إبراهيم الزبيدي
إن من المُسلمات الثابتة أن العاقل لا يدعو مؤمنا إلى الإيمان، ولا مقتنعا إلى الاقتناع. ولكن الممكن فقط دعوةُ المؤمن إلى زيادة إيمانه، والمقتنع إلى تثبيت قناعته وتعميقها. وأسوأ المغنين هم الذين لا يُطربون سوى أنفسهم وقلةٍ من الأقربين.
وعلى ذكر الإذاعة الجديدة التي تمخض عنها اجتماع وزراء إعلام الخليج العربي، والتي كشفوا هويتها الخليجية من قبل أن تبدأ فأسموها «هنا الخليج العربي»، فالفكرة ليست سيئة إذا كان الغرض منها تنوير المواطن الخليجي وتبصيره بجدية المصاعب المتصاعدة من حوله، وإعادة شحن معنوياته، وحشد طاقاته الروحية والفكرية والاقتصادية لمواجهة العدو الذي لم ولن يتردد في استخدام جميع الأسلحة، ومنها بل في طليعتها الإعلام، من أجل زعزعة استقرار الخليج وتمزيق وحدة مجتمعاته الآمنة.
وتكون الإذاعة ضربة معلم إذا كان هدف وزراء دول الخليج منها تنقية الشخصية الخليجية مما علق بها من أوهام الحصانة الذاتية المُفترضة التي تحميها من الغزو الفكري المذهبي الوافد من وراء الحدود. خصوصا وأن الأحداث المتلاحقة أثبتت أن اليد الإيرانية لم تجد صعوبة كبيرة في اختراق النسيج الاجتماعي الخليجي وإحداث فجوات واسعة فيه. فقد نجحت في الهيمنة على شرائح واسعة من أبناء الخليج الشيعة (وبعض السنة أيضا) وتجنيدهم في تنفيذ مخططاتها العدائية المتصاعدة.
ولكن ما الحجم الذي توقعه وزراء الإعلام الخليجيون لمقدرة هذه الإذاعة الجديدة على اجتذاب الأذن الخليجية واستقطابها، وسط طوفان الإذاعات والفضائيات والصحف والمواقع التي تجعل النفاذ من زحمتها إلى المستمع المطلوب مهمة شاقة إم لم تكن مستحيلة؟
ولكن هذه الإذاعة تصبح قطرة ضائعة في بحر هائج إذا كان الهدف منها مقارعة الحشد الهائل من الفضائيات والإذاعات والصحف والمواقع الإلكترونية التي يمولها ويصمم خطابها نظام الولي الفقيه ويستخدمها لتوسيع دائرة المُحبَطين من عرب الخليج والعراق وسوريا ولبنان وغيرها، ودفعهم إما إلى الاستسلام لإرادة السيد الجديد، أو إلى السقوط في دائرة الانتقام المسلح بشعارات مذهبية انفعالية متشددة تغذي الحرب المطلوبة، إيرانيا وأمريكيا وإسرائيليا، لاستنزاف المزيد من الدم
العربي والمال والجهد، وإشغال الحكومات بمعارك وحروب تشغلها وتشتت جهودها وتمزق جبهاتها الداخلية قدر المستطاع.
والذي تنبغي معرفته هنا أن الذي تديره إيران من وراء الستار وتموله من أجهزة الإعلام نوعان، الأول داخلي مخصص، بإتقان وإلحاح، لأغراق المواطن الشيعي العربي، والخليجي على وجه التحديد، بالمفاهيم والعقائد والطقوس التي تزيد فيه نار الطائفية الدفينة اشتعالا، وتضاعف حماسه في خدمة أهدافها المرحلية التي تريد لها أن تفضي إلى ما هو أعظم.
أما الثاني فهو ذلك الإعلام الموجه إلى الخارج، وبالتحديد إلى المواطن الآخر الذي يرفض هيمنة إيران، ويعارض فكرها الظلامي ويدين سلوكها العدائي تجاه شعوب المنطقة.
وأغلب ما يكون هذا النوع من الإعلام الإيراني مُموَها ومُدثَرا بثياب الحياد والموضوعية، إلى الحد الذي يصعب معه كثيرا كشفُ تبعيته لإيران. فهو لا يجد غضاضة في مهاجمة إيران، ذاتها، وأهدافها التوسعية في المنطقة، ولكن مع الإكثار من تعظيم قوة جيوشها ومليشياتها وأتباعها ومناطق نفوذها في الدول العربية والتلويح بقدرتها على التخريب. وزيادة في التمويه فهو لا يستخدم كتابا ومذيعين ومحللين مكشوفي التبعية لولاية الفقيه، بل يحرص دائما على استخدام شخصيات مثقفة من بقايا اليساريين والبعثيين والناصريين المتمرسين في تلميع شعارات المقاومة والممانعة والتحرير ومعاداة الامبريالية والصهيونية، والمتمكنين المبرزين في إلباس الباطل ثيابَ الحق، وخلط الطين بالعجين.
ولا تكتفي إيران بضخ هذه العينة من الكتاب والمحللين في الإذاعات والفضائيات التي تملكها، وحسب، بل هي تعمل جاهدة على تجنيد أعداد كبيرة منهم للتغلغل في فضائيات وإذاعات عربية وأوربية وأمريكية عريقة واسعة الانتشار، مثل (البي بي سي) و(سي إن إن) و(مونت كارلو) وغيرها بالعشرات، وبأقصى ما تستطيع.
ومع الإقرار بأن لدول الخليج عشرات بل مئات الفضائيات والإذاعات والمواقع والصحف، لابد من الاعتراف أيضا بأن (الإخباري السياسي) منها مفضوح الهوية ومكشوف التبعية لهذه الحكومة الخليجية أو تلك. أما الباقي، وهو الأكثرية، فهو تجاري محض يجري وراء الكسب المالي، ولا تهمه السياسة من قريب أو بعيد.
أليس إذن من حقنا إذن أن نتمنى ألا تكون إذاعة «هنا الخليج العربي» واحدة ضائعة في أكوام الإذاعات المتزاحمة على مستمعين مشغولين أساسا بألعاب الإنترنيت ورسائل الفيس بوك وتويتر ويو تيوب.
إن حروب الإعلام اليوم حروبٌ دامية، فضائية وإنترنيت، أكثر من أي شيء آخر. أما عدا ذلك فألعابٌ للتسلية، وإهدارٌ للمال والزمن والجهود، ونفخٌ في قِربٍ مثقوبة، مع الأسف الشديد.
1697 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع