د. صبحي ناظم توفيـق
14 شباط 2025
رسالة وداع وختام إلى أخي الحبيب "معروف حسين رضا"
مساء الأحد 9 شباط 2025 فوجئتُ وفُجِعتُ برسالة عمّمها أخونا الموقر وأستاذنا الكبير "أرشد الهرمزي"، يعلِمنا بوداعك لنا في هذه الدنيا يا صديق عمرنا الحبيب وأخينا الوفي العزيز "معروف حسين رضا بَري".
لم يكن الخبر صاعقاً مؤلماً هزّني في أعماق أعماقي، بل ألْصَمَ لساني مصحوباً بدموع إنهمرت غزيرة على خَدَّيَ ساعة أو تزيد، حتى تناولتُ المصحف الكريم لأتلو على روحك الطيبة المعطاء سورة يس التي ما كنت أختمها حتى أقيم ركعتين من الصلوات مع الدعوات التي تواصلت حتى الفجر من دون توقّف.
واليوم مسكت القلم مُحـتاراً في أمري يا حبيبي "معروف" من أينَ أبدأ وبماذا؟؟؟ فالعَلقَم الذي قلّما ذُقْتُ مثيلَه طيلة حياتي التي تجاوزت عقدها الثامن يُحَيِّرُني، إذْ أُخاطِبك من هذه الدنيا الدنيئة وأنتَ في جنات خُلْد فردوس بإذن اللّه تعالى، بعد أن حُرِمتُ من أن أشمّ رائحتك المِسك وأستقي من عينَيك نظرات العزم والحزم عند الشدائد والمصاعب والمصائب في ما تَبَقّى العمر، الذي كم أتمنّى أن لا يطول حتى تلتقي روحانا من جديد، رغم عدم أستشعاري أنك فارَقتَني، لأن روحك الطيبة ستظلّ تحيطني وتحوم حولي من حيث أدري ولا أدري، مثلما كان حالها طيلة ستة عقود إنصرمت وكأنها بضعة أيام، لم نختلف خلالها على شيء يوماً أو بعض يوم، قضيناها أشبه بأخَوَين بل أكثر من ذلك بكثير.
كان شهر تشرين الاول 1961 حين إحتوتنا حدائق نادي الأخاء التركماني ببغداد في حفل التعارف السنوي المعتاد للطلاب التركمان الجُدُد في الكليات والمعاهد والذي يُقام في أوائل كل سنة دراسية جامعية، حيث تحابَبنا وتصادقنا.. كنتَ في مطلع العام الدراسي الثالث من كلية الهندسة بجامعة بغداد، وانا بالمرحلة الأولى من الكلية العسكرية.
تَلَمَّسْتُكَ بإنقضاء الأيام ومضيّ الأعوام وسنوات العمر وصقل الحياة -كما تلمّس فيك كل من جالسَك عن قرب- إنساناً بكل ما في الكلمة من مَعانٍ، مجتهداً، محبوباً، ذكيّاً، متفوّقاً، محترماً، وَدوداً، حَسَنَ الهندام، ذوّاقاً في مرتدياتهِ، سَلِس الكلام، ممتِع الحديث، مُجيد الإنصات، حاضر البديهة أثناء المزاح وعند يجدّ الجدّ، حَسَنَ المَعشر، دَمِثَ الأخلاق، كريم النفس عزيزها، معتدل الآراء، واصل الأرحام، صائب القرار، هادئ الأعصاب، حازماً في الشدائد وحاسماً متى ما تطلّب الأمر ذلك، متواصياً بالحقّ والصبر، شجاعاً لا تأخذه في قول الحقّ لومة لائم، فاضلاً، متواضعاً، مدرِكاً للأمور ومقدِّراّ بأن لكل مقام مقال، مستحضراً على طرف لسانك المئات من الحِكَم والمواعظ، زاهداً بأمور الدنيا، نظيف اليد، عزيز النفس، مترفِّعاً عن المادّيات في أحلك الظروف، لم تَغُرْكَ المُغرَيات فقد كنتَ -على علوّها- أرفع منها وأعظم.
لذلك ولأسباب عديدة لا تُحصى، أجلّك الجميع صغاراً وكباراً، أقرباء وأصدقاء ومعارف وجيراناً، فإحترموك عن قناعة وأحاطوا بك وإرتاحوا لحسن إستقبالك لهم ببشاهتك المعهودة، ليس من أجل مصلحة بل تقرّباً لشخصك ومواصلةً لصداقتك، وتمتّعاً برؤياك ومزاحاتك، والإستماع لأحاديثك الممتعة والمليئة بالحكمة والموعظة الحسنة والنصح والإرشاد ودروس الماضي.
وعلمتُ يا"معروف" إنك وُلِدْتَ عام 1942 في "كركوك" الحبيبة من أبوين تركمانيّين وسط عائلة معروفة ذائعة الصيت، لم يَدُرْ ببالك أي نوع من التعصّب لأنك َتَرَفّعْتَ عنه في صباك وسنيّ شبابك بل وطوال حياتك، فقد نشأتَ مُترَعرِعاً في كَنَف مُربّي الأجيال المحبوب لدى الجميع الأستاذ "حسين رضا بَري" والذي كان مديراً للمدرسة الشرقية الإبتدائية في مدخل محلّة "بِريادي" بالصوب القديم من "كركوك"، والذي وافق -لكونه صديق والدي- على قبولي في الصف الأول الإبتدائي بعمر 5 سنوات فقط إستثناءً من شرط العمر الذي كان ينصّ على أن يكون 7 سنوات... ذلك الأستاذ المخضرَم الذي تخرّج من بين يديه المئات بل ربما الآلاف من مثقّفي لواء/محافظة كركوك.
وأعلم كذلك أن معدّل علاماتك عند تخرّجك في الفرع العلمي لثانوية كركوك عام 1959 هو من أهّلَك بجدارة للقبول بكلية الهندسة على نفقة وزارة الدفاع، رغم تفضيلك إتمام دراستك الجامعية خارج العراق.
وأشهد كَمْ ذاع صيتك وبقيتَ مرموقاً ومحبوباً يحترمك الجميع في صنف الهندسة الآلية الكهربائية لجيشنا الوطني العزيز، لمّا غدوتَ من المهندسين البارزين بالصناعات الحربية، والتي أفدتَ بها وطنك أعظم بكثير مما أفدتَ ذاتك وأولادك، حتى فوجئتَ -ونحن معك- من إحالتك على التقاعد برتبة "مقدم مهندس" في مقتبل العمر، لمجرد تسمية أولادك بأسماءً تركمانية!!!!
وأشهد، وأنا صديق عمرك الحميم -كما يشهد الآخرون- إنك لم تَنْتَمِ لحزب البعث بتاتاً، على الرغم من الضغوط التي مُورِسَت عليك، مثلما نأيتَ عن جميع الأحزاب السياسية، سواءً خلال العهود المنصرمة أو بعد زوال النظام السابق.
ولا أنسى دموعك التي إختلطت بدموعنا مع كل محبيك في الكارثة المؤلمة التي صَدَمَتك وصَدَمَتنا، وقصمت ظهرك وقلبت حياتك وكل العائلة رأساً على عقب، حين أُستُشهِد نجلك البِكر "المهندس سلجوق" على أيدي مسلحين غدّارين في ضواحي "كركوك" الحبيبة، لدى إشرافه على ترميم شبكات الكهرباء المدمرة على أيدي السفلة المجرمين بحق وطننا العزيز.
والآن لا أبتغي إلاّ إجابة على تساؤل يتيم ما زال وسيظلّ يحرق جَوفي ويؤرّقني، منذ لحظة تلقّيَ ذلك الخبر المشؤوم:- ((كيف تجرّأت تلك الأيادي المجرمة والشخوص الساقطة وأصحابها -وهم بالتأكيد من الحثالات والسفلة والمنحطين- الإقدام على هذا العمل الخسيس والغدر بـ"سلجوق"؟؟ ومن الذي أوعز لهم ووجّههم؟؟ ومن يقف وراءَهم؟؟ ومن أجل ماذا تصرّفوا؟؟ هل حيال شخصك؟؟ أم بحق ذلك الشاب المثالي الذي لم يخدم غير العراق بكل ما أوتيَ من غيرة وعزم وحزم وعقل وقلب مؤمن وبمنتهى النظافة التي أمست نادرة في بلدنا المُخرَّب والمحترق، رغم أنكما لم تَرْضَيا أن تقتحما أياً من طُرُز السياسة المُقْرِفَة التي يمكن-أسوةً بالمال- أن تُفرِّق الأخ عن أخيه والأب عن ولده!!!؟؟؟)).
وختاماً تبدو وكأن لحظة الفراق المؤقّت قد حلّت، إذْ يحزّ في نفسي المتألّمة المتوجّعة أن أودّعك بهذه الأسطر الضئيلة، والتي لم تَشْفِ ولو بعضاً من غليلي، أو تُهَدِّئء جزءاً من إرهاصات فراقك الذي لا يَغلى عليه أي غالٍ أو نفيس، أو تَحُدّ من دموعي المنهمرة مدراراً منذ يومين، وبالأخصّ الأخصّ في لحظات هذا الفراق الموجع، في حين تظلّ روحك الطيبة الحائمة في جنات نعيم نبراساً ينير حياتي ويصاحبني، ولا يمكن معه أن أنساك ولو للحظة مما تَبَقّى من عمري.
ولكن الذي سوف لا يُهَوِّنَ عليّ بعض الشيء أنني وقتما أفتقدك، فأني لا أكتمك بأن لا أحد يمكن أن يعوّضني عنك أو يحلّ في نفسي وقلبي محلّك... فأني أُخاطبك أن تنام، يا أخي الحبيب رغيداً، قرير العين، هانئاً بملىء جفونك ولا تكترث، فأنت وَمَنْ سَبَقَكَ من الأجلاّء والشرفاء من الطراز ذاته سنلحق بكم، بعد أن أمسينا في خريف العمر.
فوداعاً يا أخي الغالي "معروف حسين رضا بَري"، ومن العليّ القدير والواحد الأحد، على روحك الطاهرة المعطاء، مليون مليون رحمة، فأنتَ أنتَ أهلٌ لها.
وأخيراً لا يسعنا إلاّ أن نستذكر أن لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا، وإنا للّه وإنّا إليه راجعون، شئنا ذلك أم أبينا، فتلك إرادة العليّ القدير الذي لا يُرَدُّ مهما طالت أعمارنا في هذه الدنيا الدنيئة.
مخلصك وصديق عمرك
د. صبحي ناظم توفيـق
إستانبول في 14 شباط 2025
1225 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع