العراقُ سؤالُ الهوية، ومحرابُ الجراح، ومهبطُ الحُلم المؤجَّل.

د.أنور أبوبكر كريم الجاف

العراقُ سؤالُ الهوية، ومحرابُ الجراح، ومهبطُ الحُلم المؤجَّل.

فيا أيّها العراق الحبيب:
كم فيك من وطنٍ ضائع، وكم فيك من وطنٍ ينتظر أن يُولَد!

ويا أيها العراق،
يا ذاكرةَ الأرضِ حينَ تئنُّ،
ويا موضعَ القلبِ حينَ يرتجف،
أأنت الوطنُ أم أنتَ المعركة؟
أأنتَ الشاهدُ أم المشهودُ عليه؟

أيا بلادَ الرافدين،
أفيك تُصان الهويةُ، أم عليك تُشنُّ الحروبُ الهويّاتية؟
هل نحنُ عراقيون حقًا؟
وهل كُتبَ العراق كما يليقُ به أن يُكتب؟

في شوارع بغداد تسمع صدى البصرة،
وفي أزقّة النجف تحسّ بأنين سنجار،
وفي ظلال أربيل ينبض تاريخٌ لم يُدوَّن بعد.
فهل نحن شعبٌ واحد،
أم شعوبٌ من بقايا أممٍ تتقاطعُ في محطةٍ اسمها “الجنسية العراقية”؟

أشهدُ أني أتصفّحُ وجهَ العراق كما يُصفّحُ العاشقُ كتابَ حبيبه،
فأجدُ على صفحاته خيباتٍ أليمة:
طفلٌ لا يعرفُ معنى العدالة،
وامرأةٌ تكابدُ بين التمكينِ والخذلان،
وشابٌ يهاجر، لا لأن الغربةَ أجمل، بل لأن الوطنَ ما عاد صالحًا للحُلم.

فيا سائلي عن العراق،
هو ليس سؤالَ حدودٍ خُطّتْ بريشةِ مُحتلٍّ إنجليزيٍّ قديم،
ولا جوابَ دستورٍ خطّه من لم يفقهْ طينَ العراق.
إنه سؤالُ الدم، وسؤالُ التراب، وسؤالُ: من أنا؟

إذا ما استيقظتُ في السليمانية، وسمعتُ المآذنَ تُرفع بالعربية والكردية،
فهل أنا عربي؟ أم كردي؟ أم عراقي؟
وهل هذه الثلاثة خصوماتٌ محمودة؟
أم أنها ألحانُ وطنٍ واحدٍ في مقامِ الانسجام؟

وقد رُوي أن رجلاً من شهرزور،
لما وطئت قدماه أرضَ الحجازِ في موسم الحج،
وسمعَ الأذان، التفت إلى رفيقه مدهوشًا وقال:
“سبحان الله! حتى الأذان هنا بالكردية!”
من كثرة ما تعوّد عليه في بلاده،
وغاصَ فيه سمعُه وقلبُه حتى خُيّل إليه أن الدنيا لا تُؤذّن إلا بلغته.

أيتها العدالة، أفيقي.
أما آن لكِ أن تُنزلي العراق من دور الانتظار إلى مقام الاعتبار؟
كم ذاكرةٍ قُتلت بصمت؟
وكم ضحيةٍ صافحتْ الجلادَ تحت رايةِ “الوحدة الوطنية”؟
وكم صبرٍ تبخّر لأنه لم يُدوَّن في دفاتر المصالحة؟

يا نساء العراق:
أنتنّ أبكارٌ غير عانسات،
جباهكنّ أعلى من مؤسسات تمكينكن،
وكرامتكنّ أصدق من خُطب السياسيين.
فيكنّ المعلمة، والمهندسة، والطبيبة، وحتى فارسةُ الفرسان،
وفيكنّ الشهيدةُ التي نطقتْ بصدق:
“أنا عراقيةٌ أولًا… والباقي تفصيلٌ في دفتر الانتماء.”

ويا شباب العراق:
الهجرة ليست خيانة، بل استغاثة.
فلا تلوموا من غادر، بل اسألوا من جعله يغادر.

واذكروا - إن نفع الذكر - أني كنتُ محاضرًا في ثانوية “كاوه” للبنين في عام 1985،
عام القحط والانكماش، على وشك الهجرة،
فردعني سؤالٌ في دفتر الإنشاء:
“العسرُ في الوطن، خيرٌ من اليسرِ في الغربة.”
فيا وطنَ العسرة،
لِمَ لا تصنعُ حلمًا يسعُ أبناءك وبناتك،
بدل أن تتكدّس أحلامهم في صالات المغادرة؟
ولماذا لا يعودُ المطارُ بابًا للقدوم،
بدل أن يظل مرآةً للوداع؟

أما التراث…
فهو الأثرُ الذي يصرخ دون صوت: “كنتُ هنا.”
فهل يُعقل أن يعجز العراق - مهد الحضارات - عن صون ذاكرته؟
كأننا لم نرَ بابل،
ولم نسمع نشيدَ سومر،
ولم نقرأ ألواح أور،
وكأن دجلة والفرات لم يُلقيا إلينا بحروف الشعر،
ولا بطين الكتابة.

أيها القارئ… أيتها القارئة،
إن لم يكن الاستطلاع أداةً لفهمك،
فليكن هذا المقالُ صرخةَ وجدانك، لا قارئةَ فنجانك.

ففي العراق، لا يكفي أن تكتب… بل يجب أن تنزف.
ولا يكفي أن تُحلل… بل يجب أن تُبكي الشجرَ والحجرَ والمدر.

وأشهد أن العراق لا يُكتب عنه،
بل يُكتب منه، ويُكتب فيه، ويُكتب به.
وإن لم تُشبهك الكتابة، فلا تستحق أن تُقال.

أنور أبوبكر الجاف
ابنُ العراق… وحبره لا تحريره.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

623 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع