الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
الدكتور عادل البكري: سيرته وأبرز آثاره - الجزء الثاني
الدكتور عادل البكري (1930-2018) شخصية موسوعية ومن الشخصيات القليلة التي تجمع بين التخصصات الإنسانية والطبية والفنية، عمل باتجاهات كثيرة وأبدع فيها وترك بصماته الواضحة عليهما، فهو بحق قامة موصلية نفتخر بها ومبدع عراقي نعتز به.
الوظائف التي شغلها بالعراق:
شغل الدكتور عادل البكري منصب رئيس صحة الموصل سنة 1963، ثم نُقل بعد انقلاب 18 تشرين الثاني الذي قاده الرئيس الراحل عبد السلام عارف سنة 1963 الى الكوت وأصبح رئيسا لصحة الكوت (محافظة واسط) سنة 1965، ثم عاد ثانية إلى الموصل وتسلّم رئاسة صحتها سنة 1968.
ثم نُقل الدكتور عادل البكري إلى بغداد وأصبح نائب رئيس مؤسسة مدينة الطب فيها عام 1970، ثم عاد إلى الموصل وأصبح مديرا لصحة محافظة الموصل ثانية عام 1968، ثم مديرا للصحة المدرسية عام 1976. كما أصبح عضوا في اتحاد المؤرخين العرب عام 1988.
نشاط أكاديمي متميز:
خلال عمله في وزارة الصحة، لم يكن الدكتور البكري بعيدا عن النشاط الاكاديمي، فلقد دُعي لتدريس مادة (آداب الطب) في الجامعة المستنصرية ببغداد في أواخر السبعينات من القرن الماضي، فضلا عن استمراريته في حضور الندوات والمؤتمرات العلمية والاكاديمية داخل العراق وخارجه. وكانت آخر تلك الندوات التي اسهم فيها تلك التي اقامها قسم اللغة العربية بكلية الآداب/ جامعة الموصل في نيسان 2008 وعنوانها: ( الملا عثمان الموصلي .. عبقرية الابداع). وفي تلك الندوة القى الدكتور البكري بحثا قيما بعنوان: "عثمان الموصلي وأبو العلاء المعري: موازنة بينهما"، وقد نال اعجاب الحاضرين وتقديرهم.
الدكتور عادل البكري يكتشف قبر الشاعر المتنبي:
من الإنجازات المهمة والمعروفة للدكتور عادل البكري اكتشافه لقبر الشاعر الكبير أبو الطيب المتنبي (915- 965م) في محافظة واسط. وقد نشر الشاعر والصحفي العراقي (مُبين خشاني) القصة الكاملة لاكتشاف قبر المتنبي وكما نشرها الدكتور عادل البكري نفسه.
يروي الدكتور عادل البكري قصة اكتشاف قبر المتنبي سنة 1964 في الفترة التي عمل فيها مديرًا لصحة واسط. يقول الدكتور البكري: (فبعد التحاقي مديرًا عامًا لصحة واسط قمتُ بجولات تفتيشية لجميع أقضية ونواحي المحافظة للتأكد من سير العمل فيها، ومن جملة هذه الأقضية قضاء النعمانية، فالتقيت مع القائم مقام، وذكر لي أن قبرًا يقال له (أبو سورة) قريب من النعمانية لشاعر مجهول لا يُعرف من هو، قُتل في هذا المكان!!
يقول الدكتور البكري: "خطر ببالي أنه الشاعر المتنبي.. فرجعت إلى المصادر التاريخية وكانت أكثر من عشرة مصادر، تذكر كلها أن المتنبي قُتل في قرية (جَبُّل)، فرجعت إلى النعمانية وأجريت كشفًا على المكان فلم تظهر لي آثار قرية من قريب أو بعيد، فراجعت القائم مقام الذي لم يكن من أهل البلدة، فدعا جماعة من وجهاء البلدة وسألهم، فأكدوا وجود آثار لقرية في وسط النهر، قريبة من الضريح تدعى (يبّل) بإبدال الجيم ياءً، فقلتُ إنها هي وقد أغرقها النهر، رجعتُ إلى مركز المحافظة واتصلتُ عن طريق المحافظ بأمانة بغداد ومديرية الآثار العامة والمجمع العلمي العراقي وبعض الشخصيات الأدبية، فحضروا إلى النعمانية وعاينوا الضريح، وقرَّ رأيهم واتفقوا على أنه قبر المتنبي، وتقرر بالحال تجديد الضريح وإقامة مهرجان دولي للمتنبي مع نصب تمثال له في بغداد".
ثم يعود البكري في الصفحة (47) من كتابه ويذكر أن قرية جبُّل قد اختفت معالمها ولم يبق من بلدة جبّل شيء في الوقت الحاضر، وقد زالت معالمها نهائيًا، وطغى على آثارها نهر دجلة حتى لا يكاد يرى منها سوى جزء صغير من بنيانها في وسط النهر، في موضع بين الكوت وناحية الأحرار.
لقد تعددت الروايات حول مكان مقتل المتنبي، ولكن ما تكرر في أكثر المصادر هو أن واقعة القتل حدثت في (دير العاقول)، وهي الأقرب إلى الصحة حسب طرح الدكتور عبد الوهاب عزام في كتابه (ذكرى أبي الطيب بعد ألف عام)، حيث قام بزيارة ميدانية إلى مدينة النعمانية ووصل (دير العاقول) سنة 1926؛ أي قبل أن تكتشف لجنة البكري القبر عام 1964. ويورد الدكتور عزام في كتابه أنه سأل أعرابًا كانوا قد نزلوا هناك عم إذا كانت توجد أرض أخرى هنا تسمى أرض الدير فنفوا، وسألهم عن أسماء العاقول وقنى وصافية ولكنهم نفوا ذلك جازمين، وهذا يؤكد ما أورده البكري في كتابه بأن (دير العاقول) قد زالت معالمها بفعل نهر دجلة. ويضيف عزام بأن المسافة بين الأرض التي نزل فيها وبغداد هي ستة عشر فرسخًا، وهي مقاربة للمسافة بين بغداد و(دير العاقول) التي تبلغ خمسة عشر فرسخًا كما وردت في معجم البلدان وغيره.
لقد ظل هذا الموضوع لغز لا يمكن حسمه بسهولة، خصوصًا وأن من الواضح أن صاحب رواية مقتل المتنبي (أبو نصر الجبّلي)، لقبه منسوب إلى قرية (جبّل) التي ذكرها البكري.
قال العلّامة السيد حبيب الخطيب (1941-2021) قبل شهر تقريبًا من وفاته، وهو من وجهاء مدينة النعمانية وأحد أعضاء لجنة اكتشاف قبر المتنبي: "بتشجيع من والدي والدكتور عادل البكري واهتمام الدكتور مصطفى جواد، أثير موضوع معرفة مكان قبر المتنبي، وتشجعت الدولة، بعد أن حضر إلى النعمانية عند والدي بدعوة منه كل من الدكتور مصطفى جواد، الدكتور أحمد سوسة، الدكتور عبد الجبار البصري وجماعة كبار من أهل الفكر. وقاموا بزيارة إلى القبر وتصويره على حالته واستنطقوا بعض سكان المنطقة. وبعد ذلك أصدرت وزارة الإعلام أمرًا بتعيين لجنة لمعرفة حقيقة هذا القبر، واللجنة تضم كل من ذكرنا أنفًا مضافًا اليها السيد سلمان الخطيب والدكتور عادل البكري، وحضر العدد مكتملًا. وبعدها مرض السيد سلمان الخطيب فأناب ابنه (حبيب) للحضور بدلًا عنه وبتعيين رسمي. وتأكدت اللجنة من المصادر التاريخية أن هذا القبر هو قبر المتنبي وبادرت الدولة ببنائه كما هو اليوم، وقامت احتفالات سنوية لزيارته من قبل جمهرة من الشعراء والأدباء لإنشاد الشعر عند قبره من شعره وأشعارهم.
وهكذا، وخلال عمل الدكتور عادل البكري في الكوت تمكن من اكتشاف قبر الشاعر الكبير ابو الطيب المتنبي في النعمانية ودعا لإقامة مهرجان عالمي عنه في بغداد.
لقد اُقيمت أول ندوة بجوار قبر المتنبي في العام 1964، وقد شارك فيها أدباء ونقاد عراقيين وعرب، وتلوا فيها بحوثا ومحاضرات عن شاعرية المتنبي.
كما حضر تلك الندوة الشاعر الفلسطيني محمود درويش والشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري وعدد من النقاد والمؤرخين من ضمنهم الدكتور مصطفى جواد، إضافة الى شخصيات عراقية أخرى. كما شارك الدكتور عادل البكري في مهرجان المتنبي 5-10 تشرين الثاني 1977 في بغداد.
لا رعى الله سرب هذا الزمانِ ... إذ دهانا في مثل ذاك اللسانِ
ما رأى الناس ثاني المتنبي ... أي ثان يرى لبكر الزمانِ؟
كان من نفسه الكبيرة في جيش ... وفي كبرياء ذي سلطانِ
كان في لفظه نبياً، ولكن ... ظهرت معجزاته في المعاني
إذا أنتَ أكْرَمتَ الكَريمَ مَلَكْتَهُ ... وَإنْ أنْتَ أكْرَمتَ اللّئيمَ تَمَرّدَا
وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي ... إذا قُلتُ شِعراً أصْبَحَ الدّهرُ مُنشِدَا
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى
1022 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع