الحضارة تبنى على سواعد الصفوة

الأستاذ الدكتور : نزار الربيعي*

الحضارة تبنى على سواعد الصفوة

الحضارة تطلق على المعارف العلمية، والنظم الاجتماعية، ومظاهر الحياة المادية التي يعيشها المجتمع، وعلى هذا نقول إن الحضارة ثمرة الجهد الإنساني باستثمار ما يحيط به لخير الإنسانية، فالإنسان إذاً هو أساس هذا البناء الحضاري، فهو صانعها، ومبدعها، فهي المميزة له عن غبره من سائر الأحياء، ثم يأتي التفاعل مع البيئة كعامل مهم في نشأة الحضارة، وللنظم التي تحكم علاقة الإنسان دور رئيس في عطاء الإنسان، ومن ثم في بناء الحضارة، وصُنَّاع الحضارة يعلمون ما للزمن من أهمية كبيرة في بنائها، ثم يأتي دور الأمن والأمان في عطاء الإنسان، وإبداعه، والحضارة تبنى بالعلم لا بالجهل، وهذه العوامل مجتمعة لها دور أساسي في تكوين الحضارة، والإيمان الحق هو الذي يحقق هذه العوامل مجتمعة، ولذلك تتكون الحضارة الإنسانية السوية في ظل الإيمان، وفي كنفه، فهو الرحم التي تتخلق فيها كل النواتج الحضارية بإبداعاتها المعنوية، والمادية، والإبداعات المادية ما هي إلا أفكار تبلورت وتجسدت في شكل مادي، يقول ولو ديورانت: "إنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة: الموارد الاقتصادية، والنظم السياسية، والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق، لأنه ما أمن الإنسان من خوف إلا وتحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة، وازدهارها، أن عملية النهوض الحضاري تبدأ من باعث النهوض الحضاري: عملية النهضة الحضارية لا بد لها من باعث قوي يحمل أفراد الأمة على النهوض، ودارسو الحضارات تكلموا عن هذا الباعث، فيرى ابن خلدون أن العصبية القائمة على القربى وصلة الدم هي العامل، أو الدافع إلى نشأة الحضارة، فيقول: "ذلك أن الرئاسة لا تكون إلا بالغلب، والغلب إنما يكون بالعصبية ، فلا بد في الرئاسة على القوم أن تكون من عصبية غالبة لعصبياتهم واحدة واحدة ويحدد عُمْر الدولة في الغالب بأعمار ثلاثة أجيال، ثم تنهار الدولة، والجيل هو عمر شخص واحد من العمر الوسط، فيكون أربعين، وهذه الأجيال الثلاثة عمرها مائة وعشرون سنة، بينما يرى شبنجلر أن التاريخ يتكون من كائنات حية هي الحضارات، وكل حضارة كالكائن العضوي يولد، ثم ينمو، وأخيراً يموت، وتتولد الحضارة في اللحظة التي تستيقظ فيها روح كبيرة، وتنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية، يرى توينبي أن الحضارة تنشأ عن الأديان، وأن وراء كل حضارة من حضارات اليوم ديانة عالمية، فالعقائد الدينية هي التي تسير مجرى التاريخ، ولا يعتبر الإمبراطوريات مقياساً للحضارة، بل تمثل بداية مرحلة انهيار الحضارة، إذ تلجأ الأقلية المسيطرة إلى التوسع حين تفقد مقومات الإبداع، ويرى أن شخصيات التاريخ لن تكون قابلة للفهم إلا إذا نظر إليها باعتبارها أدوات للنشاط الروحاني، أما نقطة التحول في النهضة الحضارية كما يراها توينبي ففي عنصر التحدي والاستجابة، فقد يكون هذا التحدي ناتجاً عن الضربات الداخلية أو الخارجية، فقد يحدث أن تنهزم أمة ما فتمثل هذه الهزيمة صدمة قاسية، فإذا استطاعت هذه الأمة أن تستجيب لهذا التحدي بنجاح فإن المجتمع يستثير طاقاته الإبداعية الكامنة، وتنهض مدافعة عن نفسها بقوة مضاعفة.
و أن نهضة الحضارة تبدأ بباعث قوي يحمل أفراد الأمة على النهوض، وأن أعظم باعث على النهوض الإيمان، لأنه الروح الوثابة، وهو معين لا ينضب من القوة، لأنه يتصل بالله تعالى، وهذا ما يحمل المؤمن على الشهود الحضاري
الحضارة تبنى على الصفوة المختارة التي تستنقذ الأمة من براثن التخلف، ولابد لهذه الصفوة من صفات تؤهلها لتقود الأمة إلى التغيير، والانبعاث من الرقدة من جديد، وانتشالها من الجهل، والكسل، ولا تزال الجماعة من الناس بخير ما دامت الصفوة القائدة تشعر بثقل التكليف وتتحمل أعباءه، وهذا أمر متفق عليه عند علماء الحضارة من (تستافيكو) إلى (توينبي)، ويرى توينبي: أنه لابد لكل جماعة إنسانية من صفوة قائدة لكي تتقدم وتتحسن أحوالها، ولا يتم تقدم إذا عدمتها الجماعة، فكأنها خميرة التقدم والنهوض.

*دكتوراه تاريخ حديث ومعاصر ، دكتوراه علوم سياسية.
 

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

587 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع