محمد حسين الداغستاني
تقنيات اللغة الشعرية في مجموعة (دموع النهر) للشاعر منذرعبد الحر
تتسم اللغة الشعرية الحديثة بخصائص فنية متعددة تحقق الأداء البنيوي للشاعر وقدرته على توظيفها لصياغة تجربته الشعرية وترجمة تصوراته واحاسيسه وهمومه السايكولوجية والسيسولوجية بصيغ إبداعية فريدة تميز كل تجربة عن غيرها في الصفة الجمالية والمحتوى الفكري ومستوى التعبير والاستخدام الإيحائي لمدلولات الكلمة الى اقصى مدياتها .
منظور النقد
ولاشك أن التصدي للغة الشعرية في منظور النقد مهمة غير يسيرة وتتطلب إدراكا بالمحاور التي يمكن من خلالها تناول المادة الادبية والشعرية منها بشكل خاص وهي تتباين من ناقد الى آخر ، فتعليل الغموض والتضمين في النص الشعري وضروراته التعبيرية وتوظيف مدلولات الرمز والاساطير والمجاز والانزياح والكناية وغيرها التي يستخدمها الشاعر للإرتقاء ببنائه الداخلي للقصيدة أو النص وشحن المفردة بطاقة إيحائية لتجسيد مقاصده ، كلها ادواته التي تلتقي في بودقة واحدة لتفريغ الإعصار النفسي الكبير والاسفار عن النداء الكامن في الأعماق .
وشاعرنا المبدع منذر عبد الحر لامس هذه المعضلة فأشار في احدى مقابلاته الى قصور النقد في تحليل الأسس التي اوردناها فيقول ( لا أبالغ ولا أجدني متجنيا على أحد حين أقول إن الكتابات النقدية التي تناولت تجربتي الأدبية في عمومها، معظمها لا علاقة له بعلم النقد، مع تقديري واعتزازي للكتابات النقدية الرصينة التي تناولتني برؤيةٍ علميةٍ مهمة، وعلى العموم فإن أكثر النقد العربي بعيد عن عمق النص الأدبي وجوهر الاشتغال فيه من قبل الأدباء في مختلف اختصاصاتهم ، لأن النقد الآن بمثابة كشف واستبصار وغور في النص والتجربة ، وليس انطباعاً عاما أو رأيا عائماً لا مرتكزات علمية ونظرية فيه) . فمن هذا المنطلق فإن الناقد أمام مسؤولية مزدوجة تتمثل بتفسير الأسس السايكولوجية وجماليات التعبير اللغوي وكذلك القواعد النقدية الصارمة التي تقيد أي نص ابداعي مع التسليم أن حضور كل المفاهيم والاسس النظرية والاكاديمية عند تناول مجموعة ما أو نص بعينه مهمة عسيرة بل ومستحيلة في اغلب الاحيان .
المجموعة الشعرية (دموع النهر ) للشاعر الصادرة عن دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 2024) ضمت 14 نصاً ، وهي في مجملها تنبض بوجع جنوبي معهود ومتوتر ولغة سلسلة تنوء بأعباء الذكريات والمرادفات المثقلة بالحزن النبيل ، وتأخذ بتلابيب المتلقي لكي يعيش معه مرارة التجربة ولحظات الفرح الصغيرة المتناثرة والنادرة بين الأبيات بأسلوب إستبعد الغموض في التعبير دون أن ينعكس ذلك سلبا على جهده لتكثيف الصورة وخلق فضاء مترامٍ للانفعالات والحس الداخلي والوصول به الى الهزة النفسية أوالدهشة فأجاد بقوة السيطرة على الكلمة المنتقاة والتغلغل الى الدخيلة :
نفخر بأبائنا ...
وهم يفتحون نهاراتهم بشهقة
ويزرعون فينا فسائل فرح
فنرى أكواخنا قصورا
وثيابنا مطرزة بينابيع الحب
لأن أمهاتنا ..شغلن عيونهن المتعبات
بترتيق ما غضب من بقع فيها
إثر خصام بين الألوان .
بالعودة الى النص يلاحظ المتلقي أنه رغم البساطة المتناهية في تناول الاضداد بين الفقر المدقع والفخر والقناعة ، إلا أن أسلوب الطرح لم يسقط في حبائل السهولة والكتابة السردية التقليدية هنا ينبض الشعر بقدرة بيّنة ، فقد طرح الشاعر قضية اجتماعية خطيرة تأكل من ضفاف المجتمع وتنخر في كيانه ، الأب المنكوب والكوخ المتداعي والملابس العتيقة الممزقة وفوضى الالوان لكنه أفلح في سبكها بعيدا عن النثر المجرد في هيئة صور شعرية في غاية الجمال ، وقرّب بدقة المفهومين المتعاكسين الى الذائقة الشعرية ، الافتخار بالأب المتعب من اجل الاسرة والام الساهرة على تأمين حاجات الاسرة بأدنى المتاح والكوخ الذي يغدو قصرا فيما إذا ساد الاسرة التآلف مع الموجودات من حولها .
واضح أن نصوص المجموعة حافلة بتراكيب مجازية مقننة في التعبير دون إسراف في ايراد التفصيلات التي تهوى بالشعر الى هوة المباشرة والتقريرية ، فشاعرنا منذر ركن إلى إيراد الكثير من هذه التراكيب اللغوية ( نجوما تتكسر ، بستان من عبير وأغان ، الليل وحش مجنون ، نادتهم سياط الظهيرة ، ماتت عليها فواخت أحلامنا ، تكسر صوتي على امواج حروفها ، كأنه عقد يطوق عنق الليل ، سقطت طفولاتنا في سواقي الثعابين ، دعها تغفو على اعقاب سجائرك ... إلخ) وغيرها كثير ومنها هذا الانتقاء حين تعجن الشرفة وترمز الى الاطلالة النبض بالموت كما أن العشب الاصفر المريض الذي يرمز الى احتضار النماء وقسوة الزمن :
من شرفة صفراء
عجنها النبض بالموت
ذابت عقارب الوقت ..
وسال دمها على العشب الأصفر
ويتكأ شاعرنا أيضاً على الصور الخيالية الانزياحية التي تخالف المألوف وذلك بتوظيف تغييرات لغوية على مستوى النص لإثراء تجربته الشعرية أي انه استطاع أن يخلق لغة داخل اللغة لكن بعيدا عن الإيغال في التعقيد والغموض ، ففي (مروج الغواية ) يستعيد الشاعر ذكرياته المفعمة بالاحاسيس والمشاعر عن محلة الجمهورية في البصرة والتي توحي بالقدم والعراقة والتغيير بعدما كان إسمها الفيصلية لتتحول الى الجمهورية مع السقوط المأساوي للملكية في العراق فيطرح وقائع تلك الايام بلغة آسرة و صادمة لكنها تقطر شوقا وخضوعا للممكن :
كي لا ألتفت إليك
فأجرح سماء صمتك
بشرارة عشق
أغني من بعيد
لشر جنوني فيك
انا الساعي إليك على جناح اشتياقي
العائد إليك من صهيل معارك
وحتوف أحلام
وجفاف أمنيات
خطواتي ..قوافل
قطعت صحارى الوهم
كي تصل إلى دوحة المنفى
وترقد في حيرتها ...
في نصه (مناجاة متأخرة) المهداة الى الشاعر الكبير بدر شاكر السياب المترعة بالصور الشعرية النابضة بالتشبيهات والاستعارات التي تشي بما وراء الكلمة فالتعلق بفنار الخوف والسؤال عن العودة الحائرة وجحود الخليج لها مدلولات سياسية ، فلقد عانى السياب كثيرا نتيجة موقفه السياسي الداعم لإنتفاضة عام 1952 وهروبة الى الكويت وهناك حيث كتب اجمل قصائده ومنها (غريب على الخليج ) التي جسدت انفعالاته المريرة الناجمة عن المرض والغربة والتوق الشديد والمؤلم للعودة الى جيكور رمزا للوطن . هذه المكابدات الغائرة في ذات السياب وغيرها أختارها شاعرنا منذر ليستلهم ويحيك منها نسيجا بارعا من الصور الشعرية المتتابعة والغنية بالمقاصد :
عابرا همس الطين
وخفقات أجنحة البلابل
اللائي يرددن غناءك
لم يكن جيكور
إلا عتبك النحيل على البحار
تلك التي فصلتك عن ربوع بكائك
وجعلتك ترنو إلى السفن التائهة
متعلقاً بفنار الفزع
وانت تلوك لوعة
وسؤالاً عن عودة حائرة
يا من رسم على جحود الخليج
خيبة وغربة مداها سرير يطفو
على صبر فادح .
إنسان مقهور
وفي نصه (دموع النهر) يصور الشاعر النهر كأنه البشير الذي يطرق الأبواب وإنه يطوي الليل ويصارع النهار فيستخدم النهر كناية للإنسان المقهور الذي عليه أن يكف عن الوجع ويجيد فن التمرد والمواجهة وأن يتخطى سنوات الجدب والقهر بعد أن يصرخ باؤلئك الذين يهربون ويهابون المواجهة :
آن لضجيج مراياك
أن يفتت زوادة الصبر
لتمضي بعيداً
فالنهر …
تسلق ظهيرته بعكاز
ليمسك بالشمس
ويضعها على رمح هياجه
يصرخ بالقوافل الهاربة
إمسحوا رماد الخوف
عن عيونكم
وتحفل قصائد المجموعة بصيغ مستعارة من القران الكريم أو المرويات أو الإرث الشعبي الغزير لتقريب المقصد الى ذهن المتلقي وإضفاء المزيد من الحيوية الى نواة النص الشعري ، فهنا مثلا يفسر التلون وإخفاء الدخيلة الشريرة بالتلفع بالورد الذي يرمز للرقة والنقاء والحب، كما يستعين بواقعة استواء سفينة النبي نوح على جبل الجودي التي وفرت للكائنات على متنها الحماية من سطوة وغضب الله وذلك في مسعى لتأكيد عبثية المحاولات الرامية الى النيل من نبل المشاعر وصدق الدفينة :
وسكاكين غدر
ملفوفة بالورد
لا عليك
...
سنرسو على الجودي
فقد " قِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ
و يَا سَمَاءُ أَقْلِعِي"
فيما هم لم تعصمهم جبال الوهم
ولم يحمهم سور
أو تحملهم غيمة صنعوها.
ويستمد الشاعر منذر عبد الحر من خزين الشعر الشعبي أرق واجمل النصوص المعبرة عن الوجع والمكابدة والبعد القسري عن الديار والصبر الآيل للنفاذ فيستعين بمقطع في غاية الجمال ل (الطير الاغريقي) شاعرالجنوب العذب الراحل جبار الغزي ليشحن بها نصه ويقشر الكلمة لكي تتكامل اللوحة الغنية بالقهر والوجع :
ما لهذا العاشق
رمى نفسه في أحضان الصمت
وعبر جراحه
ليعانق الغربة ؟
—------------
(بسّك تره تعديتْ حد الجفه وياي
أعطش وأذوك الموت وبجفك الماي) !
ذقه… هو ملاذك الأمين.
قال شاعر الحداثة الانكليزي توماس إرنست هيوم (أنه لا خلق وبالتالي لا شعر إلاّ إذا استطاع الشاعر بالمراس الشديد والاخلاص العنيف أن (يحني) اللغة لمنحى فكره بدقة ) وهذا ما فعله منذر عبد الحر وعبرت عنه نصوص (دموع النهر) بإقتدار مشهود
1649 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع