روح يهودية من بلاد ما بين النهرين

د. أسامة شكر محمد أمين

روح يهودية من بلاد ما بين النهرين

القصة تبدأ من طريق مسدود
في يوم قائظ من أيام صيف عام ٢٠١٥، وبينما كنتُ أتجوّل في رحاب متحف السليمانية بالعراق برفقة صديقي السيد هاشم حمه عبد الله، مدير المتحف آنذاك، استرعى انتباهي شيءٌ ظلّ لسنوات عديدة حبيس إشارة عابرة في ذهني. كانت صخرة صامتة تستقر مباشرة على أرضية القاعة الرئيسية، خالية من أي تعريف أو سياق. مظهرها كان عاديًا، بل يمكن وصفه بالباهت، تغطيها طبقة من الغبار، وشكلها غير منتظم، تحمل على سطحها نقوشًا باهتة تبدو وكأنها تنتمي إلى زمن غابر. كانت ملاصقة لجدار القاعة، بجوار إحدى خزائن العرض الخشبية الضخمة، وفي موقع يصعب ملاحظته أو إثارته للاهتمام العابر.

قمت بتوثيق “صخرة كوبالا” فوتوغرافيًا في ٧ يوليو/تموز ٢٠١٥. كانت هذه الصخرة مستقرة على الأرض بين خزانتين خشبيتين للعرض تقعان على الجانب الأيسر من زاوية رؤية المشاهد. لتيسير عملية التصوير، تم رفع الصخرة ووضعها بعناية على قطعة قماش سوداء مُبسطة على الأرض. يظهر في الصورة المصاحبة صديقي العزيز هاشم حمه عبد الله، الذي شغل منصب مدير متحف السليمانية آنذاك ويشغل حاليًا منصب مدير دائرة آثار وتراث السليمانية. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين.
"ما هذا؟ لطالما نسيت أن أسألك عنه!" كانت هذه كلماتي الأولى الموجهة إلى هاشم. ابتسم وأجاب: "إنها قصة طويلة، وما زلنا ننتظر نتائج ترجمة تلك النقوش، التي يُحتمل أن تكون آرامية أو عبرية. عُثر عليها في قرية قريبة من بازيان في أواخر سبعينيات القرن الماضي." كانت هذه آخر معلومة حصلت عليها في ذلك اليوم، لكنها كانت بمثابة بذرة لقصة بدأت تتشكل في ذهني.
لاحقًا، وبمساعدة هاشم، تمكنتُ من الغوص في أرشيف المتحف لجمع خيوط أوضح حول هذه "الصخرة" الغامضة. وتكشفت لي تباعًا تفاصيل رحلتها الزمنية، استنادًا إلى سجلات المتحف والمعلومات التي حصلت عليها لاحقًا من هاشم نفسه.
إزالة الغبار عن العدسة
تبدأ الحكاية في عام ١٩٧٩، حين عثر عليها المهندس الزراعي السيد سامان محمد صديق أثناء عمله في حقل تفاح يقع في قرية كوباله (كردي: گۆپالە) بالقرب من بلدة بازيان، الواقعة في الجزء الغربي من محافظة السليمانية. في أوائل الثمانينيات، وخلال فترة إغلاق المتحف أبوابه أمام الجمهور بسبب الحرب العراقية الإيرانية، سلّم سامان الصخرة الى المتحف ووُضعت في مستودعاته.
كانت القطعة الأثرية عبارة عن صخرة غير منتظمة الشكل والأبعاد، يبلغ أقصى طول لها ٤٦ سم وعرضها ٣٩ سم وارتفاعها ٢١ سم. اللافت للنظر هو النقوش المحفورة على أحد سطحيها العلوي، والتي تتألف من خمسة أسطر من نص معين (الذي يبدو آراميا)، بالإضافة إلى سطر آخر نُقش على أحد الحواف العلوية.


"صخرة كوباله". لاحظ وجود بقايا لصبغ حديث (دهان) على سطح الصخرة، يتميز بلون يتراوح بين الرصاصي والأزرق الداكن، إلا أن الغرض من هذا الصبغ وتاريخه يظلان غير معلومين. تجدر الإشارة إلى عدم إجراء أي أعمال تنظيف على الصخرة منذ لحظة اكتشافها في أواخر حقبة السبعينات وحتى تاريخ تصويرها من قبلي في السابع من يوليو/تموز عام ٢٠١٥. لاحظ النص المحفور على سطح الصخرة. غير معروضه حاليا. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين.


"صخرة كوباله". لاحظ النص القصير المحفور على احدى الحواف غير المنتظمة، بالإضافة الى نص أطول على السطح العلوي. غير معروضه حاليا. الصورة © د. أسامة شكر محمد أمين.
المثير للدهشة أنها ظلت حبيسة مستودع المتحف، دون ترقيم أو تسجيل، ولم تُعرض إلا في ٢٥ ديسمبر عام ٢٠٠١. لقد غابت عن أعين موظفي المتحف وذاكرتهم، لتضيع بين محتويات المستودع المنسية. في ذلك اليوم، زار السيد سامان المتحف بنفسه (أُغلق المتحف رسميا عام أواخر عام ١٩٨٠ وأُعيد افتتاحه لفترة وجيزة بعد انتهاء الحرب العراقية - الإيرانية عام ١٩٨٩، ثم أُغلق مرة أخرى ليُفتح نهائيًا في أغسطس ٢٠٠٠). روى سامان لهاشم قصة هذه الصخرة، وكان هذا اللقاء بمثابة نفخة حياة أعادت الروح إلى هذا الأثر الصامت.



تُقدم هذه الصورة الفوتوغرافية منظرًا للسطح السفلي لما يُطلق عليه "صخرة كوباله" والذي يخلو من أي نص. جرى تسجيل هذه القطعة الأثرية رسميًا تحت الرقم المتحفي "١٠٠٢ م. س" بتاريخ الخامس والعشرين من شهر ديسمبر من العام ٢٠٠١ ("م. س" تعني متحف السليمانية). حاليًا، لا تُعرض هذه الصخرة ضمن مقتنيات المتحف المتاحة للزوار. يلاحظ وجود الرقم "22" بالإنكليزية متبوعة بخطين أفقيين أسفلها، والتي لا يتضح معناها لي ولم اتلق اي جواب من القائمين على المتحف. الصورة © للدكتور أسامة شكر محمد أمين.
في ٢٥ ديسمبر عام ٢٠٠١، سُجلت الصخرة أخيرًا وحصلت على الرقم "١٠٠٢ م. س" بفضل جهود هاشم، الذي قام بعرضها في القاعة الرئيسية في اليوم التالي، ولكن يا للأسف، دون أي وصف تعريفي وفي مكان صعب الملاحظة و على الأرض. مرة أخرى، تدخل القدر وتآمر النسيان. ظلت الصخرة معروضة، لكنها لم تحظَ بأي اهتمام، وكأنها يتيم تائه في صحراء قاحلة. وبعد فترة، رُفعت الصخرة مرة أخرى لتستقر في مكان مجهول في المخزن حتى يومنا هذا. لاحقًا، علمتُ أن فريقًا أثريًا فرنسيًا كان يجري تنقيبات في منطقة بازيان بين عامي ٢٠١١ و ٢٠١٦، بالإضافة إلى دراسة النصوص والمخطوطات والنقوش الآرامية والعبرية والسريانية في كردستان. تركز عملهم على أنقاض كنيسة مسيحية قديمة في بازيان، يُرجح أنها تعود إلى العصر الساساني أو بدايات الفتح الإسلامي للمنطقة. في منتصف عام ٢٠١٣، وخلال زيارة للفريق الفرنسي إلى المتحف، ذكر لهم هاشم، بصورة عابرة، أن هذه الصخرة قد عُثر عليها في بازيان، وتساءل عما إذا كان بإمكانهم التعرف على النقوش التي تحملها. المفاجأة كانت مدوية عندما علّق البروفيسور "آلان" قائلاً: "هذه ليست آرامية، بل عبرية على الأرجح". وعلى الفور، التقط البروفيسور آلان صورًا للصخرة، ورسم النقوش بدقة، ثم انكب على ترجمتها على مدار شهر كامل.
النقش: تحول جذري
وهنا انكشفت الحقيقة: لم تكن الصخرة مجرد حجر عادي بنقوش باهتة، بل كانت شاهد قبر أمر بصنعه رجل تخليدًا لذكرى والدته المتوفاة، "سيبوره بنت دان، متمنيًا لها الرحمة والبركة في جنات عدن". يشير التاريخ المنقوش إلى عام ١٦٦٩ حسب التقويم السلوقي، أي ما يعادل تقريبًا عام ١٣٥٧/١٣٥٨ ميلاديًا. يقال ان هناك شاهد قبر مماثل يعود إلى نفس الفترة الزمنية، وهو محفوظ حاليًا في المتحف العراقي ببغداد.
إذًا، كان هذا الأثر شاهد قبر نُحت قبل حوالي سبعة قرون باللغة العبرية لامرأة يهودية رحلت عن عالمنا. في نظري، وعلى الرغم من قصر النص، إلا أنه يمثل دليلًا باقٍيًا ورائعًا يؤكد على وجود بيئة متعددة الأديان في بلاد ما بين النهرين عبر التاريخ. لقد تعايشت الديانات السماوية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام) بسلام لقرون عديدة في هذه الأرض المباركة.
اليوم، سكان بازيان هم من الأكراد المسلمين (يوجد القليل جدا من العرب النازحين بسبب الظروف الامنية). إن وجود هذا القبر اليهودي، الذي لم يمسه أحد بسوء أو يدنسه، جنبًا إلى جنب مع بقايا كنيسة مسيحية في نفس البقعة الجغرافية الصغيرة، لهو دليل قاطع على مجتمع كان يتمتع بقدر عالٍ من التحضر والتنوع الثقافي والعرقي واللغوي في بلاد ما بين النهرين، حيث انصهرت هذه المكونات المختلفة لتشكل نسيجًا واحدًا متماسكًا ومتحدًا، يعيش أفراده في وئام وسلام لأجيال طويلة. أتذكر جيدًا حكايات والديّ عن جيرانهم في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، حيث كان العديد منهم، بمن فيهم أقرب أصدقاء طفولتهم، من الطائفة اليهودية. لقد كان اليهود جزءًا أصيلًا من المجتمع العراقي ووادي الرافدين. أما اليوم، فيبدو أن الاضطراب الديموغرافي الذي يشهده الشرق الأوسط مستمر بلا نهاية، ولكن لمصلحة من؟
ختامًا، لم تُجرَ أي أعمال تنقيب أثرية في الموقع الذي عُثر فيه على شاهد القبر. ربما، إذا تمكنا من العثور على الهيكل العظمي لتلك المرأة، أو حتى على بعض رفاتها، فقد نتمكن، من يدري، من تتبع أثر نسلها من خلال تحليل الحمض النووي. تُرى، أين هم أحفاد "سيبوره بنت دان" اليوم؟

*طبيب استشاري في طب الاعصاب وزميل كليات الأطباء الملكية في ادنبرة وكلاسكو ولندن ودبلن
ملاحظة: ترجمتي (بتصرف) لمقالي المنشور بالإنكليزية في موسوعة التاريخ القديم. جميع الصور حصرية وحقوق الملكية الفكرية لها محفوظة للدكتور أسامة شكر محمد أمين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

898 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع