قاسم محمد داود
انتخابات بلا ناخبين: أزمة ثقة في الديمقراطية العراقية
في بلدٍ مثل العراق، حيث يشكل المسار الديمقراطي ركيزة أساسية لبناء الدولة بعد عقود من الدكتاتورية والصراعات، ورغم أن الانتخابات البرلمانية في العراق تُعد فرصة للمواطنين لاختيار من يمثلهم ويعبّر عن صوتهم. تبدو المشاركة الشعبية في الانتخابات البرلمانية مؤشراً حاسماً على مدى الثقة بالعملية السياسية ومؤسسات الحكم. ومع ذلك، تشهد الانتخابات العراقية منذ سنوات تراجعاً ملحوظاً في نسب الإقبال الشعبي، مع انخفاضاً كبيراً في نسبة المشاركة طيلة هذه السنوات. كثير ما تطرح تساؤلات جدية حول أسباب هذا العزوف الجماهيري. لماذا العراقيين أصبحوا يعزفون عن الذهاب إلى مراكز الاقتراع، ويفضلون البقاء في منازلهم يوم التصويت هذا العزوف لا يأتي من فراغ، بل هو نتيجة تراكمات من الإحباط، وفقدان الثقة بالسياسيين، والشعور بأن الانتخابات لا تغيّر شيئاً في حياتهم اليومية. فهل فقد المواطن العراقي ثقته بالطبقة السياسية؟ أم أن الإحباط من الواقع المعيشي والأمني هو ما دفعه إلى الانكفاء؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء هذا الابتعاد عن صناديق الاقتراع؟ ولماذا يشعر كثيرون أن أصواتهم لم تعد تحدث فرقاً؟ تتعدد الأسباب وتتشابك العوامل بين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مما يستدعي وقفة تحليلية لفهم هذه الظاهرة المتنامية التي باتت تهدد شرعية العملية الديمقراطية برمّتها. رغم الأهمية الكبيرة للانتخابات في بناء مستقبل أي دولة، إلا أن العراق يشهد في كل دورة في انتخابية انخفاضاً في نسبة المشاركة الشعبية. هذا التراجع لا يعكس فقط تراجع الحماس السياسي، بل يكشف عن أزمة أعمق تتعلق بثقة الناس بالعملية السياسية برمّتها. عزوف العراقيين عن المشاركة الواسعة في الانتخابات البرلمانية له عدة أسباب متداخلة، تتعلق بعوامل سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية. هذا ما سنحاول التعرّف عليه في هذا المقال من خلال أبرز الأسباب التي تقف وراء عزوف كثير من العراقيين عن المشاركة في الانتخابات وهي كالتالي:
ــ فقدان الثقة بالطبقة السياسية: الكثير من العراقيين يرون أن الوجوه السياسية تتكرر في كل انتخابات، وأن من يصل إلى البرلمان لا يحقق وعوده ولا يهتم بمطالب الناس. هذا الشعور جعل فئة واسعة من المواطنين تعتقد أن الانتخابات لن تغيّر شيئاً، مهما اختلفت الوعود أو تغيرت الشعارات. وان القناعة التي وصل إليها العراقيون بمختلف اطيافهم أن الوجوه السياسية تتكرر في كل دورة انتخابية، حتى وإن تغيرت الأحزاب أو التحالفات. وان البرلمان لا يمثل إرادة الشعب، بل يمثل مصالح الكتل السياسية وأحزابها وتُتهم النخب السياسية بأنها فاسدة وغير كفؤة، ولم تنجح في تحسين الأوضاع منذ عام 2003.
ــ الفساد المستشري: الفساد في مؤسسات الدولة بات مشكلة مزمنة يشعر بها المواطن في حياته اليومية، من سوء الخدمات إلى البطالة وتدهور البنية التحتية. هذا الواقع يدفع البعض للاعتقاد أن الانتخابات مجرد وسيلة لتقاسم النفوذ بين الأحزاب، لا لتحسين حياة الناس. وأن الفساد أصبح ظاهرة مؤسسية، تؤثر في جميع مفاصل الدولة، من التوظيف إلى المشاريع والخدمات. لذلك فإن المواطن يشعر أن صوته لن يغير شيئًا في ظل منظومة فاسدة. وان المواطن أصابه الإحباط من عدم تحقق التغيير منذ عدة دورات انتخابية، يشارك المواطنون على أمل تحقيق إصلاحات أو إنهاء المحاصصة الطائفية، لكن النتائج غالباً ما تُبقي على الوضع القائم. بالرغم من الاحتجاجات الشعبية (مثل مظاهرات تشرين 2019) التي عبّرت عن هذا اليأس، حيث رُفع شعار "كلهم يعني كلهم"، في رفض شامل للطبقة الحاكمة.
ــ التجارب السلبية السابقة: من شارك في الانتخابات السابقة ولم يرَ نتائج ملموسة على الأرض، قد يفقد الرغبة في التكرار. التجارب المخيبة للآمال جعلت فئة كبيرة من الناخبين تبتعد عن العملية الانتخابية، خاصة الشباب الذين يشعرون بأن أصواتهم لا تُحدث فرقاً.
ــ سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية: مع تفاقم البطالة وارتفاع الأسعار وتراجع فرص العمل، يشعر المواطن أن أولوياته المعيشية أهم من التصويت. وعندما لا يرى تحسناً في الوضع الاقتصادي، يزداد اقتناعه بأن لا جدوى من انتخاب ممثلين لن يغيّروا شيئاً في واقعه.
ــ النفوذ الحزبي والطائفي: يرى البعض أن الأحزاب الكبيرة تسيطر على نتائج الانتخابات، وأن الفوز يُحسم مسبقاً بفعل التوازنات الطائفية والحزبية، مما يضعف الشعور بوجود انتخابات "نزيهة" و"عادلة"، وبالتالي يُقلل الحافز للمشاركة. ولا ننسى العامل الطائفي والمناطقي فالنظام السياسي بعد 2003 بُني على المحاصصة الطائفية والقومية، مما جعل الانتخابات أحيانًا أقرب إلى "إحصاء طائفي" وليس تنافسًا ديمقراطيًا. هذا الوضع جعل كثيرًا من الناس يشعرون أن صوتهم لن يؤثر في تغيير جوهري، لأن الكتل الرئيسية تتقاسم السلطة مسبقًا. في بعض المناطق، مثل المناطق المتنازع عليها أو المختلطة طائفيًا (كركوك، ديالى)، يُنظر إلى الانتخابات كمعركة وجودية، مما يؤدي إلى توتر أمني أو حتى عزوف بسبب الخوف أو الإحباط.
ــ ضعف الوعي الانتخابي: هناك شريحة من المواطنين لا تدرك أهمية صوتها، أو تجهل دور البرلمان الحقيقي، ما يجعلها غير مهتمة بالمشاركة. ضعف التثقيف الانتخابي من قبل الدولة ومنظمات المجتمع المدني يزيد من هذا العزوف.
ــ تدخلات خارجية: هناك إدراك شعبي أن القرارات السياسية والسيادية تُتخذ خارج العراق أو بتأثير مباشر من قوى إقليمية ودولية، مما يُضعف الإيمان بجدوى الانتخابات.
ــ غياب العدالة في توزيع الثروات والخدمات: لا توجد تنمية عادلة في جميع المناطق، مما يولّد شعورًا بالتهميش، خصوصًا في المحافظات التي عانت من الحروب أو الإهمال.
ــ ضعف دور المفوضية وثغرات العملية الانتخابية: هناك تشكيك واسع في نزاهة الانتخابات، واتهامات بتزوير النتائج، أو التلاعب الإلكتروني، أو الضغوط على الناخبين. حتى بعد اعتماد البطاقة البايومترية، يعتقد البعض أن التزوير لا يزال ممكنًا بطرق مختلفة.
ــ التخويف أو العنف السياسي: بعض المناطق تشهد سيطرة جماعات مسلحة قد تُرهب الناخبين أو تتحكم بنتائج الانتخابات. تأثير الوضع الأمني، في بعض المناطق، هناك خوف من التهديد أو القتل نتيجة التصويت لمرشح معين، خصوصًا في المناطق التي تهيمن فيها جماعات مسلحة. هذا النوع من التهديدات يُحجم مشاركة المواطنين، خاصة النساء والفئات الضعيفة.
ــ العزوف عن السياسة من قبل الشباب: شريحة الشباب، التي تمثل الأغلبية، باتت عازفة عن الانخراط في السياسة التقليدية، وتركز على التغيير من خارج المؤسسات، مثل التظاهر أو النشاط الرقمي. دور الناشطين والمحتجين بعد احتجاجات تشرين، برزت شريحة شبابية جديدة رافضة تمامًا للمنظومة السياسية الحالية، واعتبرت أن الانتخابات لن تؤدي إلى إصلاح. قسم منهم دعموا مرشحين مستقلين، لكن قسمًا كبيرًا رأى أن المشاركة تعني الاعتراف بالمنظومة، فاختار المقاطعة. ومع تصفية بعض الناشطين واعتقالهم أو اغتيالهم، زاد الإحباط من إمكانية التغيير السلمي عبر الانتخابات.
ــ التأثير العشائري في العملية الانتخابية: في مناطق كثيرة، خاصة في الجنوب والفرات الأوسط وبعض مناطق الأنبار والموصل، للعشائر دور كبير في توجيه الناخبين. يتم أحيانًا ترشيح شيوخ عشائر أو أشخاص مدعومين من عشائر كبيرة، ويُطلب من أفراد العشيرة التصويت لهم. هذا يؤدي إلى تقييد حرية الاختيار، خصوصًا في القرى والأرياف، ويشعر بعض الشباب أن "أصواتهم محسومة سلفًا"، مما يجعلهم يعزفون عن المشاركة. كثيرون يرون أن هذا الأسلوب يُفرغ الديمقراطية من محتواها، ويُحوّل الانتخابات إلى نوع من "التحاصص العشائري".
ــ تفاوت المشاركة بين المحافظات: المحافظات الجنوبية (مثل ذي قار والبصرة) شهدت في السنوات الأخيرة نسب مشاركة متدنية، رغم كثافة السكان، بسبب الإحباط من التهميش والفساد وضعف الخدمات. في المقابل، بعض المحافظات مثل نينوى أو الأنبار، قد تشهد نسب مشاركة أعلى نسبيًا بعد سنوات من الحرب على داعش، لأسباب تتعلق بمحاولة تمثيل المكوّن أو المنطقة سياسيًا بعد التغييب. بعض الأهالي يشاركون بدافع الخوف من فقدان الحصة السياسية أو الإدارية لمناطقهم، وليس عن قناعة حقيقية بجدوى التصويت.
وفي الختام أن العزوف الانتخابي في العراق ليس ناتجًا عن الكسل أو اللامبالاة، بل عن فقدان الثقة والشعور بعدم الجدوى، إضافة إلى ضغوط عشائرية وطائفية وأمنية. ومع غياب ضمانات حقيقية للنزاهة، تبقى المشاركة بالنسبة لكثير من العراقيين خيارًا غير محفز. عزوف العراقيين عن الانتخابات ليس موقفاً عابراً، بل رسالة واضحة تعبّر عن أزمة ثقة حقيقية بين المواطن والسلطة. وإذا أرادت الدولة العراقية أن تعيد الحياة إلى المسار الديمقراطي، فعليها أن تستمع إلى هذه الرسالة جيداً، وتعمل على إصلاح النظام السياسي، ومحاربة الفساد، وتوفير فرص حقيقية للمشاركة والتغيير. فالإصلاح لا يبدأ من صناديق الاقتراع فقط، بل من بناء ثقة جديدة بين المواطن والدولة.
719 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع