د. محمد عياش الكبيسي
في تراثنا الإسلامي هناك مقولات كثيرة لضبط العلاقة بين العلم والسياسة، أو العلماء والأمراء، كلها تصب في نسق واحد مؤداه "نعم الأمراء على أبواب العلماء، وبئس العلماء على أبواب الأمراء" وقد جاء في تعليل هذه المقولة:
"لأن العلماء إذا خالطوا الأمراء رغبوا في الدنيا، وإذا خالطهم الأمراء رغبوا في الآخرة" ومع ما لهذا التعليل من قيمة إيمانية عالية إلا أن الإمام مالك بن أنس يضيف قيمة أخرى، ففي رده على طلب الخليفة هارون الرشيد أن يأتي إليه ليعلمه وولديه الأمين والمأمون الموطأ قال الإمام مالك: (إن العلم منكم خرج فإن أعززتموه عز، وإن ذللتموه ذل، والعلم يؤتى ولا يأتي) فقال له الرشيد: صدقت، ثم جاء مع ولديه إلى بيت الإمام مالك وأخذوا عنه الموطأ، وهذا أمر شائع في تراثنا، وهو لا شك جزء من أخلاقيات الدولة العريقة.
قبل الدخول في تحليل هذه المقولات لا بد من الإشارة إلى ملحوظتين هامتين:
الأولى: أن الأمراء المشار إليهم في هذه المقولات هم خلفاء المسلمين في عصور الخلافة المختلفة، وقد كانت لهم بيعة شرعية في أعناق أولئك العلماء، وهذه مسألة تحتاج إلى تحليل أعمق، حيث إن العلماء كانوا يرفضون طلب الخلفاء بالمجيء إليهم أو التردد على مجالسهم، مع أن هذه ليست معصية، وهذا يشكل في فهم القاعدة المعروفة (السمع والطاعة في غير معصية الله) لكن العلماء ربما كانوا يرون أن شبهة تسييس العلم وترويضه لصالح السلطان أخطر من الذنوب نفسها.
الثانية: أن الكثير من أولئك الخلفاء والأمراء كانوا علماء بالفعل وربما بلغوا مرتبة الاجتهاد، وهو شرط من شروط الإمامة العظمى عند أغلب الفقهاء! ولذلك فقد يكون الفارق بين الفريقين فارقا اعتباريا، خاصة أن العمل السياسي لا بد له من منطلقات ثقافية وفكرية تشكل مبررات تكوينه وآصرة انتمائه.
اليوم بعدت الشقة بين الفريقين في أغلب دولنا الإسلامية، وكان سقوط الخلافة عنوانا مفصليا حادا بين تاريخين مختلفين تمام الاختلاف، وأصبح العلماء والمفكرون المنتمون إلى هوية الأمة وثقافتها أمام امتحان صعب، وقد تعرض الكثير منهم إلى انتهاكات صارخة طالت الأجساد والأعراض والأموال، ولم تعد المحنة هذه المرة من أجل الحفاظ على هيبة العلم أو استقلالية المعرفة، ولا من أجل تصحيح مقولة في القدر أو رأي في القرآن، وإنما للوقوف أمام غزو ثقافي مسلح يستهدف القرآن كله والسنة كلها وحتى اللغة والتاريخ والعادات والتقاليد، وفي المقابل كان هناك علماء ومثقفون لا يتورعون عن مد الأنظمة هذه بما تحتاجه من الفتاوى والآراء والخطابات وبحسب الظروف والمناسبات، وقد سمعت عن أحدهم وقد استضيف في التلفزيون ليتحدث عن موقف الإسلام من مسألة تحديد النسل، فكان يسأل مقدم البرنامج عن رأي الحكومة حتى يهيئ نفسه! وربما كان المفتون الرسميون في الدولة أكثر عرضة لهذا الانزلاق، كما رأينا مؤخرا من المفتيين السوري والمصري، وبين الموقفين هناك طيف متعدد وواسع تجمعهم المواقف التوفيقية والميل إلى تجنب المواجهة والسير في ظلال الجدران، وهو موقف قد يبدو طبيعيا ومتوقعا تحت سطوة الترغيب والترهيب التي تمارسها الأحزاب الحاكمة.
هناك صورة أخرى غير العلاقة بالسلطة الحاكمة قد تكون أشد تعقيدا، وهي انتشار العمل السياسي المنظم جماعات وأحزابا وتيارات مختلفة ومتباينة وموزعة على التوجهات الفكرية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ولم يكن الإسلاميون بمنأى عن ذلك حيث رأوها وسائل متاحة للتغيير أو الإصلاح، وهنا نشأت مجادلات جديدة حول ضوابط العلاقة مع هذه العناوين واللافتات الجديدة.
في العراق حدثني الشيخ محمود اللافي وهو من أبرز الدعاة على مستوى محافظة الأنبار أنه سأل الشيخ عبدالعزيز السامرائي رئيس المدرسة الآصفية وأكبر علماء الأنبار فقال له: إننا نواجه أحزابا لا دينية شيوعية وبعثية وقومية وليس عندنا ما نحافظ به على شبابنا إلا تنظيم الإخوان المسلمين، حيث يقومون بتربية الشباب وتوفير الأجواء والأنشطة المناسبة والمحافظة، فقال الشيخ السامرائي: لا بأس بهذا بالنسبة للشباب أما العلماء فلا! لأني أريد من العالم أن يبقى للأمة كلها، وأريد من إمام المسجد أن يكون إماما للمسلمين كلهم وأخشى أن يقال: هذا مسجد للإخوان وهذا مسجد للآخرين وهكذا، قال اللافي فنهض الشيخ محمد الفياض وهو المربي والمصلح المعروف فقال يا شيخ: وهؤلاء الإخوان إذا تركهم العلماء فإنهم سيضلون وينحرفون وحسن النية لا يكفي.
هذه عينة من المجادلات السائدة منذ سقوط الخلافة وظهور التنظيمات السياسية المختلفة وإلى اليوم، إلا أن هذه المجادلات لم تفرز نظرية متكاملة وقابلة للتطبيق، وإنما أفرزت، كما هائلا من الإشكالات المستعصية على الحل رغم طول العهد وكثرة التجارب.
والذي يبدو أن الإشكال الحقيقي هو ضعف التوازن في تلبية الحاجات المختلفة للأمة أو للمجتمع والتي يصعب الجمع بينها وفق النظريات الأحادية، والتي ما زالت تمثل سمة عامة في التفكير العربي، فالعمل السياسي ضرورة لا غنى عنها، كما أن الإنتاج المعرفي والاجتهاد العلمي ضرورة أخرى لا تقل عن الأولى، ولكل منهما دائرة تتجافى عن الأخرى في جوانب وتلتقي معها في جوانب أخرى، هذا في الوضع الطبيعي والمطلوب بغض النظر عن مشاريع الهيمنة والاستحواذ أو التزلف والتملق.
فالمفكر يبحث عن الحقيقة، والسياسي يبحث عن المصلحة، والمفكر يقول كل ما توصل إليه ببحثه واجتهاده، والسياسي لا يقول إلا ما يحقق المصلحة التي يراها، المفكر شاهد ولو كانت الشهادة على نفسه أو أهله، والسياسي مقاتل يكر ويفر بحسب طبيعة المعركة، المفكر لا يستعين إلا بالحجة والدليل، بينما يستعين السياسي بالمال والإعلام والخيل والرجال، وفي مقابل هذه المقارنات هناك مساحة للتوافق، فالمفكر يبحث عن الأرض التي تضمن له حرية التفكير ومن هنا نرى انحياز المثقفين في الغرب للديمقراطية كنظام سياسي وليس كثقافة مجتمعية مجردة، كما أن العمل السياسي لا يستغني بحال عن الرؤية العلمية والتوصيف الدقيق لطبيعة المشكلة والحلول الممكنة، ولذلك نرى أنجح الأحزاب هي تلك التي تمتلك مراكز بحثية متطورة تمدها بالخبرة والقراءة السليمة للأمور.
إن دائرة العلم والمعرفة ينبغي أن تبقى منهلا عاما للأمة للسياسيين ولغيرهم وصمام أمان لهوية الأمة ووحدتها ومنظومتها الثقافية والقيمية، ومن الخطأ والخطر أن تجر هذه الدائرة إلى ساحة المنافسات والمناكفات السياسية، فهذا منذر بتفتيت الأمة وضياعها، وليس معنى هذا تحريم العمل السياسي على العلماء والمفكرين، لكن العالم الذي يختار الانخراط في تنظيم ما عليه أن يكون واضحا مع أمته فيما إذا كان ملتزما بلوائح تنظيمية والآليات المتبعة عندهم في اتخاذ القرار التزاما برأي الأغلبية أو انصياعا لأمر القيادة أم لا، فما يلتزم هو به لا يمكن أن يلزم به الأمة، والفصل بين هذا الالتزام وبين ضوابط الاجتهاد الشرعي ضرورة دينية وأخلاقية، ومع كل هذا فعليه ألا يتوقع بقاء مصداقيته العلمية في نفوس الناس بذاك المستوى مهما حاول التوفيق بين الدائرتين، وإذا كان الخلفاء الراشدون قد تنبهوا مبكرا إلى ضرورة الفصل بين السلطة السياسية والسلطة القضائية حتى لا يتهم القضاء بالخضوع لهيمنة الخليفة، فالفصل اليوم بين دائرة الاجتهاد الشرعي والإنتاج الفكري وبين دائرة العمل السياسي والانتماء الحزبي ضرورة أخرى لا تقل عن الأولى، وحسن النوايا أو حسن الظن لا يكفي.
1435 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع