عائشة سلطان
مدن الروح
بعض المدن أسميها مدن الروح، تلك التي تقع في روحك قبل أن تسقط أنت في حبها، في حب هواها ونسائمها وجبالها وخضرتها، وطراز معمارها وطقوس أهلها ومقاهيها وأزقتها وأحيائها القديمة وأسواقها وتحفها ومتاحفها، لن تحتاج لمرشد يأخذك من يدك ويقود خطوك في هذه المدن، كل ما ستحتاج إليه هو أن تحبها فقط، والحب سيتكفل بإرشادك لجميع أبوابها التي ستفتح لك دون تردد.
هذا يقودنا إلى وعي التجارب، وكيف تتأسس اختياراتنا لكل ما يمر ويعرض لنا في الحياة، حيث يشكل سفر البدايات بالنسبة لنا فرصة ذهبية للمعرفة والاكتشاف وممارسة الدهشة أمام المختلف والجديد الذي نراه ونلمسه ونتذوقه ونجربه للمرة الأولى.
عندما وقف معظمنا لا تتقدمنا سوى بضعة أعوام تختلط فيها الطفولة بالمراهقة، والسذاجة بانعدام الخبرة، أمام المسلة والهرم وناطحة السحاب والجسر المعلق ومتاحف الفنون ومباني الجامعات الضخمة والشوارع الهائلة والطائرة ومحطة القطارات، فاغري الأفواه تعدو الفرحة قبلنا بينما لا تتخلل رؤوسنا سوى فكرة واحدة؛ اقتطاف المتع الصغيرة، أكثرها ومتاحها بقدر ما نستطيع.
كل المدن يومها كانت مدناً مفتوحة على الدهشة، لكننا يوماً بعد آخر، وسفراً في إثر سفر، وتجربة تتلو تجربة، صارت مدن الدهشة تتقلص بعد أن هدأ القلب وامتلأ وفاض وعاء الأيام بما لم يكن على البال، صارت الاختيارات مختلفة، والمدن قليلة جداً، ضاق العالم وتساقطت كل تلك الأمكنة التي انزوت وصارت مجرد ذكريات تذكرنا بسوق وعطر ومطار ودكان ملابس وانتهى الأمر، لتحل محلها مدن نذهب إليها لأننا نحبها لا أكثر ولا أقل، تلك هي مدن الروح.
بعيداً عن مدينة روحي الأولى؛ دبي التي لا تنافسها مدينة، فإنني أعتبر القاهرة من مدن الروح، وكذلك بيروت في سنوات خلت، حيث يشدني إليهما الحنين دوماً ولا يزال، أما إسطنبول فهي مدينة لا تشبهها مدينة بالنسبة لي، فيها كل ما تتمناه الروح والحواس معاً، التاريخ والحاضر، الفن والدين، القصور والمنازل البسيطة، البحر والجبال المكللة بالثلوج، الأسواق التي بلا عدد، القطط التي بلا حصر، قوائم الأطعمة التي بلا نهاية، إسطنبول مدينة المدن.
766 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع