بدري نوئيل يوسف
المحللون
المحللون هم السياسيون او الاجتماعيون او الاقتصاديون وكذلك التعليميون وغيرهم ، تلك الشخصيات التي تخرج من سباتها العميق مع كل أزمة سياسية او اقتصادية، كأنهم عرافون يستيقظون حين يشعرون باضطراب في الموجات الإخبارية. فالمحللون مهنة من لا مهنة له.هم الذين يتحدثون بثقة، ويحلّلون بلا رصيد، حين يصبح الجهل خبزًا يوميًا في عالم الأخبار العاجلة والتحليلات العاجزة، ظهر مجموعة جديد من الشخصيات الإعلامية، متعدد المواهب وعديم الخلفية. لا هو دبلوماسي، ولا أكاديمي، ولا صحفي ميداني، لكنه يعرف كل شيء عن كل شيء، حتى لو لم يزر الخريطة التي يتحدث عنها.
على الشاشة ثقة زائدة، ومصطلحات زائفة يبدأ ظهوره بابتسامة مصطنعة ونظرة عميقة، كأنه خرج للتو من اجتماع مع مجلس الأمن او من البرلمان الأوربي او .... ثم ينطلق، كما لو كان عقله موسوعة.
في كل ليلة، ومع دقات منتصف الأخبار، يظهر على شاشاتنا ذلك الوجه المتجهم الذي يلقب نفسه محللًا. قد تعتقد أنه خبير يحمل في جعبته شهادات من جامعات عريقة، أو ربما كان مستشارًا سابقًا لصناع القرار لكن المفاجأة الكبرى أنه، حتى الأمس، كان يصرّف بضائع في محل أدوات منزلية.
هذا المحلل يمتاز مواهب لا تُدرّس في أي جامعة، فهو يتحدث بلا توقف وبإمكانه أن يتكلم 45 دقيقة متواصلة دون أن يقول شيئًا واحدًا مفيدًا.ويستخدام كلمات معقّدة بلا داعٍ، فهو لا يقول الوضع خطير بل المنظومة الجيوسياسية اوالجيوقتصادية تمر بتحوّلات بنيوية تعكس هشاشة الواقع الإقليمي.ولديه الثقة المفرطة بالنفس، حتى لو سُئل عن الوضع السياسي او التعلمي في المريخ، سيجيب بلا تردد. أما خلف الكواليس، فتجده يحاول تذكّر اسم الدولة التي ناقشها للتو، ويتساءل همسًا ربما الدولة عندهم بحر أو صحراء؟
يتحدث عن التحولات البنيوية في هيكل النظام العالمي، وهو لا يعرف الفرق بين الناتو واليوغا. يشبّه الوضع في الشرق الأوسط بـرقصة التانغو الجيوسياسية، رغم أنه بالكاد يرقص على موسيقى النشرة الجوية. وإذا طُلب منه التنبؤ بما سيحدث، يغمض عينيه قليلًا، يتنهد ويقول: المشهد قابل لكل السيناريوهات. (يا للعبقرية. خلف الكواليس، مفاجآت بالجملة).
ما لا يعرفه الجمهور أن محللنا الجهبذ ، يقرأ عنوانين من تويتر سابقا أو اكس حاليا قبل اللقاء، ويعتبرها مصادر موثوقة. ينقل تصريحات منسوبة لـخبراء مجهولين، أو بالأحرى لم يخترعهم سوى خياله.حين يُسأل عن الصراع في دولة ما، يسأل سرًا: طيب هي في آسيا ولا إفريقيا؟
ولكن لماذا يستمر ظهوره إذًا؟ السر بسيط، لا يُحرج المضيف بأسئلة معقدة. لا يختلف عن خط القناة التحريري. والأهم، يقول الكلام اللي يعجب المشاهد وما يزعّل حد، ولأنه لا يتطلب تحققًا من مصادر أو مقابلات ميدانية، يتم استدعاؤه يوميًا، مثل فاصل إعلاني ، لكنه أطول.
كذلك نجد أنواع المحللين الذين نراهم في البرامج كأنهم تطبيقات مثبتة مسبقًا في جهاز التلفاز، فالمحلل العتيق يتكلم عن كل القضايا كما لو كانت امتدادًا للغزو المغولي، وقتل الخلفية العباسي، او كان شريكا في تطور الذكاء الاصطناعي، ويبدأ كل جملة بعبارة عندما كنتُ في مؤتمر جنيف عام 84 (علماً أنه
وقتها كان طالبًا في الثانوية).وهناك محلل الجداول يعرض رسوماً بيانية معقدة لا يفهمها أحد، ويشرح، كما ترون هنا، العلاقة بين سعر البصل ونسبة التصويت في الانتخابات تشير إلى تدخل أجنبي.
ونلاحظ محلل أنا توقّعت هذا من زمان، اي بعد كل حدث مفاجئ، يخرج في النشرة قائلاً بثقة، أنا كنتُ قد أشرتُ إلى هذا في منشور فيسبوك نشر سابقا ، لكن للأسف لم يسمع لي أحد.(الحقيقة: المنشور كان عن نتائج مباراة كرة قدم).
ومحلل المسرح الإقليمي الذي يُكثر من قول المسرح الإقليمي، اللاعبين الدوليين، الإخراج السياسي، كأنه يتحدث عن مسرحية شيكسبيرية، ثم يختم: يبقى المشهد مفتوحًا على احتمالات التأليف والتأزيم. (والمشاهد يسأل: ماذا قال؟.)
وأما محلل العواطف فهو لا يعتمد على إحصائيات أو مصادر، فقط على إحساسه الوطني، يقول: أنا أشعر أن الشعب لن يسكت، لدي إحساس داخلي أن الانفجار قادم. ثم يأخذ نفسًا عميقًا، وينظر للكاميرا كأنه يتنبأ بزلزال. انا لا أقول اكثر المهم من المستمع ان يتوقع.
ولكن محلل نعم لا يمكنه إعطاء إجابة مباشرة. كل شيء عنده يبدأ بـنعم وينتهي بـ لكن. مثلًا:نعم هناك أزمة ولكنها ليست أزمة بالمعنى التقليدي للأزمات، بل أزمة تعكس اللا أزمة. (شكراً، فهمنا، لا شيء واضح.)
والحديث عن محلل إعادة التدوير يحفظ ثلاثة جمل منذ عام ظهورة على شاشة التلفاز ويكررها في كل مناسبة، الربيع العربي لم يكن ربيعًا، المنطقة تمر بمخاض عسير، المصالح تتغيّر لكن اللاعبين ثابتون ويعيش على إعادة تدويرها كأنها مانشيتات جديدة.
ومحلل الاتصال المهم خلال اللقاء، يضع سماعة الأذن، يتلقى مكالمة وهمية ثم يقول: وصلني الآن من مصدر دبلوماسي رفيع أن الوضع تغيّر. (المصدر الحقيقي لا أحد يعرف).
ولكن محلل المنفى الدائم يُقدم دائمًا على الشاشة بلقب معارض، مقيم في الخارج. لا أحد يعرف متى خرج، ولا لماذا بقي في الخارج، لكن لديه رأيًا في كل شاردة وواردة، حتى عن سعر اللبن في بلاده.
وأيضا محلل الطرف المندس يرى في كل احتجاج يدًا خارجية، وكل انتقاد مؤامرة، وكل مظاهرة مشبوهة، يُقسم أن عمّه رأى مُندسًا ذات مرة يرتدي شالًا مختلفًا، والدليل؟ المندس الحقيقي لا يبتسم. وهذا كان يبتسم.
والمحلل السياسي المخضرم الذي يرى مؤامرات في كل زاوية:يجلس أمامك واثقًا من تحليلاته الجيوسياسية المعقدة، والتي غالبًا ما تبدأ بعبارة: الذي لا يعرفه معظم الناس ثم يطلق العنان لنظريات مؤامرة متقنة. إذا كانت هناك انتخابات نزيهة، سيقول إنها مزورة ومدبرة من قوى خفية. إذا حدثت أزمة اقتصادية، سيؤكد أنها مخطط خبيث من جهات معينة لسرقة أموال الناس. وعندما تُقدم له بيانات رسمية أو تصريحات من مسؤولين موثوقين، سيصفها بأنها جزء من الخطة لإخفاء الحقيقة. هو يدعي معرفة عميقة بخبايا السياسة، بينما ينكر كل الأحداث الواضحة على أنها مؤامرات.
وأخيرا المبتكر التكنولوجي الذي يرفض تحديث هاتفه:يملك هاتفًا قديمًا بالكاد يعمل، ولكنه يتحدث عن فلسفة الشركات التكنولوجية وكيف أنهم يخدعون الناس لترقية هواتفهم. يدعي أنه اخترق نظام تشغيل هاتفه الخاص ليجعله أفضل من أحدث إصدار، وأن التحديثات الجديدة ما هي إلا برمجيات تجسس. إذا واجهته بحقيقة أن هاتفه بطيء ومليء بالثغرات الأمنية، سينكر ذلك ويصر على أنه الأذكى لأنه لم يقع في فخ الشركات الجشعة، وأن هاتفه يعمل بكفاءة لا يدركها إلا من لديه بصيرة.
ورغم هذا، يُعاد استدعاؤهم في كل برنامج، لأنه ببساطة، لا يكلّفون شيئًا، يملؤن الوقت، ويقولون ما يريده مقدم البرنامج أو ما يُطلب منه. والاستوديو يشتعل مع نخبة من المحللين غير المعتمدين. وفي كل حلقة يتجادلون لمدة ساعة دون الوصول إلى أي خلاصة.
الخلاصة
في عصر صار فيه كل من يضع ربطة عنق أمام كاميرا محللًا ، بات من الصعب التمييز بين الرأي والتحليل، بين الخبر والمعجون اللفظي الذي يصنعه بعضهم على الهواء. فهل آن الأوان لنستبدل هؤلاء بـمحلل معتمد بشهادة معرفة فعلية، وكان الله في عون المشاهد.
585 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع