمييز بين المجموعات "هذا لنا"، و"هذا ليس منا" حيث تُرفض وجهات النظر المتعارضة، مما يعيق القدرة على إيجاد أرضية مشتركة وامكانية التسوية. تشير المحسوبية في السياسة القبلية في الشرق الأوسط، إلى القيادة الأبوية التي تخلق الثقافة الذكورية والخلاف في الأسرة، وهيمنة الذكور على الإناث، وإساءة استخدام السلطة، والقسوة بين الأشقاء، والقوالب النمطية التي يمكن أن تخلق التوتر والتنافس بين الأبناء.
لهذه التقاليد تأثيرٌ ضارٌ على الصحة النفسية للمجموعات، التي تشعر بالاستبعاد الجائر عن طموحاتهم. وتشير الأبحاث العلمية إلى دورٍ رئيسيٍّ للبيئة، في إثارة الاضطرابات النفسية مثل الفصام واضطراباته الوهمية. فهي تشكل ناقوس الخطر على الصحة النفسية والاجتماعية: كالصدمات، والتمييز المرتبط بالأقليات (مجلة الانسيفال. 2021.المجلد 47، العدد 3، الصفحات 238-245). غالبًا ما يرتبط اغتراب الناس بالفصام، وهو مرض نفسي قد يؤدي إلى فقدان الاتصال بالواقع، والشعور بالعزلة، وتغير في إدراك الذات والعالم المحيط، والهوية، والعلاقات الاجتماعية. لقد التقيتُ شخصيًا بالعديد من المحرومين، الذين يعتقدون أنهم غير محظوظين، وأن الحظ حليف من يحقق طموحاته.
لقد تعلّم هؤلاء الناس منذ طفولتهم الصورة النمطية للأبناء التعساء، وأن عليهم تقبّل مصيرهم. من الصعب عليهم جدًا بناء مستقبلهم والهروب من هذه الكرة النارية، التي لا تزال تُثير الفزع والقلق بين الطبقات الضعيفة. كلما ازداد الفساد، ازداد الفقر والتفاوت والدمار، وهو ما يصعب السيطرة عليه.
اما فقدان الاتصال بالواقع، هو عدم قبول الواقع والاختفاء في الارباك والانفصال. وذلك قد يؤثر على الصحة النفسية، ويزيد من خطر الاصابة بالاكتئاب واضطرابات القلق. كما ان معاناة سياسة التهميش تتسبب في ضعف الثقة بالنفس، نتيجةً لغياب الرضا عن الذات. كما تُعدّ البيئة عاملًا أساسيًا في ظهور اضطرابات نفسية كالفصام، نظرًا لمخاطرها النفسية والاجتماعية. ويعود ذلك إلى التوتر واليأس الناتج عن عدم القدرة على تحقيق الذات، رغم امتلاك المرء جميع الموارد اللازمة لتحقيق أهدافه. ومفهومٌ الهزيمة الاجتماعية، هي تعرض الفئات الأكثر ضعفًا لعوامل بيئية ونفسية واجتماعية خطيرة، بسبب هيمنة وقيود السلطة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

904 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع