حين تتحوّل الأساطير إلى تشوهاتٍ في التفكير عقلياتنا البشرية ومتلازمة بعض الأوهام المجتمعية

إبراهيم فاضل الناصري

حين تتحوّل الأساطير إلى تشوهاتٍ في التفكير
عقلياتنا البشرية ومتلازمة بعض الأوهام المجتمعية

في ظل التعقيدات المتزايدة للمجتمعات الحديثة، تبرز أنماط او تشوهات فكرية تتجذر في الوعي الجمعي، بعضها ينتمي إلى المجال الرمزي والأسطوري، لكنه يتحوّل بمرور الزمن إلى موجهات سلوكية وثقافية، تؤثر في المواقف، وتعيد تشكيل نظرتنا للذات والآخر. هذه التصورات، رغم ما قد تحمله من وظائف نفسية أو رمزية، تُشكّل في حالات كثيرة عوائق أمام الفهم الواقعي، وتُنتج أشكالاً من التعصب والتضييق على إمكانيات الإصلاح الاجتماعي والسياسي.
في هذا الإطار، يمكن تناول أربع أنماط من الأوهام السائدة بوصفها نماذج دالة على كيف تتحوّل الأساطير إلى أنماط فكرية مقيِّدة: وهم القبيلة النبيلة، وهم المدينة الفاضلة، وهم السلالة الطاهرة، ووهم المجتمع المثالي.
1. وهم القبيلة النبيلة: ويستند هذا التصور إلى الاعتقاد بأن جماعة بشرية معينة، (سواء كانت قبيلة، عشيرة، سربة) تتمتع بخصائص فطرية أو مكتسبة تجعلها أرفع من غيرها. وقد يكون لهذا النوع من التصور جذور في الحاجة إلى الانتماء والهوية، غير أنه يتحوّل إلى نمط من الانغلاق الثقافي، يرفض التعدد، ويُعزز التمايزات الاجتماعية على حساب المشترك الوطني أو الإنساني. وفي السياق العراقي، تُظهر العديد من التفاعلات الاجتماعية والسياسية بعد عام 2003 إعادة إحياء واضحة للولاءات الأولية، لا سيما القبلية والطائفية، في ظل غياب الدولة الوطنية الجامعة. وقد أدى ذلك إلى تقوية بنى ما قبل الدولة، على حساب مفهوم المواطنة المتساوية.
2. وهم المدينة الفاضلة: ويمثل هذا الوهم السعي الدائم إلى مجتمع مثالي تسوده العدالة الكاملة، والتوازن التام، وانعدام التناقض. وهو تصور يُغري الوعي الإنساني، لكنه قد يتحوّل، إذا ما طُبّق بشكل أيديولوجي، إلى مصدر للاستبداد أو الإقصاء. فالمجتمعات البشرية بطبيعتها معقّدة، ولا يمكن هندستها وفق مخططات نظرية مغلقة.
تاريخيًا، ظهرت تجارب مثل النموذج السوفييتي أو مشاريع الثورة الفرنسية، والتي سعت لبناء نظم مثالية، لكنها انزلقت إلى ممارسات قمعية باسم "المصلحة العامة". وفي العراق، برزت بعد 2003 رؤى تبشيرية لبناء نظام ديمقراطي شامل، لكنها لم تُراعِ تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي، مما جعل الطموح يسبق القدرة المؤسسية على التنفيذ.
3. وهم السلالة الطاهرة: اذ رغم التقدّم العلمي في مجالات الوراثة والأنثروبولوجيا، لا يزال الاعتقاد بوجود "دماء نقية" أو "أعراق متفوقة" شائعًا في بعض الخطابات الثقافية. هذا الوهم يتعارض مع كل ما توصلت إليه العلوم، ويُستخدم لتبرير التمييز والإقصاء.
وفي التجربة النازية، أدى الاعتقاد بـ"العرق الآري النقي" إلى كوارث إنسانية. وفي السياق العربي والعراقي، تستعاد أحيانًا سرديات عن "أنساب نقية" أو "أصول شريفة"، يتم استخدامها للتمايز الرمزي والاجتماعي، رغم أن العراق تاريخيًا كان ملتقى للحضارات والهجرات.
4. وهم المجتمع المثالي: ويرتبط هذا الوهم بالاعتقاد بإمكانية إقامة مجتمع خالٍ من التناقضات والصراعات، حيث تُحل جميع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية بصورة نهائية. غير أن هذا التصور، وإن كان يستند إلى رغبة إصلاحية مشروعة، فإنه يتجاهل الطبيعة التراكمية والبشرية لأي مشروع تغيير. وفي العراق، كثير من المبادرات السياسية والشعبية رفعت شعارات شاملة للتغيير الجذري، لكنها غالبًا ما افتقرت إلى أدوات مؤسسية، أو رؤية واقعية لتدرّج الإصلاح. وهنا يتحول الطموح إلى عبء، ويُعاد إنتاج الفشل بسبب غياب التخطيط المرحلي.
وخاتمة مقالي (من الأسطورة إلى الوعي النقدي) القول إن الأوهام الأربعة، رغم تباين مضامينها، تتقاطع في نقطة أساسية: تقديم إجابات سهلة لمشكلات معقّدة، والاحتماء بمطلقات رمزية عوضًا عن الانخراط في قراءة واقعية للعالم. التحرر من هذه الأوهام لا يعني التخلي عن الحلم أو الطموح، بل إعادة صياغته في أفق نقدي يقبل التعدد، ويُدرك محدودية الإنسان، ويعتمد التدرّج والإصلاح الواقعي. وكما كتب ألبير كامو: "الوعي بالعبث لا يدعو إلى اليأس، بل إلى الشجاعة لمواجهة الحياة كما هي." ربما لا يُفضي تجاوز هذه الأوهام إلى مدينة فاضلة، لكنه خطوة أولى نحو مجتمعات أكثر إنسانية، تقبل التناقض وتُحاول إصلاحه دون ادّعاء الكمال.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

589 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع