سرور ميرزا محمود
"اشهر علماء الاثار والمنقبين الأجانب والعراقيين في مواقع الاستكشاف لبلاد الرافدين"-الجزء الأول
لعب نهرا دجلة والفرات دورًا أساسيًا في نشأة وتطور الحضارة العراقية، ولهذا فان حضارة بلاد الرافدين رائدة في ابتكاراتها وعمائرها وفنونها حيث أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها، بإبداع ، فهي حضارة متصلة الحلقات تفاعل معها الإنسان الرافديني وابدع بديمومتها وتركت في عقله ووجدانه بصماتها، هذه الحضارة استطاعت أن تسخر وتستغل الإمكانيات الطبيعية التي منحها الله لها لترتقي أعلى مراتب الرفعة والازدهار لتأخذ مكانتها الريادية بين حضارات العالم القديم.
تأريخ العراق هو تأريخ الحضارة الإنسانية النابضة بالحياة، فحضارة بلاد ما الرافدين قديمة اثبتتها دوائر البحث والتنقيب لتكون واحدة من أقدم حضارات الكون، وبذلك تصدرت وتتصدر اهتمامات وشغف المئات من علماء العالم بشتى جنسياتهم، وكانت محط أنظار الباحثين في الشرق والغرب على حد سواء طيلة العقود الماضية، ويقول عالم الآثار العراقية طه باقر فى إحدى دراساته "بعد أن قضى الإنسان القسم الأعظم من حياته فى أطوار التوحش والهمجية، فيما يسمى بعصور ما قبل التاريخ (التى استغرقت أكثر من 99% من حياة الإنسان والتي تقدر بنحو مليوني عام) دخلت البشرية فى أخطر تجربة وامتحان لا تزال تعانيهما بانتقالها إلى طور الحضارة الناضجة، وقد تحقق ذلك لأول مرة فى تاريخ الإنسان بانتقال وادى الرافدين ووادى النيل فى أواخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى حياة التحضر المدنية، بدأ التأريخ هو بدأ الكتابة، ومهد التأريخ العراق، وهو أول دولة فى العالم القديم الذي انار شعلة العلم من خلال اخترع الكتابة، وابتدعت الحروف في أواخر الألفية الرابعة قبل الميلاد، عندما ابتكر الكتابة المسمارية التي اشتُق اسمها من الشكل المميز الذي تتخذه الأنماط والعلامات والخطوط المستخدمة فيها، والتي تنتهي برؤوس مدببة تجعلها شبيهة بالمسامير والأوتاد، وكان الكتبة يدونون هذه العلامات بواسطة أداة مستدقة الطرف تشبه القلم على ألواحٍ من الطين اللين، يتم تجفيفها فيما بعد تحت أشعة الشمس قابلة للتداول بشكل مثالي، كما كانت بعض الألواح ذات الصبغة الرسمية تُختم بأختامٍ أسطوانية، شكلت بدورها أداةً متطورةً أخرى تميزت بها "بلاد الرافدين"، ووفقا للباحث هاشم عبود الموسى، "لقد ساد فى العالم ولا يزال إشاعة مفادها، بأن الإغريق هم أقدم الحضارات وأكثرها أثرا فى العالم، ولكن بعد أن أظهرت الحفريات عن آثار العراق القديم بأن حضارة وادى الرافدين هى أقدم حضارات العالم"، وهو ما يؤيده الدكتور شفيق عبد الرزاق السامرائى فى كتابه " الفكر والنظام السياسي فى العراق القديم" مؤكدا أن كلمة "ميزوبوتاميا" أطلقها اليونان القديم على الرافدين التى تفتحت فيها أولى الحضارات والتى تمتد من الألف الرابع قبل الميلاد، وعرفت أولى المدن الحضارية فى التاريخ الإنساني وهى مدينة "اوروك".
إن لبلاد الرافدين دورها الحضاري والتاريخي والديني حيث كانت المكان الذي ولد فيها أبو الأنبياء إبراهيم وادريس ونوح عليهم السلام، والأرض التي سارت خطواتهم عليها، كانت ارض المقدسات والمعابد، تلك الأرض التي استطاع علماؤها اول من اوجد الحساب، وان الاغريق سرقوا علوم البابليين ونسبوها لهم، وهم الذين اقاموا السدود والتحكم في الفيضانات وخزنوا المياه، وحفروا الأنهار والجداول وجففوا الأهوار، فذللوا البيئة الطبيعية واستغلوا إمكاناتها العظمى، ليس هذا فقط بل استغل العراقيون الأقدمون ارتفاع مناسيب نهر الفرات قياسا إلى دجلة فشقوا أنهارا عظيمة من الفرات إلى دجلة لتروي أراضي واسعة كانت بحاجة إلى الماء، وان اشهر الاختراعات والانجازات التي قدمتها للإنسانية هي: بناء المعابد والقصور، التميز بصناعة المعادن والعربات التي تمشي على عجلات كوسيلة نقل، إضافة إلى صنع عجلات الفخار، أو ما يطلق عليها مخارط الفخار، وهي التي تجري صناعة الخزف الفخارية اليوم باستخدامها، القانون، أصل الكون والوجود والأساس في مكونات المادة، علم الفلك، فمن سكانها ورثنا الطريقة التي نحصي بها الوقت، وتقسيم الساعة إلى 60 دقيقة، واول بطارية كهربائية عرفها التاريخ، بل إن هذه البلاد شهدت أول احتساءٍ موثق للبيرة، وتطور فيها كذلك النسيج ومنتجات الألبان والعديد من التقنيات بما في ذلك المعادن والاعمال النحاسية، الزجاج وصنع المصابيح.
مثلت بلاد الرافدين منظومة حضارات مختلفة في مكان واحد، انه البلد الوحيد الذي سمي بمهد الحضارات، فقد ظهر السومريون في الجزء الجنوبي من بلاد الرافدين بدءاً من منتصف الألف الخامس قبل الميلاد، وبنوا العديد من المدن المتطورة ومن اشهرها كيش، واوروك، ولجش، وايسن، بعدها ظهرت الحضارة البابلية العريقة التي قدمت للعالم قوانين حمورابي الشهيرة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ثم ظهرت الحضارة الأشورية في شمالي العراق وتمكنت من بسط نفوذها على مساحات واسعة من العالم القديم لقرون عدة، قبل أن يستعيد البابليون قوتهم مرة أخرى في القرن السادس قبل الميلاد، كان ذلك في عهد الملك الشهير نبوخذ نصر، تمكن الآشوريون من بناء حضارة قائمة بحد ذاتها في بلاد الرافدين، والتي يرجع تاريخها إلى حوالي سنة 2600 قبل الميلاد، حكم آشور بانيبال الإمبراطورية الآشورية أعظم مملكة حتى القرن السابع قبل الميلاد وقد سماه الآشوريون "ملك العالم"، بنى الملوك الآشوريون القصور والمعابد والحدائق، وقد كانت القصور تُزَيّن بالنقوش والمنحوتات والعاج، وتتخذ القصور شكلًا هرميًا متدرجًا، كما تميزت بالتطور الإداري وتنوع الفن والثقافة وبناء السدود وتنظيم السقي والري، اهتم الآشوريون بالطب لأهميتهِ في خوض الحروب والمعارك، وطوروا أدوية للإصابات الخطيرة، وعالجوا الأمراض بالحبوب والمراهم، وكانوا يعتمدون في تشخيص الأمراض على المنطق والتاريخ الطبي المسجل، فالتماثيل الآشورية كالثيران المجنحة، ورسائل الملوك ودورياتهم وخطاباتهم، جعلت من تحديد العصر الآشوري أمراً ممكناً للباحثين، وامتدت الى أرمينيا، فقد استطاع علماء الآثار اكتشاف المدن الآشورية كمدينتي نينوى ونمرود، عام 612 قبل الميلاد، سقطت عاصمة المملكة الآشورية، نينوى، واستسلمت مملكة آشور إلى البابليين، وقد قال عالم الاثار ادوارد كيرا كل ضربة فأس في ارض العراق تخرج منه اثاراً.
يعتبر العصر العباسي هو العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، وهي نهضة مشرقة، وأصبحت بغداد منذ تلك الفترة العاصمة الرائدة في العالم العربي والإسلامي واستمرت لمدة خمسة قرون، وبعض المؤرخين والمتخصصين في العمران يعتبرونها كأعظم مدن العالم في العصر الوسيط أضاءت ما حولها من مدن بعلومها وحضارتها، ما كانت لتتحقق لولا تضافر مجموعة من العوامل، الداخلية والخارجية، لعلّ أبرزها التفاعل بين ثقافات مختلفة، ازدهار حركة الترجمة والنقل، حاجة الدولة الجديدة المترامية الأطراف إلى الإدارة والسياسة، وجود مناخ من التسامح الديني، الرغبة في الانفتاح على الآخر المختلف، فالنهضة التي شهدها العصر العباسي، على الأصعدة المختلفة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية والجمالية، وبلغت فيه أقصى درجاتها من العلوم والابتكار، والتطوُّر والإزهار، في شتَّى العلوم، وجميع أنواع المعارف، فكثر العلماء، وكثر طلاب العلم، ونشطت الترجمة، وازدهر التأليف، وشاع التدوين، وانتشرت الكُتب، وبُنيت القصور الباهرة، حيث تأنق مهندسوها في إحكام قواعدها وتنظيم أماكنها، وانشاء المكتبات العامة والخاصة من الخليج الى المحيط، خلال ستّة قرون، انار لها طريقها نحو الرقي والتقدم لتنعم شعوبها بما حققته تلك الحضارة، وأمّنت للغرب نصوص العلماء والفلاسفة القدامى، زائدةً عليها مبتكراتها الخاصّة، وبهذا، كانت حلقة وصلٍ بين ثروة الماضي ووعود المستقبل.
تركت كل حضارة من تلك الحضارات مئات الآلاف من الآثار، والتي عبرت بشكل عام عن ثقافتها وعلمها وقوانينها وأفكارها في مجالات الأخلاق والحكم والدين، تأريخ وماضي تلك الحضارات الإنسانية والموروث المادي للإنسان الرافيديني من مسكن وممارسة واستخدام لمئات السنين جرى استكشافها، ويُعد العرب من أبرز المُساهمين في تأسيس علم الآثار وذلك عن طريق البعثات الاستكشافية التي كانوا يقومون بها، بالإضافة إلى المتاحف التاريخية التي أنشأوها للاحتفاظ بالآثار التاريخية، وكرسوا الوقت والجهد لاستكشاف كنوز الاثار والكُتب والمؤلفات الرصينة التي صَدَرَت في هذا الشأن، ويُعدّ موفق الدين عبد اللطيف البغدادي أول آثاري عربي (1162م - 1231م) وصَفَ الآثار بشكل تفصيلي، ووثّقَها، وحللها، ونجد علماء ومؤرخين مثل المسعودي والبيروني وابن أميل وابن وحشية وعبداللطيف البغدادي ومحمد بن عبدالعزيز الإدريسي وأبو القاسم العراقي والمقريزي، والإدريسي خاصة ترك لنا عدة مؤلفات رصينة عن تاريخ مصر القديمة وآثارها منها كتاب "الجوهرة اليتيمة في أخبار مصر القديمة"، وكتاب أنوار علوي "الأجرام في الكشف عن أسرار الأهرام" وأحمد بن فضلان الرحالة والمستكشف صاحب الفضل في حوار الحضارات.
بدأت قصة علم الآثار في العراق بصورة موسعة مع أولى الإشارات الواردة في الكتب المقدسة والمدونات الكلاسيكية التي أشارت إلى حضارات وشعوب العراق القديم واثاره، تلك الحضارات تتصدر اهتمامات وشغف المئات من علماء العالم بشتى جنسياتهم، وكانت محط أنظار الباحثين في الشرق والغرب على حد سواء طيلة العقود الماضية، على الرغم من أن رحالة القرنين السابع عشر والثامن عشر الأوربيين أشاروا إلى بعض المواقع الأثرية في العراق، ومن أبرز العلماء الذين أسسوا علم الآثار في العراق أوستن هنري لايارد، والسير تشارلز ليونارد وولي، وماكس مالوان، وقد قدم هؤلاء علماء الآثار مساهمات كبيرة في دراسة واستكشاف المواقع القديمة والتحف في العراق، وخاصة خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، إلا أن التأريخ الفعلي للتنقيبات الأثرية التي كشفت عن حضارة بلاد الرافدين لم يبدأ علمياً إلا مع الرحالة والآثاري الفرنسي بول إميل بوتا (1802- 1870) الذي استغل تعيينه قنصلاً في مدينة الموصل عام 1842 ليبدأ عمليات التنقيب في أهم مدن الآشوريين، وجاء هنري وستن لايارد الإنكليزي قريبا من بعده، فكان كل منهما على حدة في حفر تلال الآثار الآشورية في نمرود ونينوى، وخورسباد في شمال العراق، وفي ظل غياب السلطة القانونية والسياسية الرادعة، وبغياب الدولة العثمانية التي كانت عاجزة عن الدفاع عن الاثار بل كانت تكتفي باقتسام الغنائم مع البعثات، مما يعني ان النهب للإثار كان بإشراف السلطات العثمانية التي لم تحقق نجاحا يذكر في السيطرة على تصدير الآثار، وبسبب صعوبة نقل جميع موجودات القصر إلى بارس لضخامتها، قام بوتا بقص بعض الكتابات المسمارية والثيران المجنحة لتخفيف الوزن، وشحنها في زوارق لإرسالها إلى المتحف الآشوري المستحدث ضمن متحف اللوفر في باريس، وتتويجاً لكشوفاته، نشر كتابه المعنون بـ "معالم نينوى" وهو عنوان خاطئ لأنه كان يتحدث في حقيقة الأمر عن مدينة كالح، كما كشفت تنقيبات لايارد في موقع خورس آباد (تل نمرود) عن ألواح جداية ضخمة وقصر أسرحدون ولوحات جدارية لمعارك أشور ناصر بال الثاني، وتواصلت تنقيبات الآثاري البريطاني حتى عام 1847 في موقع كوي سنجق وتوصل إلى أنها نينوى، وقد حصل خلال ذلك على منح حكومية بهدف تزويد المتحف البريطاني بآثار آشورية مهمة أبرزها الثيران المجنحة، وفي عام 1848 أصدر كتابه "نينوى وأثارها" قبل أن يعود ليكتشف مكتبة أشور بانيبال الملكية في قصر سنحاريب، والتي تضم 22 ألف لوح طيني بالكتابة المسمارية، وليصدر بعدها كتابه الثاني "اكتشافات في خرائب نينوى وبابل"، واصلت التنقيبات في الموقعين من جانب البعثات البريطانية بمشاركة الآثاري العراقي هرمز رسام (1826- 1910) العامل لصالح البريطانيين وآخرين.
اكتشفت مدينة لكش أهم وأقدم المدن السومرية في محافظة ذي قار الحالية من قبل بعثة أثرية فرنسية بقيادة أرنست دي سارزك (1832–1901) عام 1877، والذي كان يومها قنصلاً لبلده في ميناء البصرة، وقد تفرغ دي سارزك لهذه المدينة حتى وفاته عام 1901، ليكمل المهمة من بعده الفرنسي كاستون كروس، وقد بلغ عدد الألواح الطينية بالكتابة المسمارية التي اكتشفت فيها حوالي 30 ألف لوح، تضمنت معاملات تجارية، ووسائل إيضاح لزراعة الأرض وتربية المواشي، كما اكتشف فيها حانة للمشروبات من قبل بعثة أمريكية مما يدلل على الحالة الحضرية لبلاد النهرين في ذلك الوقت، اوروك او الورقاء في محافظة السماوة، والتي ظهرت ملحمة جلجامش الشهيرة فيها، جرى تحديد موقع أوروك جغرافيا عام 1849 من جانب عالم الآثار البريطاني ويليام لوفتس (1821- 1858)، ولكن عمليات التنقيب الجدية فيها كانت على يد البعثة الألمانية بقيادة الآثاري كولدوي منذ مطلع القرن العشرين وحتى نهاية الحرب العالمية الأولى تقريباً، وتغلب على آثار أوروك المشغولات الفخارية والأوعية المعدنية، ووجد فيها بقايا زقورات، ومعبد "إي أنا" الأبيض ومعبد آنو إله السماء،عمليات الحفر التي قام بها سمحت باكتشاف اسس زقورة مردوك.
بدأت البعثة الألمانية بقيادة روبرت كولدوي في بابل بالتنقيب في عدة مواقع في الوقت نفسه، يهدف أيضاً إلى التنقيب في المواقع المجاورة، وتحديداً في بورسيبا وشاروباك ثم آشور، ففي حزيران عام 1887 وبالقرب من قلعة بابل، كتب كولدوي أنه عثر مصادفة على "شظايا ذات ألوان زاهية" من الأحجار المصقولة التي يُعتقد أن جدار المدينة كان يتشكل منها، وبعد عامين من ذلك التاريخ، بدأت عمليات الحفر، لتبدأ المدينة القديمة في الكشف عن أسرارها، وفي نص بعنوان "أعمال التنقيب في بابل"؛ سرد كولدوي التفاصيل الخاصة باكتشافاته الأثرية، وكتب يقول: " ظهرت الشظايا (الأثرية) الملونة على نحو باهر بأعداد هائلة، وسرعان ما أعقب ذلك العثور على جدار شرقي من جدارين متوازيين في المدينة، ثم أرضية ما يُعرف بـ’ طريق الموكب‘، وأيضا الجدار الغربي، وهو ما وفر لنا التوجيه الضروري للقيام بمزيد من عمليات التنقيب"، وفي عام 1902، كشف علماء الآثار العاملون تحت إمرة كولدوي النقاب عن بوابة عشتار؛ الرمز الأقوى من نوعه على مدى البهاء والروعة التي كانت عليها بابل القديمة، وقد عُثر على هذه البوابة، في ذات الموقع الذي كان يتوقع الباحثون وجودها فيه، إذ كانت تؤشر على مدخل المدينة في بداية طريق الموكب، وهو الطريق الرئيسي الذي كان يُستخدم خلال الاحتفالات باستقبال العام الجديد، وفي هذا السياق، كتب كولدوي أن بوابة عشتار "بجدرانها التي مازالت تنتصب بارتفاع 12 مترا، والمكسوة بالنقوش الزخرفية، تشكل الأثر الأكبر والأكثر لفتا للانتباه من بين آثار بابل"، ولتبديد أي شكوك حول التاريخ المعماري لهذه البوابة، وُجدت سطور منقوشة على الحجر الجيري، في صورة عبارات ترد على لسان نبوخذ نصر يقول فيها: "لقد وضعت الثيران البرية والتنانين الشرسة على البوابات، ومن ثم قمت بزخرفتها على نحو فخم ومترف، لربما يحدق فيها الناس في ذهول وعجب"."
بعد الحرب العالمية الأولى أُعيد بناء جزء من البوابة الأمامية الأصغر في متحف (بيرغامون) في برلين وهي المعروضة للعامة، أما البوابة الداخلية فقد أحتفظ المتحف ببقايا وأثار تلك البوابة الضخمة والتي تصل لأرتفاع حوالي (25) متر عن الأرض (من أسفل الطريق حتى قمة أبراج البوابة)، اذ يستطيع الناظر أن يرى من قمة البرجين الموجودين اعلى البوابة عموم المدينة التي تمتد تحتهما، اذ أن حجمها ضخم جداً لدرجة أن متحف بيرغامون لا تتوفر فيه غرفة بحجم كافي لإعادة بنائها وبالتالي بقيت أثارها وبقاياها في المستودعات والمخازن حتى الآن، أما سبب تسمية البوابة بهذا الأسم فـيذكر مارتسهان أن أحد أسماء البوابة كان (عشتار هو الذي يهزم أعداءهُ)، أما أندرو جورج أستاذ الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن يضيف في مقال اخر عن بابل " أن بوابة عشتار أُطلق عليها أيضاً (عشتار تصد مُهاجميها)، وفي النهاية حصلت البوابة على لقب (المدخل الملكي) اذ كانت هذهِ البوابة هي المكان الذي من خلالهُ أعاد ملوك الآلهة ورجالها بابل إلى فرحة الانتصار بعد طقوس رمزية لمعبد آكيتو.
نُقِلت كميات كبيرة من الآثار إلى المتاحف الأوربية، في ظل غياب السلطة القانونية والسياسية الرادعة واهمال او غض نضر العثمانيون لآثارنا، مما أدى لتركها لتجار الآثار الذين أقاموا بعملهم على أتم وجه، فغصت متاحف أوربا بآثارنا التي تحوي الكنوز المذهلة من ألواح حجرية مع نقوش معقدة عن الملوك القديمة والحيوانات المجنحة والشخصيات الأسطورية الأخرى، ومكتبات كاملة من ألواح الرقم الطينية المكتوبة بواسطة الكتابة المسمارية، كما جمع هواة الآثار الأجانب ما جمعوه من آثارنا أيضاً.
قامت البريطانية الباحثة بشؤون الاثار غيرترويد بيل السكرتيرة الشرقية للمندوب السامي البريطاني السير بيرسي كوكس نشاطها بتأسيس دائرة حكومية تعنى بالآثار العراقية، فكانت "الدائرة الأركيولوجية" عام 1920، وبعد نشوء الدولة العراقية تحولت بقرار حكومي عام 1922، إلى "دائرة الآثار القديمة" بناء على توصية من بيل وفي عام 1924، أصبحت الدائرة "مديرية الآثار القديمة" تحت رئاستها، يعود الفضل لغيرترود بيل بإنشاء المتحف الوطني عام 1923، وهي أول من سجل حصن الأخيضر الصحراوي العظيم، قد ضمنت بقاء الكثير من أفضل القطع الاثرية المكتشفة في العراق الذي ساعدت في رسم حدوده، حيث جمعت ووضعتها في حيز صغير في مبنى السراي أو القشلة، لكن ومع ارتفاع عدد القطع المكتشفة، ضاق المكان بمقتنياته، فنُقل سنة 1927 إلى مبنى آخر أكبر حجماً وأكثر سِعة، يقع في شارع "المأمون" ببغداد على جانب الرصافة عند ضفة نهر دجلة بالقرب من "المدرسة المستنصرية"، ومع استمرار علماء الآثار في كشف المواقع الأثرية وتكاثر مقتنياته، صارت الحاجة ماسة لإنشاء متحف وفق المقاييس المعمول بها في المتاحف العالمية، بدأ العمل في المتحف المصمم من قبل مهندس ألماني عام 1957 وانتهى بناؤه عام 1963، تحولت محتويات المتحف إلى البناية الجديدة وتم افتتاحه في موقعه الحالي عام 1966، ، الذي شغل مساحة من الأرض بلغت 4500 متر مربع في منطقة الصالحية وسط بغداد، حيث ضَّم بناية جديدة لمديرية الآثار العامة والمتحف العراقي، ومكتبة تخصصية كبيرة ومساحات خضراء، إضافة الى مخازن ومُستودعات لحفظ الآثار ومرافق خدمية، كما ضَّم المتحف الجديد عشرين قاعة كبيرة، توزعت على طابقين، احتوت على عشرات خزانات العَرض، وقد تم تنظيم عرض المواد الأثرية في هذه القاعات وفق تسلسل الحِقب التاريخية لبلاد وادي الرافين، تبدأ بفترة عصور ما قبل التاريخ وحتى الفترات الاسلامية، إضافة الى قاعة "عبد الله شُكر الصَرّاف للمسكوكات"، ومنذ ذلك الحين شهد المتحف أكثر من توسعة، ففي العام 1983 أضيفت بناية أخرى للمتحف لتضم الكميات المتضاعفة من القطع الأثرية.
بدأت نشاط مكثف للبعثات ألاجنبية تخللتها إقامة حفريات منظمة وشاملة مقارنةً مع سابقاتها، وفي عام 1922، اكتشف السير ليونارد وولي (1880-1960) المقبرة الملكية في اور، التي تضم قبور ستة عشر ملكا وملكة منها قبر الملكة بو آبي وكنوزها، المعروفة إعلامياً باسم الملكة شبعاد، ظن أنه تفوق على مكتشفي قبر توت عنخ آمون!، أما أشهر آثار أور فهي الزقورات، وهي معابد للآلهة السومرية تبنى بطريقة مدرجة.
ماكس مالوان(1901-1978) عالم الاثار البريطاني زوج الكاتبة اجاثا كرستي، التي عاشت معه في سوريا والعراق، ووفر لها هذا التجول فرصة كتابة أجمل رواياتها الساحرة المليئة بالأسرار والغموض واللغة السيالة والخيال الجامح والشخصيات المثيرة، كرس كل حياته المهنية للاستكشاف الأثري لبلاد ما بين النهرين، استكشف العديد من المواقع الأثرية في العراق وسوريا على نحو مستمر تقريباً للفترة بين 1925-1958، في اور أفلح في أعادة تكوين خلفية الوطن الأصلي لنبي العهد القديم قبل هجرته من سومر (التي سميت بلاد بابل فيما بعد) إلى فلسطين، اكتشافاته أظهرت أن أور السومرية كانت حقاً أحد مهاد الحضارة، ولا تقل أهميتها عن مصر هنا في الوادي الجنوبي لنهر الفرات وضع الكتبة القدماء نظاماً للكتابة بالخط المسماري المثلث الشكل الذي كان أحد الاختراعات الرئيسة في العالم وتمخّض أخيراً عن أول أبجدية وضعها الفينيقيون لاستعمال التجار بعد عام 1400 قبل الميلاد، في عام 1949 تم تكليف ماكس بالتنقيب في نينوى، اصطحب ماكس زوجته اجاثا، فهي مصورة فوتغرافية وتنظف اللقى الاثارية وتسجلها فضلاً عن استمرارها في كتابة القصص والروايات إلى الموصل مع عضوين آخرين في البعثة الأول هو روبرت هاملتون (1867-1944) المتخصص بآداب الاغريق والرومان ، وكان يتكلم العربية بطلاقة والثاني هو الدكتور محمود الأمين ممثل مديرية الآثار القديمة، وكان قد حصل على الدكتوراه في اللغات الشرقية من جامعة برلين قبل انتهاء الحرب العالمية الثانية، ونشر كتابه (شريعة حمورابي.و قد سكن منطقة محيطة بمقام النبي يونس وقام بحفر خندق تحت المرقد، وتوصل إلى آثار كنيسة النبي يونان وكذلك آثار معبد التوبة الآشوري تحت الكنيسة، اكتشفت البعثة مسلة آشور ناصربال، درس ماكس مالوان نتائج عمله في نمرود وأعد إجمالاً لها في مجلدين، مصحوبين بمجلد للوحات: نمرود وبقاياها الأثرية.
بالرغم من اعمال السرقة والتهريب والقرصنة والتربح التي قام بها بعض من الاثاريين التجار والمغامرين لاثارنا في اقصر فترة واقل جهد فانه لا بد من الإشادة والتثمين بجهود الآثاريين الأجانب الذين نبهوا بلدنا بالاهتمام بتاريخها القديم، وحجم ما بذلوه من جهد في دراسة واستكشاف وتنقيب ونشر البحوث حول تراثنا والتي لا تزال المصدر الرئيسي في الكثير من الأحوال للطلاب العراقيين والعرب أنفسهم لدراسة تراثهم، كما انهم ساهموا في تدريب جيل جديد من الباحثين العراقيين الواعدين.
ان تأريخ بلاد الرافدين والاثار التي ترقد في مختلف بقاعه كلها عوامل الهمت شخصيات عراقية ان تدرس الاثار وعلم الاثار ودراسة الماضي البشري وتفسير وتوضيح الكثير من الأمور الاجتماعية والدينية وطريقة الحكم ..، ومن اشهر الشخصيات التي ساهمت بإدارة مسؤولية الاثار والاستكشاف والتنقيب عن المعالم الاثرية والحضارية والنجاح الذي تحقق بفضلهم في اكتشاف الكثير من الاثار خلال العقود الماضية:
الأستاذ ساطع الحصري (1879-1968م) شغل هذه مديرية الاثار نحو سبعة أعوام من سنة 1934م حتى سنة 1941م وكان أول مدير عربي فيها بعد أن سبقه كل من (مس بل) و(كوك) وهما من الإنكليز ثم (يوردن) الألماني فوجه عنايته إلى الآثار العراقية والعربية واهتم بالتنقيب في المدن العربية التي أنشأها العرب في العراق في العصور الإسلامية: الكوفة وواسط وسامراء وكانت أهم أعماله في هذه المديرية تعريبها والاستغناء عن الأجانب الذين كانوا يعملون فيها بالتدريج، وكان هذا العمل من أهم الأسباب التي أدت إلى فصله من وظيفته وإسقاط الجنسية العراقية عنه، عمل على تكوين هيأة عراقية للتنقيب عن الآثار يرأسها موظفون عراقيون في سامراء وواسط والكوفة ونينوى وخور سباد، وتعين مراقبين عراقيين لمراقبة البعثات الأجنبية التي تنقب قي البلاد ليتدربوا على أيدي العلماء الآثاريين الأجانب الذين كانوا يقومون بأعمال الحفر والتحري عن الآثار، وضع الحصري قاعدة لاقتسام الآثار التي يكتشفها المنقبون الأجانب بحيث لا تهضم حقوق العراق فقرر قسمة النسخ المكررة واحتفظ للعراق بكل النسخ غير المكررة بعد أن كانت تمنح بطريقة الاقتراع، عمل على نشر كتب ورسائل عن سامراء و الأخيضر والقصر العباسي، وجسر حربي، ومعارض القصر العباسي (وباب الغيبة) باسم المديرية وليس باسم الأشخاص الذين شاركوا في تأليفها، كما نشرا دليلا للمتحف وآخر لمتحف خان مرجان الذي ضم بعض الاثار، وانشأ متحف الأسلحة في الباب الوسطاني و التي بذل جهدا كبيرا في جمعها، ومتحف سامراء وآخر لبابل، وشجع البعثات الأثرية ونشر الدراسات المتعلقة بالآثار العربية، وسعى لاستقدام الكفاءات من خارج العراق، وكان امله بتكوين مكتبة أثرية في كل متحف يتم إنشاؤه في مراكز المحافظات العراقية لتثقيف الطلبة والعلماء والاهالي والزوار من العرب والمسلمين والأجانب، ومن أثاره، مكتبة دار الآثار التي تعد اليوم أضخم مكتبة علمية في العراق لاحتوائها على أهم مصادر تاريخ العراق، والحضارة العربية، أما أعمال الصيانة وتسجيل الآثار وتصويرها فقد وصلت على عهده إلى رقم قياسي لم تصل إليه في أي عهد من العهود من ذلك صيانة معالم القصر العباسي في قلعة وزارة الدفاع وإقامة معرضا لبعض الآثار العراقية ولصور الريازة العربية فيه، صيانة خان مرجان، اعمار منارة سوق الغزل لقيمتها التاريخية، صيانة الباب الوسطاني أحد أبواب بغداد الشرقية ، وصيانة المسجد الجامع مع الملوية في سامراء، وجامع ابي دلف.
الدكتور ناجي الأصيل (1894-1963م) ، دبلوماسي وطبيب واثاري، ولد في بغداد، تخرج من كلية الطب في الجامعة الأميركية في لبنان سنة 1916م، شغل منصب وزير الخارجية للفترة من 29 تشرين الأول 1936 إلى 17 آب 1937، انتخب رئيسا للمجمع العلمي العراقي في عام 1953م، وشغل منصب مدير الآثار العام بين عامي (1944 – 1958)، كان له الفضل في اصدار مجلة سومر والتي كانت تصدر بطبعتين شهرياً، والتي تبوأت مركزا معروفاً في الاوساط العلمية الاثارية، وله الفضل ايضاً بإقامة معارض فصلية للآثار تضمنت اهم البحوث والتنقيبات الاثارية في العراق، كما انه حافظ على عدم حدوث سرقات اثارية من قبل المغامرين بسرقة الاثار، من احدى طرائف العمل، حادثة تاريخية هي زيارة الملك الصغير المرحوم فيصل الثاني للمتحف العراقي، وكانت في استقباله هيئة برئاسة المدير العام الاصيل والأساتذة طه باقر امين المتحف العراقي ومصطفى جواد الملاحظ الفني وفؤاد سفر الاثاري المعروف والسيد سالم الالوسي دليل المتحف. يذكر الاستاذ سالم الالوسي أن دخول الملك كان من باب الاثار العربية في خان مرجان من باب شارع السموأل وهي باب مستحدثة لان الباب الاصلي يقع في سوق الاقمشة بدلالة الكتابة التاريخية التي تعلو الباب الاصلي. تولى الدكتور الاصيل تقديم نبذة مختصرة عن الدول والسلالات التي حكمت العراق واثارهم، بعد سقوط الدولة العباسية، بعدها التفت الى الاستاذ مصطفى جواد طالبا منه الكلام عن تاريخ الخان الذي تم تحويله، بعد صيانته وترميمه، إلى متحف يضم الاثار العربية، فأفاض الاستاذ الجواد بالحديث عن العهد الجلائري وتشييد المدرسة المرجانية على يد أمين الدين مرجان وفي عهد السلطان اويس الجلائري في العام 1356 ميلادي والذي يعرف اليوم بخان مرجان. ويذكر ان المتحف الذي ضم آثاراً قيمة اكتشفتها دائرة الاثار في كل من الكوفة وواسط وسامراء. ومن طرائف الاستاذ مصطفى جواد التفاتته الى السيد المدير العام بقوله ألم يكن من الأجدر ان نطلق اسم المأثر على هذا المكان؟، فرد عليه الأصيل أن كلمة المتحف أبلغ وأجمل لإنها مكان لحفظ التحف، ومن مؤلفاته:
مدينة المعتصم 1947، رحلة الى جنوب العراق 1945، فهمي المدرس من رواد الفكر العربي الحديث، – لجديد في النشاط الاثاري في العراق، في مواطن الاثار.
الدكتور فؤاد سليمان اللوس سفر (1911-1978م)،
احد أوائل العراقيين حصولا على درجة عليا في علم الآثار، وفي قيادة حفريات علمية، من أبرز الذين ساهموا بإرساء مدرسة آثاريه عراقية لها خصائصها وسماتها المعترف بها في الاوساط الاثارية العالمية، ولد وتلقى تعليمه في الموصل، وحصل على درجة الماجستير في معهد الدراسات الشرقية في شيكاغو، وعاد إلى العراق في عام 1938، وقد أسس، مع آخرين، قسم الآثار في كلية الآداب، في جامعة بغداد، في عام 1951، وفي عام 1958 أصبح المدير العام للآثار، وأشرف على رسائل جامعية في ميدان الآثار، وكان عضوا في لجان وطنية ودولية اثارية عديدة، كما أسهم في تحرير مجلة سومر التي تهتم بالآثار، كان مشهورا بسخائه في مشاطرة علمه وخبرته، والعديد من الإنجازات المذكورة أعلاه تمت بالتعاون مع آخرين، مثل سيتون لويد ومحمد علي مصطفى، ومن المدن الأثرية التي أسهم فؤاد سفر في الكشف عن بقاياها الشاخصة، مدينة واسط وحسونة والعقير واريدو والحضر، وله فضل الكشف عن بعض مشاريع الري القديمة في العراق، ولاسيما أعمال الري الآشورية ومنها منظومة سنحاريب الاروائية، نشر فؤاد سفر احدث دراساته في مجلة سومر بعنوان (كتابات الحضر) وتتكون هذه الكتابات من (12) نصا جديدا، منها النص (291) وهو عبارة عن دعاء على كل من يسرق أداة من أدوات البناء المستخدمة في تشييد المعبد الكبير.
من مؤلفاته بالعربية والإنكليزية: (واسط) نشره في القاهرة سنة 1958
، (آشور) طبع ببغداد سنة 1960، (المرشد إلى مواطن الاثار والحضارة) مع طه باقر 1962، (صيانة الابنية الاثارية)، مع صادق الحسني 1965.
توفي في 9 كانون الثاني 1978، أثر حادث سيارة أثناء قيامه بواجباته العلمية في الإشراف على سير العمل في مشروع انقاذ آثار حوض سد حمرين.
الأستاذ طه باقر (1912-1984م) قارئ الطين وصاحب ترجمة ملحمة كلكامش، العبقري الآثاري: المتولد في مدينة الحلة، اكمل دراسته المتوسطة كان من الطلبة الأوائل لذلك فانه انتقل لاكمال دراسته وعلى نفقة وزارة المعارف إلى الولايات المتحدة لدراسة علم الاثار في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو مع زميله فؤاد سفر بعد نيلهم شهادة ماتريكوليشن الإنجليزية في مدينة صفد الفلسطينية، وبعد ذلك نقل ومن معه من طلاب البعثة إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لاجتياز مرحلة "السوفومور" وهي عبارة عن مرحلة دراسية تحضيرية وبعد تلك المرحلة سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في المعهد الشرقي في جامعة شيكاكو، اذ درس علم الانتروبولوجي (علم الانسان) ومواد الآثار والتنقيب والتاريخ القديم واللغات القديمة كالسومرية والاكدية والبابلية والاشورية فضلا عن اللغة العبرية، مارس عمليات الحفر والتنقيب قبل رجوعه الى العراق في احدى المستوطنات الامريكية القديمة، بعد عودته الى العراق عام 1938 جرى تعينه كـ"خبير فني" في مديرية الآثار القديمة العامة، التحق بالجيش لفترة سنتين، بعدها عُين في وظيفة "أمين المتحف"، التي بقي فيها حتى عام 1951، في تلك السنة عُين كـ"معاون مدير الآثار العام"، وبعد شهور معدودة تقلد منصب "مدير الآثار العام"، وبقي فيه حتى سنة 1963، رأس هيئة تحرير مجلة "سومر" في الفترة بين 1958 و1963م، وقام بتدريس مادة "التاريخ القديم والحضارة" في كلية "المعلمين" العالية حتى سنة 1960م، وقام بتأسيس قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد، ودرّس فيه مادة "التاريخ القديم واللغات القديمة"، أسس مع العالم الدكتور عبد الجبار عبد الله جامعة بغداد، تولى منصب "نائب رئيس جامعة بغداد" بين 1961 و1963.
سافر إلى ليبيا عام 1965 وأسس مركز الأبحاث الآثارية فيها، وعمل مستشاراً في مصلحة الآثار الليبية، فضلاً عن توليه منصب أستاذ في الجامعة الليبية، عاد الى العراق عام 1970، أعيد تعيينه كأستاذ في قسم الآثار في كلية الآداب بجامعة بغداد، وفي عام 1971 عُين عضواً عاملاً في المجمع العلمي العراقي، حتى عام 1977، عُين في عضوية مركز إحياء التراث العلمي العربي.
كانت لطه باقر مساهمة كبيرة في أعمال التنقيبات الأثرية، فقد ترأس البعثة الأثرية في موقع مدينة واسط؛ العاصمة الأموية للعراق، وكذلك في موقعي تل الدير وعقرقوف (موقع العاصمة الكاشية دور- كوريكالزو غربي بغداد) وذلك في الأعوام 1941- 1947م، وأشرف خلال الأعوام 1945- 1961م على أعمال التنقيب الأثري في الموقعين البابليين المهمين تل حرمل، وتل الضباعي، وكليهما في شرقي بغداد، كما أشرف على التنقيبات الأثرية الإنقاذية في مواقع حوضي سد دوكان وسد دربندخان ا بين عامي 1956 و 1961م، وأشرف على أعمال الصيانة الأثرية في موقع مدينة بابل من عام 1958 إلى 1963م.
يعد طه باقر من المفكرين اللامعين الذين أسهموا بحظ وافر في إثراء الثقافة العربية المعاصرة، فهو ابرزعالم اثاري وبسماري في القرن العشرين، الذي حل الغاز اللغة السومرية، الرائدً في حقل الدراسات الأثرية العراقية، ومن أشهر العاملين في مجال ترميم الذاكرة العراقية وصلتها بتاريخها الحيوي المتحرك الحي والمنتج، لقد عمل طه باقر في مجال التاريخ القديم وعلى الأخص تاريخ العراق، وشغله إعادة صورة الجماعة العراقية المنتجة والجدية في تفاعلها القديم مع بيئتها الطبيعية والاجتماعية، لقد كانت الدولة العراقية الحديثة والتي عاش بداياتها وفتوتها مدعاة للنظر في تاريخ هذا الإنسان العراقي وكيف أبدع في أشهر حضارات العالم القديم قبل وقوعه في براثن التخلف والانحطاط، لقد ربط طه باقر بين التاريخ وعلم الآثار ربطاً وظيفياً، فالآثار لدى باقر ليست حجراً أصم يؤرخ لازمان جامدة ومعزولة. انه تعبير متحرك عن واقع بحاجة دائما إلى اغناء مضامينه الإنسانية بالكشف والتنقيب عن إمكانات الإنسان العراقي وقدراته الابداعية، وكان من نتائج منهجه اذ اخذ طلبة قسم الاثار منذ تأسيسه سنة 1951 يطبقون علومه في المتحف العراقي وفقاً لما سنه هو لهم.
وفي الثامن والعشرين من فبراير سنة 1984 توفي عن عمر ناهز اثنين وسبعين عاماً، منح درع الاتحاد عام 2022 من قبل اتحاد الاثارين العرب في القاهرة لما قدمه من خدمات جليلة في حقل الاثار
ألف عشرين مطبوعا ، امتازت بالثراء العلمي وبلاغة الأسلوب وجماله، التي أسهمت في زيادة الاهتمام والوعي بعلم الآثار في العراق وخارج العراق، من أبرزها: "ملحمة جلجامش"، والتي قال عنها" لعلني لا ابالغ اذا قلت انه لو لم يأتنا من حضارة وادي الرافدين من منجزاتها وعلومها ومتونها شيء سوى هذه الملحمة لكانت جديرة ان تتبوأ هذه الحضارة مكانة سامية بين الحضارات العالمية القديمة" و"طرق البحث العلمي في التاريخ والآثار"، و"من تراثنا اللغوي القديم"، و"تاريخ العراق القديم"، و"تاريخ إيران القديم"، و"موجز تاريخ العلوم والمعارف في الحضارات القديمة"، و"مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة"، و"عصور ما قبل التاريخ"، و"مقدمة في أدب العراق القديم"، ان كتاب المقدمة كتاب رائع ومهم في مضمونه للباحثين والدارسين في مجال التاريخ القديم والآثار على وجه الخصوص والمهتمين بالتاريخ والحضارة على وجه العموم وهو كتاب شامل اذ اهتم بالتاريخ السياسي الى جانب النواحي الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية بشتى صنوفها، كما قام باقر بترجمة بعض الكتب المهمة إلى اللغة العربية، منها "بحث في التاريخ" للمؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي، و"ألواح سومر" لصموئيل نوح كريمر، فضلاً عن بعض فصول كتاب "تاريخ العلم" لجورج سارتون، كما نشر باقر كتابه "من تراثنا اللغوي القديم" عام 1980، وأثبت فيه أن العشرات من مفردات اللغة العربية المستخدمة حالياً ذات أصل سومري أو أكدي أو أشوري. على سبيل المثال قال إن اسم بغداد "يعود إلى الألف الرابع قبل الميلاد كما ورد في النصوص المسمارية على صيغتين هما: بگدادو وبگدادا.."، والف أيضا مع زميله الدكتور فؤاد سفر ست كراسات شملت مدن شمال العراق وغربه عرفنا فيه عن كل المناطق الاثرية في كل المدن، وهي مؤلفات مهمة والتي صارت معينا ومرجعا للباحثين عن حقل الاثار.
الأستاذ بشير فرنسيس (1909-1994م) باحث ومؤرخ ومترجم ، أحد رواد المدرسة الآثارية العراقية، مع طه باقر وفؤاد سفر، ومحمد علي مصطفى، ولد في الموصل عام 1909، ودرس في مدارسها الابتدائية، والثانوية، تخرج من من دار المعلمين العالية عام 1931م، وعين مدرسا لمادة التاريخ، حتى جاء عام 1938م فأمر وزير المعارف وبتدخل من ساطع الحصري بنقله من التعليم إلى الآثار، نشأ بشير يوسف فرنسيس، نشأةً أدبية ثقافية واعية، في بيت علم وادب ، فوالده كان من أعلام الموصل ومثقفيها، شارك في مؤتمر الآثار الأول بدمشق وفي مؤتمر ابن سينا ببغداد، قام باكتشاف مواقع أثرية و مباني قديمة في جميع إنحاء العراق وسجل عن كل موضع مشاهداته ودراساته في ملفات خاصة بدائرة الأثار، وبلغ اوج رقيه في العهدين القديم والعباسي، حصل على أوسمة عدة من وزارة المعارف ومن الجامعة العربية تقديراً لجهوده في حقل الأثار، من مؤلفاته : بغداد تاريخها وآثارها 1959، بغداد في عهد الخلافة العباسية ل غي لسترنج 1936 (ترجمة)، الرافدان لسيتون لويد 1948 (ترجمة)، العراق في القرن السابع عشر كما رآه الرحالة تافرتيه 1944 (ترجمة)، ملحمة كلكامش والطوفان 1950،نبذة تاريخية في اصول أسماء الأمكنة العراقية 1952، دروس التاريخ 1938، توفي عام 1994.
الأستاذ محمد علي مصطفى (1911-1997م) من رواد العاملين في الآثار ا و من أقدمهم واكثرهم سمعة على المستوى الدولي، و لذا يلقبه تلاميذه بشيخ الآثاريين العراقيين، ولد في مدينة الفلوجة، تخرج بدرجة مهندس مدني عام 1935، التحق بالعمل في الاثار عام 1936، عمل على مدى أربعة عقود في مجال التنقيب والتحري والمسح الآثاري وصيانتها، في معظم مناطق العراق، كان أهمها الأعمال الآثارية التي أجراها في مدن "أريدو" السومرية و"الحضر" و"سامراء" و"واسط"، كان مرشداً وموجهاً ومعلما للعديد من علماء الاثار، 1936ضافة الى العديد من الكوادر العراقية، الذي تدربت على يديه واكتسبت خبرة كبيرة نتيجة ملازمتها له في الحفر والتنقيب وصيانة الاثار، لم يتوقف الأستاذ محمد علي مصطفى عن العطاء حتى بعد التقاعد في العام 1973 اذ خصص له مكتب في المتحف العراقي كاستشاري وخبير ومشرف على اعمال المنقبين من الشباب في قسم الاثار في الكلية، حتى أجبر على ذلك حين فقد البصر و هو في عمر 85 سنة ليتوفى بعدها بعام أي عام 1997، مخلفا كتبا و بحوثا كثير هي:
أريدو وهو كتاب عن نتائج تنقيبات اريدو و هو باللغة الأنكليزية مع الاستاذين فؤاد سفر و ستيون لويد، الحضر مدينة الشمس في العام 1974 مع الاستاذ فؤاد سفر، كما و نشر العديد من التقارير و الابحاث في مجلدات مجلة سومر، ويشير الأستاذ مؤيد حسن مصطفى و هو ابن اخ الأستاذ محمد علي مصطفى انه اكمل مسودة كتاب اريدو باللغة العربية و مسودة كتاب اخر عن عمارة الحضر و ثالث عن العمارة الإسلامية في القرون الثلاث الهجرية الاولى الا ان هذه المسودات الثلاث فقدت في ظروف غامضة من مكتبه في المتحف العراقي.
انتهى الجزء الأول من مقالتنا عن بلاد الرافدين أرض الحضارات الممتدة على مدى الاف السنين، الرائدة في ابتكاراتها وعمائرها وفنونها، والتي شمل إشعاعها بلاد فارس وسوريا وجنوب شرق الأناضول، فهي حضارة متصلة ومتواصلة مع الحضارات القديمة في مصر والهند، إنّها بلاد الرافدين والجنائن المعلّقة وشريعة حمورابي، فعطاء الآثاريين والمنقبين الأجانب والعراقيين وبحثهم وتنقيبهم اختص بدراسة تاريخ بلاد الرافدين القديم والعصر العباسي، من آداب ولغة وفنون وعمران وديانة وحفريات، مما أدى لاكتشاف الكنوز الذهبية وحياة ملوك وحكام وخلفاء العراق القديم وحركة الحياة اليومية لأفراده من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، ومن الله التوفيق.
820 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع