موفق الخطّاب
تحت المجهر((عدالة السماء))
للأسف الشديد، ما يزال ميزان القضاء غيرَ مستقرٍّ إلى يومنا هذا في أرجاء المعمورة، إذ يتأرجح دومًا بين الحق والباطل، وقليلًا ما يميل ذلك الميزان إلى الحق وأهله، منذ بدء الخليقة الأولى حين قتل قابيل أخاه هابيل ليفلت من عقاب أبيه آدم، بعد أن قدّم له حجته الواهية عن سوء فعلته، كما قصّها علينا القرآن الكريم في محكم التنزيل.
فكثيرا يميل ذلك الميزان إلى جانب القتلة والفاسدين والعملاء والخونة، حين يضعف القضاء ويُوسَّد الأمر إلى غير أهله، ولا سيّما عندما يتسلّط على رقاب الناس طغاةٌ وحكومات تُنصَّب من أعداء الأمّة من الخونة و العملاء والفاسدين، فينسحب ذلك على رجال القضاء الذين يُنتقَون بعناية ليُضفوا اليهم الشرعية باستفتاءات وانتخابات شكلية، وأخرى بنتائج مزوَّرة معدّة مسبقًا، ثم ليسايروا ويداهنوا بل وينافقوا بعد ذلك الحُكّام في ديمومة حكمهم.
وللأسف، فإنّ من القضاة من يقبل بهذا الدور المشين طائعًا متزاحمًا، وهو منشرح الصدر من أجل منصب أو متاع زائل، ومنهم من يتقبله على مضض حفاظًا على رزقهم ورقابهم ، ومنهم من يعتزل القضاء كيلا يلوّث سمعته ويكون شاهد زور على حقبة سوداء، لينجو بجلده.
بل إنّ بعضًا من أولئك القضاة والمستشارين الذين ارتضوا لأنفسهم هذا الدور المهين، هم سبب في استدامة حكم الطغاة، إذ يعدون و يجيرون لهم الدساتير ويعدّلونها لتتطابق مع نهجهم المعوج، ويلْوون عنق النصوص عند الحاجة لتلبية رغباتهم، وليبقى القتلة والفاسدون والمقرّبون منهم وبطانتهم في سدّة الحكم، حتى وإن ارتكبوا أبشع الجرائم بحقّ من يعترض على فسادهم بحجّة "معارضة النظام" أو "تهديد السلم المجتمعي"، فتكون التهم جاهزة لإبقاء المجرمين والفاسدين طلقاء يعيثون في الأرض فسادًا تحت غطاء قضاء فاسد وعناوين برّاقة واعلام مضلل.
وهذا هو السبب الرئيس لما تعانيه الشعوب من مآسٍ ونكد في العيش، وسوء في توزيع الثروات، وانتشار البطالة والفقر والجهل ، والتفكك الأسري، والرذيلة، والمخدرات، والسلاح المنفلت وعودة الحكم العشائري والفصل وغياب القانون وما يتبعه من الهجرة، واللجوء، وترك الأوطان.
وقليل ما يميل ذلك الميزان إلى جانب الحق، فينصف الأبرياء، خاصةً حين يكون القضاء مستقلاً في ظل أنظمة تفصل بين السلطات فصلًا حقيقيًا لا ادّعاءً. عندها يضيق الخناق على شهود الزور، والدعاوى الكيدية، ومضابط التحقيق الصورية، وما يجري خلف الكواليس والمخبر السري، فكل تلك الانحرافات والانتهاكات ستنزوي أمام قوة القضاء القوي واستقلاله، وينضبط أداء الجميع ، ويرتدع العابثون، حين يكون لرجال القضاء دور فاعل في استقرار المجتمع، ليعيش الجميع مطمئنين على حياتهم ومصالحهم.
دعونا –سادتي– نطوف بكم اليوم حول أبشع جريمة أو حالة "انتحار" كما وصفها القضاء العراقي، والتي وقعت في البصرة الفيحاء، فهزّت الشارع العراقي والعربي، وما تزال تتفاعل آخذة بالاتساع.
فلنتوقف أولًا عند دوائر التحقيق والأدلة الجنائية والطب العدلي والشهود: هل أدّوا حقًا دورهم بمهنية تامة بعيدًا عن الضغوط الخارجية؟ خصوصًا مع وجود لغط كبير حول كيفية وقوع "الانتحار"!
علمًا أنّ الشارع البصري –بل العراقي– ما يزال يغلي ويتفاعل مع هذه الحادثة الأليمة، وهو غير مقتنع إطلاقًا برواية الانتحار، إذ تُتداول شبهات حول أطراف بعينها!
ورغم أنني أكنّ كامل الاحترام للقضاء العراقي، لأنه نظر فيما قُدِّم إليه من أوراق وأدلة وشهود، وأصدر حكمه بتقييد الوفاة "انتحارًا" لا "جناية"، فإنّ غلق القضية بهذه السرعة كان متعجّلًا.
وكان الأجدر به أن يبقى الملف –الذي تكتنفه الشبهات– مفتوحًا لاستقبال المستجدات والطعون، لا أن يُغلق على عجل ودم الضحية ما يزال حارًّا، لتتحول القضية إلى رأي عام داخلي ودولي.
ومن المؤسف حقًا أن تُستغل هذه الفاجعة، وسواها من الحوادث المشابهة التي تقع يوميًا في العراق المنكوب، لهتك أسرار الناس وخصوصياتهم، بل والطعن في أعراضهم، من قبل سياسيين مهزوزين، وبعضا من مرشحين الباحثين عن الشهرة وجذب الناخبين ، وبعض مواقع التواصل الاجتماعي والناشرين وضعاف النفوس، ليتاجروا بها بلا ذمّة ولا حياء ولا مروءة.
وأخيرًا، إن ذهب البعض إلى فرضية أنّ الواقعة جناية وقتل عمد، رغم دهاء القاتل في إخفاء الأدلة، فإنه مهما تحوّط وتستّر، ستبقى "عدالة السماء" حاضرة، ولن يفلت من العقاب.
ويذكّرني هذا بكتاب قيّم أنصح بقراءته، ألّفه الراحل اللواء محمود شيت خطاب، وعنوانه: عدالة السماء، قد أورد فيه قصصًا عدة لجرائم قتل وقعت في منتصف القرن الماضي، وهي قد خفيت عن القضاء، لكنّ الله تعالى فضح المجرمين على رؤوس الأشهاد، فتدخلت عندها "عدالة السماء" وانتقمت منهم شر انتقام.
وقد قال أجدادنا رحمهم الله: «بشّر القاتل بالقتل ولو بعد حين».
نسأل الله للفقيدة المغفرة والرحمة، ولذويها الصبر والسلوان على هذه الفاجعة الأليمة
931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع