المختار والشيخ: أنماط متمايزة في قيادة المجتمع بين المدينة والقرية

إبراهيم فاضل الناصري

المختار والشيخ: أنماط متمايزة في قيادة المجتمع بين المدينة والقرية

(مدخل: بين الشرعية القانونية والرمزية العرفية):
في المجتمعات المتجذّرة بين التراب والحداثة، لا تُقاس السلطة دومًا بالمرسوم أو التوقيع الرسمي، بل كثيرًا ما تُصاغ من نسيج العادات، وتُبنى على إرث الذاكرة الجمعية. وعلى تماسّ التباين بين المدينة والقرية، يبرز نموذجان في إدارة الشأن المحلي: المختار، ذلك المكلَّف رسميًا بمهام مدنية في الفضاءات الحضرية، والشيخ، الذي يتصدّر القيادة في البيئات الريفية استنادًا إلى العُرف والمكانة الاجتماعية. ويمثل هذان الرمزان نمطين متمايزين في ممارسة السلطة؛ فالأول ابن الدولة والقانون، والثاني ابن العشيرة والعُرف. وبينهما مسافة اجتماعية وحضارية، تختزل العلاقة المعقدة بين الحداثة والتقليد.
وتشكّل مدينة تكريت، بمركزها الحضري ومحيطها الريفي العشائري، نموذجًا حيًا لفهم هذا الانقسام. ففي حين يدير المختار شؤون الأحياء الحديثة بآليات تنظيمية ومؤسسية، لا يزال الشيخ في القرى المجاورة يمارس دور الحَكَم، والضامن، والضابط لتوازن المجتمع من خلال شبكة العلاقات القرابية. هذا التوازي بين النمطين لا يكشف فقط عن اختلاف في طريقة الحكم المحلي، بل يُضيء على تحولات اجتماعية أعمق، تتعلق بهوية المكان، وذاكرة الجماعة، وموقع الفرد بين القانون والعُرف.
(المدينة والقرية: نسقان اجتماعيان متمايزان):
تشكل المدينة والقرية نموذجين مختلفين في البنية الاجتماعية والتنظيم الإداري. ففي القرى المحيطة بالمركز الحضري، تُبنى العلاقات على وشائج القرابة والعرف والذاكرة الجمعية، وتسود فيها الصيغة "الشخصانية" في العلاقة بين الحاكم والمحكوم. أما المدينة، فهي فضاء مدني متطور، تندمج فيه شبكات إدارية حديثة تتولى إدارة شؤون السكان المتنوعين في أصولهم وانتماءاتهم، في ظل غياب روابط النسب الموحدة.
(البنية الاجتماعية وطبيعة السلطة):
في الريف المحيط، تتجلى بوضوح مكانة شيخ العشيرة الذي يمارس سلطته انطلاقًا من التقاليد، ويُعد مرجعًا في شؤون المصالحة والقيادة الاجتماعية. لا يستند إلى صلاحيات قانونية، بل إلى شرعية عرفية متوارثة. وغالبًا ما يُحتكم إليه في النزاعات العائلية، وتوزيع الموارد، وضبط السلوك المجتمعي. أما داخل المدينة، فالبنية الاجتماعية أكثر تعقيدًا، ولا تسمح بقيام سلطة غير رسمية تُمارس دورًا عامًا. هنا، يظهر دور المختار بوصفه حلقة الوصل بين المواطن والدولة، وصاحب المسؤولية في تنظيم شؤون السكان ضمن الحي أو المنطقة. إنه قائد مدني يضطلع بمهمات لا يستطيع شيخ العشيرة النهوض بها ضمن البيئة الحضرية.
(المختار: حجر الأساس في الإدارة الحضرية):
في هذا النمط المدني، يتصدر المختار المشهد الإداري المحلي، لا بصفته زعيمًا اجتماعيًا، بل بصفته موظفًا مسؤولًا يتولى تنسيق الخدمات وتطبيق القوانين. وبما أن سكان الأحياء لا تجمعهم روابط عائلية أو قبلية بالضرورة، فإن تنظيم العلاقات بينهم يحتاج إلى شخصية رسمية تُجسد القانون، وتُنفّذ السياسات المحلية، وتنسق بين الدوائر الحكومية والسكان.
ويمثل المختار في هذا السياق:
• أداة لضبط التنوع: فالسكان في هذه المدينة ينحدرون من خلفيات عشائرية ومناطقية متعددة، ولا يجمعهم سوى الإطار القانوني والإداري.
• قناة للمساءلة: المختار يخضع لأنظمة رقابية، ويؤدي مهامه ضمن ضوابط واضحة تحفظ حقوق السكان.
• منسقًا للخدمات: في أحياء مثل العلمين أو حي القادسية، تتعدد الحاجات، والمختار هو من يتابع الأمور الخدمية والتنظيمية بصورة مستمرة.
(شيخ العشيرة في المدينة: دور محدود وسياق مختلف):
رغم الرمزية الكبيرة التي يتمتع بها شيخ العشيرة في المناطق الريفية المحيطة، إلا أن وجوده داخل البيئة الحضرية يأخذ طابعًا مختلفًا. ففي المدينة لا تقوم السلطة على النسب أو المكانة القبلية، بل على الوظيفة والقانون.
لذا، فإن أي محاولة لإحلال دور الشيخ محل المختار داخل النطاق الحضري تصطدم بواقع مؤسساتي لا يعترف إلا بالشرعية القانونية، خصوصًا في ظل تنوع النسيج السكاني وتداخل المصالح وتباين الانتماءات. وهكذا، يبقى دور الشيخ في المدينة رمزيًا وشرفيًا، بينما تمارس السلطة الحقيقية عبر الأطر الرسمية.
(التحولات المعاصرة وتحديات التكيّف):
لقد بدأت بعض القرى المجاورة، مثل عوينات أو الزلاية، في تبنّي نمط إداري مزدوج، يحتفظ فيه شيخ العشيرة بمكانته الرمزية والاجتماعية، بينما تُناط بالجهات الرسمية (مثل المختار أو المجلس البلدي) مهام الإدارة والتنظيم. غير أن نجاح هذا التعايش بين النموذجين يتطلب وعيًا مؤسساتيًا وثقافيًا، يضمن حفظ الهوية العشائرية دون أن تكون على حساب الكفاءة والتنظيم المدني، ويمنع تداخل الصلاحيات أو تضارب المرجعيات.
(خاتمة: بين الجذور والآفاق):
في المشهد الاجتماعي لهذا الإقليم، تتجاور صورتان لقيادة المجتمع المحلي: المختار الذي يُمثل السلطة الرسمية المنظمة، والشيخ الذي يجسّد الامتداد التاريخي للأعراف والروابط التقليدية. هذا التمايز ليس مجرّد اختلاف وظيفي، بل هو انعكاس لعمق التحول في بنية المجتمع العراقي المعاصر بين الريف والمدينة، بين الانتماء الضيق والانفتاح المدني، بين الصوت العرفي والصوت القانوني. في الوقت الذي يواصل فيه شيخ العشيرة أداء دور مركزي في إدارة شؤون القرى، يستحيل هذا الدور داخل المدينة إلى وظيفة رمزية، تحلّ محلها سلطة المختار التي تستمد مشروعيتها من المنظومة القانونية للدولة. وهكذا، لا يكون الصراع بين النموذجين تناقضًا، بل تعبيرًا عن حاجتين: حاجة الريف إلى الاستقرار عبر القرب الاجتماعي، وحاجة المدينة إلى التنظيم عبر النظام الإداري. ولعلّ التحدي الأبرز اليوم، في ظل التسارع الحضري وتداخل المجالين الريفي والمدني، هو في كيفية تحقيق التوازن بين الرمزية العرفية والفعالية المؤسسية. فنجاح النماذج المحلية للإدارة لا يقوم على إلغاء أحد الطرفين، بل على خلق صيغة تفاعلية تحفظ للشيخ مكانته المجتمعية دون أن تعيق وظيفة المختار، وتُمكّن المختار من أداء دوره دون أن يُستفز البُعد العشائري. هكذا، يصبح فهم ثنائية "الشيخ والمختار" مدخلًا لفهم أعمق للتحولات الاجتماعية في العراق، وصياغة سياسات محلية عادلة، تُراعي التعدد وتُدير الاختلاف، وتُهيئ لبناء مجتمع متوازن بين الريف والمدينة، بين العُرف والدولة، بين الجذور والآفاق.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

830 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع