قاسم محمد داود
الإقليم العربي السني بين الممنوع والمسموح
لطالما كانت القاعدة السُكانية في المحافظات السنية، رافضة بشدة، للدستور العراقي النافذ لعام (2005) لما يحتويه من مواد تُهدد كيان وحدة العراق الجغرافية، والسياسية، حسب وجهة نظرها، وأعلنت في حينها تيارات دينية، واجتماعية، في تلك المحافظات بصورة علنية، مقاطعة الدستور، أو التصويت بالرفض، وبالفعل صوتت محافظتا الأنبار وصلاح الدين، بالرفض بنسبة الثلثين من ناخبيها، إلا أن نسبة الرفض لم تصل إلى ثلثي الناخبين في ثلاث محافظات، حسبما نصت عليه حينها شروط نفاذ الدستور من عدمه، وذلك إثر خرق الحزب الإسلامي للإجماع السني وموافقته على تمرير الدستور مقابل وعود أميركية لم تتحقق، بتشكيل لجنة لمراجعة الدستور مستقبلا لتعديله بما يوافق مطالب العرب السنة، وبالأخص ما يتعلق برفضهم مبدأ الفيدرالية، في ظل خشيتهم من تقسيم العراق إلى أقاليم. بالتالي بلغت نسبة المصوتين بالموافقة على الدستور (59، 78%) في عموم العراق، و(21%) صوتوا بالرفض. ولكن خلال سنوات العنف الطائفي التي شهدها العراق، تكوّن رأي عام في الكثير من المحافظات السنية، بشأن ضرورة إقامة إقليم، للاحتماء به من سطوة بعض عناصر المؤسسة الأمنية، فضلاً عن ممارسات ذات صبغة طائفية، وانتقامية، وما دفع بهذا المسار إلى الواجهة بشكل أكبر، هو سيطرة تنظيم داعش، على محافظات عدة، بعد انسحاب وتقهقر قوات الجيش العراقي. وبرغم تكوّن هذه الفكرة لدى العقل الجمعي في هذه المحافظات، إلا أن هناك رفضا سياسيا من بغداد، وكذلك دخول خطابات الأقلمة سابقا في مرحلة "الاستحياء"، في مقابل خطاب الوحدة الوطنية، إلا أن هذا التوجه بقي يحتفظ ببريقه لدى الكثيرين، ويستقوي بأي ممارسة استفزازية تحصل من بعض الاطراف أو المؤسسات في بغداد، كما أن هذا الخطاب بدا واضحاً ومرئياً للجميع.
أن ما مر بالسنة من التهميش و الاقصاء من قبل الحكومة العراقية بقيادة الأحزاب الشيعية جعلت غالبية سكان المحافظات السنية يغيرون أفكارهم بالكامل و يرون أن الخلاص في فكرة الإقليم حتى أصبحت المظاهرات و الاعتصامات في الساحات العامة للمدن تطالب بإنشائه كما حصل في مظاهرات الرمادي في 3/4/2013 عندما طالب المتظاهرون بالإقليم وكان ذلك طلبهم الرئيسي و هذا كان دليلا على عمق التغيير الحاصل عندهم بسبب الظلم الذي تعرضوا له من قبل الحكومة المركزية، لاسيما بعد أن ساهمت سياسة تفكيك واستبدال مؤسسات الدولة العراقية في إعادة هيكلة المجتمع، وأخرجت السنة العرب من دوائر الحكم إلى الهامش.
وبعد سقوط مدينة الموصل ثاني أكبر مدن العراق بيد تنظيم (داعش) في حزيران 2014 أصبحت مطالب السنة جدية بالإقليم العربي السني لأنهم اعتبروا القوات العراقية عاجزة عن حمايتهم بل تعتدي عليهم وبالتالي هم بحاجة إلى إقليم للحفاظ على وجودهم والدفاع عن أنفسهم. يضاف إلى ذلك إن البنية الديمقراطية الهشة في البلد وضعف مؤسسات الدولة المركزية والبناء غير المتوازن للجيش والاجهزة الامنية… تجعل من فكرة الاقاليم التي اقرها الدستور على اساس اداري واقتصادي تتحول الى اقاليم على اساس عرقي وطائفي.
وتؤشر أغلب تصريحات القادة السنة في الوقت الراهن، إلى مسألتين، الأولى أن الأقلمة منصوص عليها في الدستور العراقي، الذي صوت عليه الشعب في 2005، والذي سمح بإقامة الأقاليم في البلاد، حيث أشار الدستور إلى الأقاليم في مواد دستورية عدة منها المادة (116) والتي أشارت إلى أن النظام الاتحادي يتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات، وكذلك المادة (117) والمادة (118) وكذلك نصت المادة (119) على أنه "يحق لكل محافظة، أو أكثر تكوين إقليمًا بناءً على طلب بالاستفتاء عليه"، ولم تكتفِ مواد الدستور بالإشارة إلى تشكيل الأقاليم، وإنما ذهبت تلك النصوص إلى أبعد من ذلك، حينما نصت أنه لا يجوز تعديل الدستور الاتحادي إلا بموافقة الأقاليم؛ وذلك في المادة (126).
وشرح الدستور طريقة إقامة الإقليم؛ أنه "يحق لكل محافظة أو أكثر تكوين إقليم بناءً على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين، أولاً طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم وثانياً طلب من عشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم".
أن "فكرة إقامة الإقليم، تنتعش مع الظلم الذي يقع على بعض المحافظات، فيما يتعلق بتوزيع الثروات، والحصول على الوظائف العامة، والمشاركة الفعلية في القرار السياسي، وزج المليشيات في مناطقهم تنفيذاً لأجندات إقليمية، ما يشكل ضغطا على أبناء هذه المحافظات الساعين نحو التنمية والاستقرار، وتكرار التجارب الناجحة في الداخل والخارج".
أن "القوى السياسية الشيعية تدرك بشكل فعلي طبيعة هذا الرأي العام، وبعضها يدفع نحو هذا المسار، الذي يمكن أن نسميه اضطراري، بالنسبة لبعض المحافظات"، كما أن "الأحزاب السنية لديها رؤيتها الخاصة في إدارة مناطقها، خاصة فيما يتعلق بالملف الأمني، ووجود الفصائل المسلحة هناك، وتحول مناطقهم إلى بؤرة للمخدرات والسمسرة والابتزاز، فضلاً عن كونها طريق بري إلى سوريا يخدم إيران وأجنداتها في المنطقة".
وتشكل أزمة الثقة بين الجمهور السني وحكومة بغداد التي يغلب عليها المكون الشيعي، الدافع الأبرز نحو هذا المسار، إذ ما زال يبرز حديث عن أن سكان المناطق ذات الأغلبية السنية يخافون من معاملة الحكومة لهم كمواطنين من الدرجة الثانية.
وتعارض معظم القوى الشيعية مشروع الإقليم، حيث أعلن رئيس مجلس القضاء الأعلى، فائق زيدان، مؤخراً رفضه الشديد لإنشاء إقليم سني بذريعة "تعرض وحدة العراق إلى التصدع"، رغم منح دستور البلاد صلاحية تشكيل الأقاليم بشروط محددة وغير معقدة، إذ يكفي تصويت ثلث أعضاء مجلس أي محافظة أو 10 في المائة من عدد الناخبين على إنشاء الإقليم. وهنا لابد من التذكير بأن من وضع فكرة الأقاليم في الدستور العراقي هم الشيعة ومن رفض الفكرة خوفاً على وحدة العراق هم السنة الذين رفضوا الدستور ولكن عندما احتاج السنة الإقليم رفض الشيعة بحجة الخوف على وحدة العراق. وفي عام 2005 وعندما كان العمل يجري على كتابة الدستور، دعا زعيم المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق عبد العزيز الحكيم إلى إقامة فدرالية للشيعة في جنوب البلاد. وأعرب الحكيم عن اعتقاده أمام حشد من الشيعة في مدينة النجف بأنه "بات من الضروري إقامة إقليم واحد يضم جميع مناطق الشيعة على غرار إقليم كردستان في شمال العراق". من جانبه قال الأمين العام لمنظمة بدر التابعة للمجلس الأعلى آنذاك هادي العامري أمام نفس الحشد في النجف إن "على الشيعة المضي قدما في إقامة فدرالية في الجنوب وإلا سيندمون على ذلك".
ولم يقف الأمر عند ذلك؛ ففي عام 2019، دعا أعضاء مجلس محافظة البصرة، إلى تحويل محافظتهم إقليماً، للحصول على حصة أكبر من النفط العراقي، إذ تعكس المظاهرات التي تندلع بشكل متكرر في المحافظة الأغنى بالنفط، الاستياء المحليّ من الفساد ونقص الخدمات الكافية، والشعور بما كان يُنظر إليه على أنه معاملة غير عادلة بالمقارنة مع حكومة إقليم كردستان، في وضعها المستقل وسيطرتها على مواردها. ورغم حماس القوى الشيعية لـ«المادة 119» والإصرار على تثبيتها في دستور البلاد الذي أُقر عام 2005، فإنها اليوم تعارض علناً إنشاء الأقاليم، ولا تسمح به حتى في المناطق ذات الأغلبية الشيعية مثل محافظة البصرة الجنوبية التي ما زالت تتردد فيها دعوات لإعلانها إقليماً.
1281 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع