رحلة في أزقة الزمن

د.سعد العبيدي

رحلة في أزقة الزمن

لم نعتد السفر بسيارة كرفان، فقد بقيت الفكرة أسيرة الأمنيات المؤجَّلة منذ سنين، حتى أطلّ صباح أحدٍ مشمس حار، يحسب نادراً في بريطانيا، صار بطاقة دعوة لتحقيق الحلم، مقرونةً بواجب تعزية اجتماعي يقود الى الشمال الاسكتلندي.
كانت الشمس تفرش الطريق بخيوط ذهبية تنحدر فوق أسطح الحقول الخضراء الممتدة بلا نهاية. أسيجة من الشجيرات تضم المراعي، وأبقار وخراف متناثرة كأنها نقاط حبر سوداء وبيضاء على صفحة منسوجة بالأخضر، فيما تعبق رائحة العشب الطازج في الهواء، مكتملةً بذلك لوحة ربيعية باذخة.
ومع الاقتراب من ستامفورد، راحت حجارتها الرمادية تلوح في الأفق، كحارس عجوز يفتح ذراعيه للقادمين إليها، مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها اليوم بضعة وعشرين ألفًا، أقدم بكثير من حجمها، إذ كانت في العصور الوسطى قلبًا نابضًا لتجارة الصوف والحياكة، ترسل أقمشتها الفاخرة إلى أسواق أوروبا والعالم. وفي القرن السابع عشر تحولت إلى عقدة مواصلات للعربات البريدية، فازدادت حيويتها وثراؤها.
شوارعها الضيقة المرصوفة بالحجر ما زالت تحتفظ بوقع الخطى التي مرّت عليها قرونًا، والمباني الجورجية تقف كصفحات مفتوحة من كتاب معماري عريق.
كنائسها ليست جدرانًا صماء، بل ذاكرة تشهد على زمان كانت فيه نابضة؛ فكنيسة "جميع القديسين" ببرجها المهيب تراقب الساحة منذ القرن الثالث عشر، ونوافذها الملوّنة تسرد قصص الإيمان والحروب والأوبئة. وعلى مقربة، ترتفع كنيسة "سانت ماري" بعمارتها القوطية وبرجها الحاد، يلمع تحت الشمس كإصبع يشير نحو الخلود، ويشهد على التغير بعد أن تحول الدخول إليها من الصلاة إلى التمتع بالعمارة والزخرفة ونضارة القدم لقاء ثمن.
مدينة مترفة نجت في القرن التاسع عشر من طوفان التصنيع الذي مسخ ملامح كثير من المدن البريطانية، فبقيت واجهات أبنيتها كما هي، لتكون من أوائل المدن التي أعلنتها وزارة البيئة "منطقة ذات أهمية معمارية وتاريخية خاصة". هذا الحفظ الدقيق لجمال التراث جعلها أشبه بإستوديو سينمائي مفتوح؛ مرّت على أدراجه كاميرات أفلام شهيرة مثل "كبرياء وتحامل" (2005) التي حولت شوارعها إلى قرية إنجليزية تحاكي ذاك الزمان، و"شيفرة دافنشي" (2006) الذي استغل روعة قصر بورغلي القريب. كما احتضنت مسلسلات كلاسيكية عدة، غيّرت ملامح شوارعها لتستعيد حقبًا غابرة، وكأن الزمن هنا متواطئ مع الحجر ليحفظ ملامحه، ويعيد إحياءه أمام العدسات، فلا يدع يدًا تعبث به إلا بما يزيده بريقًا وقيمة.
بعد الظهيرة، كانت الأزقة الضيقة تبدو ساكنة، تحتفظ بأنفاسها لتصون حجارتها العتيقة، وتعرض ضيقها بفخر كجزء من هويتها السياحية كأنه قيمة تُستثمر، وإرثًا يُحافظ عليه ليحكي قصة المكان عبر الأزمنة. ومن بين تلك الجدران، تأخذنا الذاكرة آلاف الكيلومترات إلى بغداد والحلة، إلى محالّها القديمة وأزقتها الضيقة، وما أصابها من إهمال وتركٍ لمصير النسيان، لأننا نرى الضيق هناك اختناقًا وعائقًا، ويرونه هنا تحفةً تُصان لتزداد قيمةً مع مرور الزمن.

ومع ميل الشمس نحو المغيب، تم التوقف عند بحيرة ساكنة على أطراف المدينة، حيث الماء يعكس وجه القمر الفضي، والطيور المائية تهمس للريح. ركن الكرفان بمحاذاة الماء، والليل يمد ذراعيه حول المكان كوشاح دافئ. كانت تجربة النوم في قلب الطبيعة أشبه بقراءة قصيدة هادئة الإيقاع: دفء البطانية، ورائحة الخشب الرطب، وصوت الماء وهو يعانق الشاطئ… لحظات جعلت التاريخ والحاضر يجلسان معًا على طاولة واحدة، يرويان حكاية مدينة تعرف أن تحفظ ما ورثته، لا أن تتركه يذوب في غبار النسيان.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

832 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع