في حضرة المحتوى الهابط، حيث يصبح الفراغ نجمًا

بدري نوئيل يوسف

في حضرة المحتوى الهابط، حيث يصبح الفراغ نجمًا

جميل أن نبدأ اليوم بضحكة مع لمسة نقد ذكية، حول المحتوى الهابط في منصات التواصل الاجتماعي، جرعة فكاهة مع قليل من الحقيقة المرة، في عصر السرعة، وُلد نوع جديد من النجومية نجومية اللاشيء، حيث يُقاس النجاح بعدد المتابعين، يظهر المحتوى الهابط حين يصبح الفراغ نجماً، ويُكافأ الفراغ بالقلوب والقلوب الحمراء. في زمن الوعي المنخفض، كل تفاهة لها جمهور وكل مقلب له فانز.هم ينشرون التفاهة ونحن نعلق: 'ههههه رهيب'، ثم نسأل: ليش ما في وعي؟ جمهور المحتوى الهابط يقول: نحن لا ندعمه، فقط نتابعه، نشارك، وندفنه باللايكات.
حين تصبح التفاهة مساراً مهنياً في زمنٍ كانت فيه المجتمعات تُصفق للعلماء والمبدعين، ظهر هذا الكائن الرقمي الغريب يحمل هاتفاً، يصرخ في الكاميرا ويبدأ بثاً مباشراً بعنوان، تابعوني قبل ما أختفي ولا يختفي. وصلنا لمرحلة صار فيها الهراء يُصفق له، والمفيد يُتّهم بالتعقيد.
في زمنٍ اختلطت فيه المواهب الحقيقية بـصنّاع الجلبة، أصبحنا نعيش على وقع سؤال مؤلم: لماذا تلمع التفاهة بينما يُدفن الإبداع؟ في زمنٍ لم تعد فيه الشهادات ولا المواهب تفتح الأبواب، بل فتّاح الشهرة الآن هو فلتر وجه قطة وقليل من الصراخ في فيديو عمودي الجودة. لكن لا تيأس، لا يزال هناك محتوى جيّد، فقط يحتاج إلى عدسة مكبّرة، وحظٍ عظيم، وقلبٍ لا ينكسر بسهولة. لو كانت الشهرة تُقاس بالعقل لكانت بعض الحسابات في الإنعاش. فالمحتوى الهابط يبدأ بـ 'تابعوني' وينتهي بـ 'ليش المجتمع هكذا؟.
المحتوى الهابط على منصات التواصل الاجتماعي أصبح وكأنه موضة العصر ناس تتراقص على أنغام البقاء للأغبى، وتحديات ما بين من يطلع أغبى من الثاني، ووجوه أصبحت مشهورة لأنهم، ببساطة، لا يقولون شيئًا مفيدًا إطلاقًا، والتي خُلقَت في الأصل لتقريب الناس وتبادل المعرفة والترفيه، تحوّلت إلى مسرح عبثي حيث تُقاس الشهرة بعدد الصراخات، وعدد الفلاتر، وعدد المتابعين الذين لا يعرفون حتى لماذا يتابعون.حيث الشهرة تُقاس بعدد الصراخات وعدد الفلاتر.
يبدو أن المحتوى تحول من كونه وسيلة، لتقديم فكر أو ترفيه أو فن إلى مجرد أداة لجذب انتباهك بـأي ثمن. المهم أن تبقى ممسكًا بالهاتف، حتى لو ضاعت خلايا دماغك في الطريق.
ولا تنسَ حكمة اليوم من مشاهير منصات التواصل الاجتماعي ، ما تهمك الحياة، أهم شي تكون ترند.الناس تتابعك؟ عظيم. الناس تكرهك؟ أروع. المهم أن الناس تتفاعل، أما المضمون؟ عزيزي المتابع، هذا رفاهية لم تعد تناسب عصرنا.
لم يعد الإنسان بحاجة إلى موهبة، ولا فكرة، ولا حتى إتقان النطق السليم لكلمة محتوى، يكفي أن تقفز على ترند راقص، أو تصرخ أمام الكاميرا بجملة مثل( هل تعلم أن الموز كان زمانه خيار؟ لا أحد سيتحقق، والمحتوى ليس مهمًا، لكن المؤثر الحقيقي هو من يقول كلامًا بلا معنى وبثقة عالية.
لو فرضنا ان شاب يمتلك /شابة تمتلك / هاتفاً، وجمهوراً لا يفكر، وقلباً شجاعاً ينشر بلا خجل ما
نخجل حتى من مشاهدته، أما العناوين فهي أسلحة دمار شامل للمنطق وهو المؤثر الجديد؟ على
سبيل المثال (في المساء نشاهد فتاة تشرح كيف صنعت مكياجها من الباذنجان، لا، ليس كمكون طبيعي، بل كأداة! الباذنجان بدل فرشاة. عبقرية فذة! المهم قدّمت معلومة صادمة).وهنا وقد أصبح الهبوط فنّاً بحد ذاته. أصبح التعبير الحر يُستخدم كذريعة لنشر التفاهة باسم الإبداع.
الطامة الكبرى؟ أن بعض هذا المحتوى يتصدر الترند، بينما تُدفن الأفكار المفيدة تحت جبل من المقالب التافهة والتحديات العشوائية، لكن مهلاً، ألسنا نحن من نصنع هذا النجاح؟ ألسنا نحن من نضغط زر إعجاب على كل صيحة سخيفة؟
المحتوى الهابط هو دليل النجاح السريع لم تعد الشهرة تحتاج إلى موهبة، ولا حتى إلى فكرة. كل ما تحتاجه هو هاتف محمول، وجرأة على إحراج نفسك أمام الملايين. هل تملك القدرة على أكل 10 بيضات نيئة في دقيقة؟ ممتاز، أنت جاهز لدخول عالم الشهرة. هناك من يُنتج الهراء وهناك من يموّله بمشاهداته، ويحتفل به وكأنه اكتشف الذرّة.
أما أصحاب المحتوى الهادف؟ فهم يجلسون خلف الشاشات، يلعقون جراح متابعيهم المتناقصين، ويتساءلون، هل أخطأنا حين قررنا تعليم الناس بدلاً من جعلهم يضحكون على سقوطنا من السرير؟ ما المطلوب؟ القليل من الغباء الاصطناعي ، ضيف غريب على بث مباشر يسأل أسئلة أغرب. تحدي لا معنى له، مثل أن تظل تحدق بالكاميرا 10 ساعات دون أن ترمش. جملة مثيرة مثل: ما تتوقعوا الذي حدث لما سكبت الكولا على اللابتوب، النهاية مأساوية.ولأننا في عصر كل شيء على السريع اصبحت الجوائز بلا مجهود، بات النجاح يُقاس بعدد المشاهدات وليس بجودتها. بل وصلنا إلى مرحلة يُقال فيها لمن يصنع محتوى حقيقياً، أنت بتفلسف كثير احكِ شي يضحّك، وارقص شوي.
في الحقيقة الجمهور متهم أم ضحية؟، لولا الإعجابات، والتعليقات، والمشاركات المتحمسة، لما استمر هذا النوع من المحتوى. نحن الذين صنعنا من التفاهة أبطالاً، وجعلنا من المقالب الهابطة أعمالًا درامية حقيقية.
قبل أن تضحك فكّر عزيزي المشاهد، في المرة القادمة التي تُعجب فيها بفيديو لشخص يقفز في حوض مليء بالكورن فليكس، تذكّر هناك شخص كان يُحضّر لرسالة دكتوراه، ثم فتح التطبيق وأعاد النظر في كل قراراته. ربما آن الأوان لنعيد تعريف الترفيه، ونمنح عقولنا بعض الاحترام. فلنضحك، نعم لكن لا نترك عقولنا في وضع الطيران. حان وقت إطلاق العيارات الساخرة على المحتوى الهابط ومن يصفق له دون تردد. لكن الحقيقة الصادمة؟ المحتوى الهابط لا يحتاج إلى تفكير، لا يحتاج إلى وقت، ولا حتى إلى نية صافية. بينما الجيد؟ يحتاج جهدًا، علمًا، إخلاصًا… وصبرًا طويلًا جدًا على التجاهل الجماهيري.
من المسؤول؟ المنشئ؟ ربما. الخوارزميات؟ بالتأكيد. لكن الحقيقة المُرّة؟ نحن جميعًا جزء من المشكلة. نحن من نُشاهد، نُشارك، نُعلّق، نُروّج دون وعي. نمنح الضجيج ميكروفونًا، ونُطفئ أنوار من يستحق. نهاية غير يائسة في زحمة السخف، لا يزال هناك أمل. لا تزال هناك محتويات راقية تُشبهنا، تصنع فرقًا، تحترم عقولنا. وإن كنا نحب السخرية من الهابط (وهو يستحقها بكل جدارة)، فعلينا ألا
ننسى أن الدعم الحقيقي لا يُقاس بالسخرية فقط، بل أيضًا بتوجيه الاهتمام لمن يستحق. ففي النهاية قد لا يوقف مقال ساخر سيل التفاهة، لكنّه على الأقل يصفعها بابتسامة واعية. في عالم التريند، كلما قلت الفكرة زادت الضجة، المحتوى الهابط مثل الوجبات السريعة، شكله يشهي، لكن يتركك فراع ومنتفخ ندم.
الخلاصة؟
نحن نعيش عصرًا صار فيه المعنى ضحية، والترند هو القاضي والجلاد.لكن لا تزال هناك جيوب مقاومة، صُنّاع محتوى حقيقيون، يحاربون الرداءة بالسخرية، بالتعليم، وبأن يقولوا: ما راح أنزل لمستوى الترند، أنا أصنعه.
بينما آخر، يتضمن شرحًا مبسطًا لنظرية علمية، أو تحليلًا لكتاب عظيم، لا يحصد إلا بعض الإعجاب الخجول وربما تعليق من أمه فقط.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1059 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع