بلاد العجائب ، جمهورية الفساد المتحدة

بدري نوئيل يوسف

بلاد العجائب ، جمهورية الفساد المتحدة

رحلة ساخرة في وطنٍ يحتفل بالفساد كتراث وطني.
المقدمة: حين يصبح الفساد نظامًا لا استثناءً:
في بلادٍ بعيدةٍ عن الخيال، قريبةٍ من جيب المواطن، تقع جمهورية عظيمة اسمها جمهورية الفساد المتحدة. دولة شعارها بالواسطة نرتقي، وبالضمير نختنق. يحكمها حزبٌ عريق يدعى كلنا فاسدون، ويتكوّن برلمانها من ممثلين اختارهم الشعبُ بنفسه، بعد أن تاه صندوق الاقتراع في الصحراء، ووجدوه ممتلئًا من قبل أن تُفتح مراكز التصويت. في جمهورية الفساد المتحدة، لا تُقاس قيمة المواطن بما يقدمه، بل بمن يعرفه. تُكتب المناهج عن الأخلاق، بينما تُطبع شهادات الشرف على طابعات الرشوة. هناك، لا أحد يسرق، بل الجميع يأخذ حقه بطريقة مختلفة.
الفصل الأول: التعليم:
حيث يبدأ الحلم ويتبخر، مصنع الشهادات ومفرخة الفاشلي في هذه الجمهورية، التعليم لم يُعد وسيلة للنهوض، بل وسيلة للنوم. المدرس متعب، المدير مشغول، والطالب مشغول في تعلم فنون الغش المعاصرة.المدارس أصبحت مراكز خدمات مجتمعية، تبيع الكتب، تقيم الحفلات، وتوزع نتائج النجاح المسبق لأبناء المحسوبية العليا. أما الجامعات، فحدث ولا حرج، فأطروحات الدكتوراه تُكتب في مطاعم الشاورما، والمناقشات تنتهي بعبارة: بارك الله فيك يا دكتور، ما شاء الله بحث ولا أروع! في هذه الجمهورية، يبدأ الفساد من الحضانة.
فـالدكتور شلفط، خريج دورة إلكترونية مدتها ثلاث ساعات، أصبح أستاذًا جامعيًا فقط لأنه ابن عم نائب وزير الحفظ والنسيان. يعلّم طلابه فلسفة الصمت الأكاديمي، ويمنحهم أعلى الدرجات مقابل هدايا رمزية أو خدمات لا تُكتب. أما الطالب، فقد تعلّم أن النجاح لا علاقة له بالمذاكرة، بل بمدى جودة الطابعة التي تطبع بها البحث المسروق من الإنترنت. شعار الجامعة: انسخ، وارتقِ.
الفصل الثاني: السياسة : فن إدارة الجيب العام وسباق ماراثوني نحو الكرسي:
في جمهورية الفساد، لا يُقاس السياسي بعدد إنجازاته، بل بعدد فلاشات الكاميرا التي تلتقطه وهو يزرع شجرة لا تُسقى، أو يفتتح مشروعًا متعطلًا من أول أسبوع. يُقال إن أحد الوزراء دُعي للمحاسبة فسأل: أحاسب على ماذا؟ أنا أصلاً لم أعمل شيئًا!. جواب عبقري لا يُرد. الأحزاب هناك تتناسل انقسامًا، وشعاراتها تُكتب بلغة وردية مثل: معًا لبناء وطن نظيف، لكنها تُطبع على ورق استوردوه عبر صفقة فاسدة.
السياسي في هذه البلاد كائن أسطوري، يُقسم على خدمة الوطن ثم يبدأ بخدمة نفسه. يمتلك قدرة خارقة على التحدث لساعات دون أن يقول شيئًا. كل تصريح له يبدأ بكلمة نحن وينتهي بـسنحاسب، لكنه لا يشرح من نحن ولا من سيُحاسب.
سعادة المرتشي وهو بالمناسبة وزير النزاهة يتفاخر بأنه لم يأخذ سوى عمولات بسيطة كحافز على توقيعه السريع على عقود مشبوهة. يقول بثقة: لو لم أوقّع، لتعطّلت المصلحة العامة. وهكذا، صار الفساد مصلحة وطنية.
الفصل الثالث: الاقتصاد من جيب المواطن إلى جيب المسؤول.
العملة الوطنية تتقلب مثل مزاج الناخب. والاقتصاد قائم على مبدأ، كلما قل الإنتاج، زاد الاستيراد، وكلما زاد الاستيراد، اختفت العملة الصعبة.صناديق دعم الفقراء ممتلئة لكن بالفواتير. والمستثمر الوحيد الذي يُشجَّع هو ابن خالة الوزير، أما البقية فعليهم الصبر والبطالة والتقسيط.(الميزانية العامة ما يدخل منها لا يُعرف، وما يخرج لا يعود.)
في أحد المؤتمرات، صرح مسؤول اقتصادي: الوضع مستقر ثم اختفى فجأة وسافر إلى دولة لا تعرف معنى كلمة توقيع بالحبر السري. الرشوة ليست فسادًا، بل عربون محبة تسهّل الإجراءات.مسؤول مجهول الهوية، معروف الثراء.
الفصل الرابع: المجتمع حاضن الفاسدين ورافع شعار ليس شغلي.
أما المواطن، فهو متفرّج محترف، يشتم الفاسدين في الصباح، ويصفّق لهم مساءً إذا حضروا فرح ابن الجيران، ينتقد غلاء المعيشة، ثم يقدّم إكرامية لموظف الكهرباء كي لا يقرأ العداد.
يقول المواطن صابر: أنا ضد الفساد من قلبي، ماذا نعمل؟ كل الناس تعمل هكذا. ثم يمضي ليدفع رشوة لمعلم المدرسة كي لا يرسب ابنه الكسول.
الفصل الخامس: المجتمع من الضحية إلى الشريك الصامت.
المواطن في جمهورية الفساد لا يثق بأحد، لكنه يبيع صوته الانتخابي بكيلو سكر، يشتم الحكومة في العلن، ويطلب خدماتها في السر، يشكو من ظلم القانون، ثم يطلب واسطة لتجاوز القانون.حيث الفساد تحوّل إلى لغة يومية، تقول الأم لابنها: خذ بالك من مستقبلك، اعمل علاقات، لا تعتمد على تعبك ، كأن الكفاءة أصبحت من أساطير ما قبل الحداثة.
الفصل السادس: الإعلام منبر النفاق الوطني.
في جمهورية الفساد، الإعلام ليس سلطة رابعة، بل شاهد ما شافش حاجة. المذيع لا يقرأ الأخبار، بل يقرأ ما يُملى عليه، وغالبًا بوجه جامد لا يتأثر حتى لو اندلعت حرب أهلية في الاستوديو.
هناك برامج تروّج لفكرة أن الوطن بخير والمواطن سعيد، رغم أن المواطن يشاهد الحلقة على ضوء شمعة، وفي الخلفية صوت مولد الكهرباء. الإعلامي الناجح هو الذي يعرف كيف يقول نعم بألف طريقة مختلفة، من دون أن يرمش.
خاتمة: ضحكة بطعم العلقم ونكتة حزينة بنكهة الحقيقة
في جمهورية الفساد المتحدة، الجميع فاسد بدرجات متفاوتة، من الوزير حتى عامل المطبعة. الكل
يشتم الفساد وهو يغذّيه، يلعن الرشوة وهو يدفعها، وينتظر التغيير وهو جالس في المقاهي يتبادل النكات عن الحكومة التي سرقت البلد.
ولأن السخرية صارت وسيلة دفاع نفسية، أقول لكم: في هذه البلاد، الفساد لا يُقهر، لأنه مكفول ومدعوم وله ورقة تزكية من الشعب نفسه.لا تسأل عما فعل الفاسد، اسأل نفسك لماذا لم تكن مكانه!(من كتاب فن الحسد في الحياة العامة) .
في هذه البلاد، الفساد له هيكل تنظيمي، وخطة استراتيجية، ومستشار إعلامي. هناك دورات لتعلم فن التلاعب بالمناقصات، وتخصصات جامعية بعنوان: تسويق الفشل وإدارة الوعود الفارغة.
"الواسطة ليست فساد، الواسطة صمام أمان في دولة ما فيها أمان"."في بلادنا، كل شيء ممكن، إلا تطبيق القانون"."نعدكم بمستقبل مشرق، لكننا نعيش في ظلام مقطوع".
نحن لا نُراوغ، نحن نُوظّف الحقيقة حسب المزاج. لا نكذب، بل نؤجل قول الحقيقة لحين استقرار الوضع، أو نسيان الشعب، أحلم بوطن نظيف، لكن أخاف أن يُعتبر حلمي تهديدًا أمنيًا.
لكن مع ذلك، لا زال هناك أمل في قهوة الصباح وصوت فيروز ، ونكتة تنطلق من قلب موجوع، وضحكة تُقاوم الانهيار.فالساخرون هم آخر من تبقى في وجه العبث، يكتبون ليذكّروا بأن القبح لا يجب أن يصبح عادة، وأن الضحك أحيانًا فعل مقاومة.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

827 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع