بقلم أحمد فخري
مسلسل مغتربون - قصة حقيقية كاملة (عراق الديمقراطية)
الدنمارك 2006
دخلت اريج الى مكتب زوجها فوجدته منهمكاً بقراءة الكتاب الذي وقع في غرامه بالآونة الاخيرة فسألته،
اريج : الا زلت تقرأ بهذا الكتاب اللعين؟
مهدي : انا لا افهمك يا اريج. لماذا تقولين عنه لعيناً؟ انه كتاب مهم وبالنسبة لي فهو ثقافة عامة.
اريج : انه يحكي عن حياة كاري ماكس اللعين، ذلك اليهودي الالماني الذي يدعوا الى الكفر والالحاد. هل تريد ان تترك دينك وتصبح كافراً؟
مهدي : اولاً اسمه كارل ماركس وليس كاري ماكس. ثانياً يجب ان تعرفِ جيداً ان قراءة الكتب عن اي اديب او فيلسوف او شخص لا يجعلني انساق لافكاره بل ازداد وعياً وعلماً. فمثلاً لو قرأت كتاب كفاحي الذي الفه هتلر فهذا لا يعني انني ساتعاطف مع النازية واصبح نازياً ولو قرأت لـ ثيودور هرتزل فسوف لن اصبح صهيونياً ولو قرأت كتاباً عن هولاكو فهذا سوف لن يجعلني اتعاطف مع المغول. انه نهم السبيل الى المعرفة يا امرأة.
اريج : ولكن صاحبك كارل ماركس الالماني هذا اخترع الشيوعية قبل 100 عام والتي دمرت العالم باسره ثم مات لتنتهي تماماً تلك الحقبة المظلمة فلماذا تقرأ عنه الآن؟
مهدي : اسمعي يا جاهلة، ولد كارل ماركس في مملكة تدعى بروسيا عام 1818 اي قبل 186 سنة. كان ماركس ينتمي الى عائلة يهودية لكن والده قام بتغيير ديانته من اليهودية الى المسيحية كي يتخلص من تنمر ابناء بلده وحقدهم على اليهود.
اريج : هل كان والده مثقفاً؟
مهدي : والده كان محامياً. وعندما بلغ ابنه (كارل) السن الذي يؤهله الدخول للجامعة قرر ان يبعثه الى المانيا كي يدرس الحقوق.
اريج : إذاً هو محامي مثل ابوه.
مهدي : كلا، كارل لم يتسنى له اكمال دراسة المحاماة فقد رسب بالسنة الاولى وقرر ان يغير دراسته من المحاماة الى الفلسفة لانه كان شغوفاً بها. وبعد اكمال البكالوريوس قرر ان يواصل الدراسة فحصل على الماجستير ثم بعدها الدكتوراه.
اريج : وماذا عن الاقتصاد. لقد سمعت من امرأة شيوعية تتحدث على التلفاز تقول انه اكمل البكلوريوس في الاقتصاد.
مهدي : كلا، هذه معلومة خاطئة وغير صحيحة ابداً. انه لم يدرس سوى الفلسفة.
اريج : دعك من الحديث عن هذا الشخص الآن تعال الى المطبخ فالطعام كاد ان يجهز.
مهدي : ماذا اعددتِ لنا اليوم.
اريج : اليوم لدينا مرقة السبزي مع الرز.
مهدي : يا سلام، اشتقت للسبزي كثيراً. ساكمل قرائة هذا الفصل فقط ثم التحق بك بالمطبخ.
اريج : احمد وهديل ينتظرانك على الطعام ويقولون انهما لن يباشرا الأكل حتى تأتي وتأكل معهما، لا تتأخر ارجوك.
مهدي : 10 دقائق فقط والحق بكِ.
ذهب مهدي الى المطبخ بعد ساعة كاملة فوجد الاطباق قد ازيلت من السفرة وتفرقت العائلة ليخرج الاولاد احمد وهديل خارج الدار للعب مع اصحابهم فسأل،
مهدي : اين الطعام يا اريج؟
اريج : انتظرناك كثيراً فلم تاتي لذا طلب مني الاولاد ان نبدأ بتناول وجبة الغداء لانهم يعرفونك جيداً.
مهدي : حسناً لا عليك، هل بقي لي شيئ اكله؟
اريج : طبعاً حبيبي، ساسخنه من جديد لتأكل.
وضعت الطعام الساخن على السفرة وجلس مهدي ليتغدى. وبينما كان يأكل طعامه سألته،
اريج : ماذا ستفعل خلال الاجازة التي منحت لك بالعمل يا حبيبي؟
مهدي : بصراحة افكر جدياً كي ازور الاهل في العراق. فانا مشتاق للعائلة وبالاخص السيد الوالد اطال الله في عمره. فكما تعلمين لقد اصبح في الخامسة والسبعين وصحته لم تعد تحتمل. ومع ذلك فهو يصر على عمله في الجامع وليس مستعداً كي يتوقف عن الخطب ايام الجمعة.
اريج : هل اخبرتهم بقرارك؟
مهدي : ساتصل باخي حسين اليوم لاستفسر منه عن اي شيء يمكنني احضاره معي.
اريج : وهل تعتقد ان ميزانيتنا ستحتمل تكاليف سفرتك المرتقبة هذه؟
مهدي : ساحاول ان اتدبر الامر لا تقلقي.
بعد ان اكمل وجبة الطعام رفع سماعة الهاتف وطلب بغداد ليسمع اخاه الاصغر ويقول،
حسين : اهلاً مهدي؟
مهدي : كيف حالك حسوني؟
حسين : اهلاً حبيبي مهدي. لقد اشتقت اليك كثيراً.
مهدي : وهذا بالذات سبب مكالمتي اليك. لقد قررت ان اتي لزيارتكم في العراق.
حسين : هل تصدقني القول يا مهدي؟ هل ستأتي بعد كل تلك السنين؟ هل يعقل ذلك؟ انا لا اصدق.
مهدي : بل صدق يا حسوني صدق. سوف اتي الآن فليس هناك سبب يمنعني من العودة. خصوصاً وان ذلك الطاغية البغيض قد انزاح عن الوجود واصبح المجال آمناً على شخص مثلي كي يعود. سنين الصبر التي عانيتها بالعراق قد انزاحت دون عودة. بالاضافة الى سنين الغربة وفراقكم عني.
حسين : ونحن كذلك مشتاقون اليك كثيراً.
مهدي : اخبرني حسوني، كيف هي صحة الوالد؟
حسين : الوالد ليس بخير ابداً يا اخي. فقد زار الطبيب قبل اربعة ايام واخبره ان قلبه بحالة سيئة جداً. وعليه ان يريح بدنه من المجهود. عليك ان تأتي باسرع وقت قبل ان نفقده يا مهدي.
مهدي : وهذا ما قررته فعله ولكن اخبرني، هل هناك شيء يمكنني احضاره معي كي يخفف عني تكاليف السفر؟ فانا اعمل بوظيفة متواضعة بالكاد تسد حوائج عائلتي.
حسين : بامكانك احضار سيارة شحن صغيرة من المانيا لانها مرغوبة جداً بالعراق وليس من السهل الحصول عليها بسوق السيارات.
مهدي : وبكم نستطيع بيعها؟
حسين : ذلك يعتمد على عمر السيارة وحالتها طبعاً. بكل الاحوال سوف لن تباع باقل من 3 او 4 اضعاف ثمنها الاصلي.
مهدي : حسناً ساحاول ان اطلب قرضاً من البنك كي اشتريها واقودها بنفسي لاعود بها للعراق.
حسين : اجل هذا امر رائع.
اغلق الخط مع اخوه ونادى على زوجته ليتباحث معها بخصوص اقتراح اخوه حسين فسمعته يقول،
مهدي : لقد اغلقت الخط للتو مع اخي حسين واخبرته عن نيتي في العودة الى بغداد اثناء اجازتي القادمة فرحب بها كثيراً. ما رأيك؟
اريج : هل تعتقد ان الذهاب الى هناك اصبح آمناً عليك؟
مهدي : طبعاً حبيبتي. العراق اصبح في امان بعد ان رحل الطاغية وانتهى حكم البعث. بالاضافة الى ذلك، اخبرني اخي ان الوالد بحالة صحية سيئة جداً وقد يرحل باي وقت لذلك اردت ان اراه.
اريج : طبعاً بامكانك ان تذهب ولكن الاولاد سيشتاقون اليك.
مهدي : الاولاد فقط؟
ابتسمت وادارت رأسها خجلاً ثم قالت،
اريج : كلنا سنشتاق اليك طبعاً.
مهدي : حسناً اليوم ساذهب الى منطقة (النوربرو) بكوبنهاكن واستفسر عن ثمن تذاكر الحافلات الى المانيا.
اريج : المانيا؟ وهل ستذهب لزيارة والدك بالمانيا؟ ظننت انك تريد الذهاب للعراق.
مهدي : كلا يا جاهلة. ساذهب الى المانيا لشراء شاحنة نقل اقودها بنفسي الى العراق.
اريج : لكنك لا تستطيع قيادتها لان رخصة القيادة التي لديك لا تخولك قيادة الشاحنات.
مهدي : انا لا اقصد شاحنة كبيرة. انما هي صغيرة بالكاد اكبر قليلاً من سيارتنا التويوتا.
اريج : وكم يبلغ سعرها هناك؟
مهدي : ساحاول ان استقصي الامر لكنني ساشتري واحدة مستعملة لذلك سيكون ثمنها بخساً بعض الشيء.
اريج : ولماذا تذهب الى بغداد بشاحنة؟ لماذا لا تقود سيارتنا الى بغداد؟
مهدي : لان اخي حسين اقترح علي ان اشتري شاحنة صغيرة واقوم ببيعها في العراق لاغطي بثمنها تكاليف الرحلة زائداً القليل من الربح قد ينفعنا هنا بالمستقبل.
اريج : لكننا لا نملك ثمن الشاحنة. من اين ستأتي بثمنها؟
مهدي : ساقترض مبلغ 40 الف كرونا من البنك مما يساوي حوالي 5000 يورو وهو ثمنٌ لشاحنة مستعملة بالمانيا.
اريج : وهل انت متأكد ان تلك الشاحنة ستباع في العراق بسهولة؟
مهدي : بالتأكيد، اخبرني اخي انني قد احصل على ثلاثة او اربع اضعاف ثمنها بالعراق وسيتلاقفها مني المشترون. وبذلك استطيع ارجاع ما صرفته اثناء الرحلة وتسديد الدين وارجاع مبلغ اضافي نستطيع الاستفادة منه هنا.
اريج : انت ادرى بامورك.
مهدي : ساذهب غداً الى البنك لاتحدث الى مدير البنك كي احصل على تلك السلفة.
اريج : طيب حبيبي. وفقك الله.
باليوم التالي خرج مهدي من منزله متوجهاً الى البنك وتحدث مع المدير لكن المدير اخبره ان البنك لا يسعه منح اكثر من 20 الفاً. لذلك وافق عليها مجبراً وحولها الى اليورو ثم اخذها معه الى العمل. وقبل ان يركب الحافلة التي يعمل عليها كسائق رأى زميله الايراني مجيد فحياه وسأله،
مهدي : هل بامكانك ان تسلفني 20 الف كرونا يا مجيد؟
مجيد : للاسف لا اقدر لان ابنتي ليلى ستتزوج بعد شهرين وانت تعلم مصاريف الزواج. ارجو منك المعذرة.
مهدي : طيب اخي شكراً.
ركب مهدي الحافلة وقادها الى خارج حضيرة الحافلات متجهاً بها الى شمال العاصمة كوبنهاكن ليبدأ عمله مثل كل يوم. كان صاحبنا مشوش الذهن يبحث عن اي طريقة يمكنه الحصول بها على المال المطلوب كي يحقق مشروع الرحلة الذي قرر تنفيذه، خصوصاً وانه اذا اشترى شاحنة بثمن بخس فهي ستسبب له الكثير من الاعطال اثناء الرحلة الى بغداد بالاضافة الى انها سوف لن تباع بثمن مرضي هناك لتغطي كل التكاليف. لذلك قرر ان يفكر بطريقة اخرى غيرها. وبذلك اليوم قرر زيارة احد اصدقائه العراقيين الذي تربطه به علاقة وثيقة كي يطلب منه سلفة. لكن صديقه العراقي اعطاه حججاً لم يكن لديه القدرة على تصديقها او تكذيبها لذلك رجع الى بيته خائبَ الأمل. رأى زوجته منهمكة في تنظيف المطبخ حياها فسألته؟
اريج : ماذا فعلت اليوم بالبنك؟
مهدي : لقد رفض البنك منحي 40 الفاً لانه مبلغ كبير وقد وافقوا فقط على 20 الفاً.
اريج : وماذا بعد؟
مهدي : سألت زميلي في العمل كي يقرضني المبلغ فاعتذر، بعدها قمت بزيارة ابو مروة وطلبت منه نفس الطلب لكنه اعتذر هو الآخر.
اريج : لماذا لا تبيع السيارة التي بحوزتنا؟
مهدي : وكيف سنتنقل بعدها؟
اريج : بما انك ستبيع الشاحنة عندما تصل بغداد وتعود بارباحها الى هنا. سنشتري سيارة جديدة غيرها من تلك الارباح.
مهدي : لكن سيارتنا قديمة ولن تأتي لنا بالمبلغ الذي يسد الحاجة.
اريج : بامكاني ان ابيع بعضاً من مصوغاتي كي نسد بها المبلغ.
مهدي : لا، لا اريدك ان تتصرفي بمصوغاتك. فانا اهديتك اياها عندما تزوجنا بكوبنهاكن وهي عزيزة على قلبك.
اريج : بامكانك ان تشتري لي غيرها عندما تعود من رحلتك بعد بيع الشاحنة.
مهدي : دعنا نبيع سيارتنا اولاً ونرى ما سيحدث.
وبعد بضعة ايام استكمل مهدي صياغة الاعلان لبيع السيارة في المجلة الزرقاء كما تسمى بالدنمارك. ووضع عليها سعر 10 آلاف كرونة وهو ما يساوي 1500 دولار تقريباً مع انه يعلم ان قيمتها لا تزيد عن نصف هذا المبلغ. بقي الاعلان لبضعة ايام في المجلة لكنه لم يستقبل اي اتصال من مشترين. لذلك عدّل من السعر الى 8 آلاف كرونة فتحصل على بضع اتصالات هاتفية لكنهم كانوا يريدون تخفيض المبلغ. بآخر المطاف باعها لرجل صومالي بـ 4 آلاف كرونا. وبعدها ذهب مع زوجته اريج الى احدى محلات المجوهرات لاحد المغتربين العراقيين في منطقة (النوبغو) وعرضا عليه مصوغاتها فلم يقيمها باكثر من 15 الف كرونة. قبلا بالمبلغ رغم مرارة القرار ليصبح لديه مبلغاً اجمالياً قدره 39 الف كرونا. قالت له زوجته،
اريج : لا تفكر حبيبي، خذ الفاً من مصروف الدار وسوف اتدبر امري.
مهدي : وكيف ذلك؟
اريج : لا عليك. فانت متزوج من امرأة مدبرة. سوف اقوم بما يلزم لاسد الثغرات بطريقتي.
مهدي : حسناً. بذلك اصبح المبلغ كاملاً. سابدأ بالتخطيط للسفر عن قريب.
بتلك الليلة تسلم مهدي اتصالاً من اخيه حسين يطلب منه الكثير من المشتريات التي تنقصهم فسجلها مهدي كلها ووعده ان يحضرها معه عند قدومه للعراق.
في الايام السبع التي تلت بقي مهدي يشتري الكثير من الهدايا لاهله بالعراق. وكلما نظر الى المشتريات شعر بانها لا تزال قليلة ومتواضعة او انه قد نسي بعضاً من افراد عائلته فيعود ويخرج للتسوق من جديد حتى وجد انه قد تصرف بما يقرب من 5000 كرونا مما كان يخطط لاستغلاله في شراء الشاحنة. لكنه اقنع نفسه ان بامكانه العثور على شاحنة اقل بقليل مما كان يصبو اليه.
وفي يوم السفر خرجت زوجته واولاده لتوديعه. بقيوا يلوحون له ويرمون له القبل حتى بعدت سيارة الاجرة متجهة الى محطة الحافلات. انتظر مهدي بداخل المحطة لحوالي ساعة كاملة حتى وقفت حافلة كتب على لوحتها الامامية (هامبورغ). وضع حقيبته الكبيرة في اسفل الحافلة ثم ركب الحافلة واخذ موقعاً بوسطها. جلس بالقرب من الشباك واخرج كتاباً كان قد بدأه في الدنمارك عن كارل ماركس وتطور الشيوعية ثم اصابه فضول كبير حول الكتاب الذي الفه ماركس بعنوان (رأس المال). عزم ان يحاول شرائه من شارع المتنبي عندما يصل بغداد. فالكتاب الذي بين يديه يتحدث كثيراً عن الاحداث التي ارتبطت برأس المال. وبينما هو يقرأ كتابه جلس الى جانبه شاب في العشرينات من العمر، حياه، فرد عليه التحية. وبعد ان عدل من مجلسه نظر اليه وقال،
المسافر : انا اسمي جاد النجار من لبنان. ولدي الجنسية الدنماركية
مهدي : تشرفنا، وانا اسمي مهدي محمد اللامي من العراق ولدي الجنسية الدنماركية ايضاً.
جاد : هل انت قاصد المانيا للسياحة؟
مهدي : كلا، انا ذاهب لشراء شاحنة صغيرة اقودها بنفسي لابيعها في العراق.
جاد : ما هذه الصدفة! انا ايضاً ذاهبٌ لاشتري سيارة لاعود بها الى الدنمارك وابيعها هنا.
مهدي : وهل ستجد من يشتريها بالدنمارك؟
جاد : بالتأكيد. فهذا النوع من السيارات مرغوب جداً.
مهدي : طيب، وماذا عن الجمارك؟
جاد : بامكان من يشتريها دفع ضريبة الجمارك هناك وبالنتيجة ستصبح ارخص بكثير من ان يشتريها من الدنمارك.
مهدي : وما نوع السيارة التي ترغب شرائها؟
جاد : بي ام دبليو. هذه ليست اول مرة اقوم بهذا العمل فقد جلبت 8 سيارات قبلها وبعتها كلها خلال ايام.
مهدي : وما هو مكسبك من هذه الصفقات؟
جاد : كل سيارة اربح بها ما يقرب من 70 الى 80 الف كرون.
مهدي : وبكم تشتريها؟
جاد : اشتريها بما يقرب من 30 او 40 الف كرون.
مهدي : هذا امر جداً مربح. وهل تعرف المعارض التي تبيع السيارات المستعملة بالمانيا؟
جاد : باطبع. لقد زرتها اغلبها وعرفت الصالح من الطالح منها.
مهدي : إذاً هل تمانع ان تصطحبني معك كي تساعدني على شراء شاحنتي؟
جاد : بالتأكيد انا عادة ما انزل بفندق رخيص في وسط (هامبورغ).
مهدي : وانا ساتي معك.
كان جاد فتى لطيف جداً وطيب المعشر وكان يتحدث الالمانية بطلاقة لذلك فانه سيشكل سند كبيراً لمهدي عندما تبدأ المفاوضات على الاسعار. ولما وصلا مرفأ (رودبو) جنوب الدنمارك دخلت الحافلة عبارة عملاقة لتعبر البحر برحلة قصيرة تدوم 45 دقيقة. اثنائها نزل جاد ومهدي داخل العبارة في بهوها ثم ما ان بدءا بتناول القهوة الا وسمعا الاعلان عبر المذياع كي يرجع الركاب الى مركباتهم لمغادرة العبارة كي يواصلوا الرحلة. وبعد ان أُنزِلَتْ حافلتهم من العبارة بدأت الرحلة الثانية باتجاه مدينة هامبورغ. مرت على الرحلة ما يقرب من ساعتين حتى وصلت الحافلة بمراب عام وسط مدينة هامبورغ. هنا اقترح جاد ان يذهبا بسيارة تاكسي الى فندق (تفنتال). اتفقا على أن يبدأ بحثهما عن المركبات في اليوم التالي. وفي الصباح الباكر من اليوم التالي تلقى مهدي مكالمة هاتفية بهاتف الغرفة ليسمع صوت صاحبه جاد يدعوه لتناول وجبة الافطار. خرج مهدي من غرفته ونزل الى مطعم الفندق فوجد صاحبه جاد قد سبقه الى طاولة صغيرة. جلس مهدي امامه وحياه فسأله،
جاد : كيف كانت ليلتك؟ هل ارتحت بالمنام؟
مهدي : اجل حصلت على نوم هانئ جداً شكراً. هذا الفندق خيار جيد، شكراً يا جاد.
جاد : انصحك بالجبنة المعتقة، فهي لذيذة جداً.
مهدي : ساخذ القليل منها مع الشاي.
صار الاثنان يتحدثان عن هدفهما في شراء المركبات اثناء تناولهما وجبة الافطار ثم اعلن جاد،
جاد : علينا ان نتوجه الآن الى معرض السيارات القريب من هنا.
مهدي : حسناً انا معك اخي جاد.
خرج الاثنان من باب الفندق ومشيا قليلاً حتى وقف جاد وقال،
جاد : سننتظر الحافلة هنا.
ما مكثوا بالموقف سوى 5 دقائق حتى أتت حافلة بيضاء انيقة بخط برتقالي اسفلها. ركباها فاخذتهم الى المنطقة التي تنتشر فيها الكثير من المعارض. تفحصا المعرض الاول فلم يجدا ضالتهما ثم زارا الثاني ثم الثالث حتى وقعت عين جاد على سيارة قهوائية من نوع BMW من الفئة الثالثة عمرها 8 سنوات لكنها بحالة جيدة جداً فاعجب بها وصار يتفاوض مع البائع كي يمنحه السيارة بسعر منخفض. ولما استقر رأيهما على سعر معين سأل،
مهدي : كيف رست الامور؟
جاد : اتفقنا على ما يساوي 51 الف كرونا.
مهدي : سعر ممتاز. هذه السيارة لا يمكن الحصول عليها باقل من 250 الف كرونا بالدنمارك بعد الضريبة.
جاد : كلامك صحيح. ساقوم بشرائها الآن.
مهدي : مبارك عليك اخي جاد.
جاد : وماذا عنك يا مهدي؟ الم تجد شاحنة تناسبك؟
مهدي : اجل وجدت واحدة لكن المبلغ الذي بحوزتي لا يكفي لشرائها.
جاد : كم تحتاج؟
هدي : احتاج الى مبلغ 20 آلاف كرونا اضافية لتغطي ثمن الشاحنة وتكاليف قيادتها وتكاليف الرحلة الى بغداد. وبصريح العبارة انا في حاجة الى مبلغ اجمالي قدره 30 الف كرونا وهذا كما تعلم يساوي حوالي 4 الاف دولار.
جاد : لا عليك عزيزي، بامكاني ان اقرضك المبلغ إن اردت.
مهدي : لكني لا استطيع تسديد المبلغ فور رجوعي من الرحلة. فقد يتطلب ذلك اسبوع او اثنان.
جاد : هذا لا يهم. تستطيع تسديده وقتما تشاء فانا مقتدر وبامكاني ان انتظر حتى سنة كاملة إن اقتضى الامر.
مهدي : اقسم بالله انك انسان رائع. شكراً لك يا اخي.
جاد : لا تفكر بالامر بتاتاً. المهم ان الشاحنة بحالة جيدة.
بدأ جاد يتفحص الشاحنة مع مهدي حتى اخبره بانها في احسن حال إذ كان عدادها يشير الى 35 الف كيلومتر فقط.
اعطى جاد المال لمهدي فقام مهدي باضافته للمبلغ الثاني واعطاه لصاحب المعرض فتمت الصفقة. خرج الرجلان بمركبتين. كان مهدي يتبع جاد بشاحنته الجديدة لانه لا يعرف الطرقات بداخل مدينة هامبورغ. اوقفا المركبتين في موقف سيارات الفندق واحكما اغلاقهما ثم غادرا المراب فسأل،
جاد : هل انت جائع؟
مهدي : اكاد اموت من الجوع.
جاد : هناك مطعم تركي بامكاننا زيارته وتناول وجبة الغداء لديه. المطعم قريب جداً من الفندق بامكاننا السير على اقدامنا.
مهدي : فكرة صائبة. هيا بنا.
وبينما هما يتناولان لفافة الـ (دوروم) سأل،
جاد : متى تنوي المغادرة؟
مهدي : ساغادر غداً صباحاً متجهاً الى القنصلية العراقية ثم ابدأ الرحلة الطويلة الى بغداد إن شاء الله.
جاد : اما انا فسوف ابقى يومين او ثلاثة اخرى هنا بهامبورغ فقد اوصتني زوجتي على بعض الملابس من احدى المحلات من هذه المدينة.
مهدي : دعني اتي معك لاتعرف على هذا المتجر. ما اسمه؟
جاد : اسمه C&A. لدى هذا المتجر بضاعة ذات جودة عالية واسعاره معقولة جداً.
خرج الاثنان سيراً على الاقدام لبضع دقائق حتى وصلا الى متجر C&A. فكانت المفاجئة الكبرى لمهدي لان زيارته كانت الاولى لالمانيا ولذلك المتجر بالتحديد. وجد ان اسعاره تكاد تكون ربع اسعار الالبسة في الدنمارك. لكنه قرر ان لا يجازف بشراء اي شيء من هناك لان المال الذي تبقى بحوزته بالكاد يكفي توصيله الى بغداد ليبقى منه القليل لرحلة العودة. وباليوم التالي ودع مهدي صاحبه جاد وبدأ يستعمل نظام تحديد المواقع GPS الذي اشتراه بمبلغ بخس حتى وصل الى الطريق الخارجي متجهاً الى النمسا في رحلته الطويلة الى بغداد.
وبعد اكثر من اسبوعين من وهن القيادة المضني متكبداً عناء السفر. إذ كان يقضي جميع لياليها بالنوم بداخل الشاحنة حتى يوفر ثمن الفنادق فيعود بالنهار ويقودها من جديد. بآخر المطاف وصل الى مشارف بغداد بفجر يوم الجمعة. بدأ الحنين يلهب صدره بعد ان فارق مدينته ومسقط رأسه. اول شيء جذب انتباهه هي المساجد المنتشرة في كل شارع مر به واصوات المآذن التي شنفت اذانه فهو لم يسمعها بالدنمارك سوى على هاتفه النقال. كان مهدي ينظر حوله ويتذكر ايام العيد حينما كان اباه يأخذه عنوة الى الجامع مع اخوه حسين ليؤديا الصلاة سوية. وعند الانتهاء من الصلاة كان والده يصر على منح العيدية للفقراء الجالسين خارج الجامع بسخاء كبير. كان اخاه حسين يعترض على ذلك ويقول، "لماذا تمنح العيدية للمتسولين ولا تمنحها لاولادك؟" فكان رده دائماً، "انت لديك كل شيء تحتاجه يا ولدي لكن الفقير لا يملك منها شيئاً ". اوووووف يا ابي كم انت رجل عظيم مستقيم ونزيه. ليت كل الناس تقتدي بك وباخلاقك النبيلة وتحذوا حذوك.
دخل الحي الذي كان يسكن فيه لزمن طويل فبدأت الدموع تنهال من عينيه بغزارة. اوقف الشاحنة جانباً وصار يجفف دموعه فكل شيء امامه كان يذكره بطفولته الجميلة في كنف عائلة متواضعة مستقيمة ورعة. حدث نفسه وهو يبتسم إذ قال،"لو كان كارل ماركس يعيش بالاجواء العائلية التي كنت اعيش بها لما كتب كتابه الشهير (رأس المال) ولما غير شكل العالم بسببه". ترائى له من بعيد بيت العائلة فصار قلبه يخفق بشدة وبدأ يتصبب عرقاً، صارت اوضاعه النفسية تختلط عليه ما بين الشوق والحب والم الفراق وضياع العمر في الغربة. حتى اوقف الشاحنة امام الباب ارئيسي ونزل منها كي يستدير ويدخل من الباب الجانبي المطل على المطبخ. فجأة سمع اصوات زغاريد امه المميزة فتعرف عليها لانها الوحيدة التي كانت تطلقها كما لو كانت صفارة انذار. دخل باب المطبخ وقال بصوت مرتفع، "هل لديكم سيدة تدعى ام مهدي؟" فركضت اليه امه وصارت تعانقه وتقبله. التف حوله حشد كبير من الكبار والصغار، البعض كان يجهل اسمائه لكنه قرر ان يلتزم الصمت كي لا يبدوا كالاحمق الجاهل امامهم. فسنين الغربة ابعدته عن المواليد الجدد ممن دخل منظومة العائلة. وبعد ان هفتت موجة القبلات والظم والبكاء والعتاب امسكت والدته باحد الاطفال وطلبت منه ان يركض الى الجامع كي يستدعي كبير العائلة ابو مهدي. جلس مهدي في غرفة الاستقبال وكان الكل من حوله يقبله ويتحدث اليه ويسأله عن زوجته واولاده. فجأة دخل الى الغرفة اخاه حسين فوقف ليأخذه بالاحظان ثم جلس الى جانبه واول سؤال سأله،
حسين : كيف كانت الرحلة يا اخي؟
مهدي : كانت متعبة وطويلة ولكن الحمد لله انتهت بعد عناء شديد.
حسين :انا اقصد الشاحنة، أهي بحالة جيدة؟ هل تضررت بسبب السفر الطويل؟ ام هي بحالة جيدة؟
مهدي : انها بحالة ممتازة. لقد قطعت بها حوالي 4800 كلم ولم تطلب مني تلك المسكينة سوى الوقود.
حسين : هل تعمل بالديزل ام البانزين؟
مهدي : انها تعمل بالديزل.
حسين : ممتاز. سوف لن تجابهنا مشقة في بيعها ابداً.
مهدي : هذا من اختصاصك يا بطل. فانا معتمد عليك بهذه المهمة. وسوف يكون لك حصة من البيع.
حسين : انا لا اريد منها شيئاً. انها سيارتك وقد تكلفت كثيراً بشرائها وتعبت في قيادتها حتى وصلت الينا. والآن قل لي، هل احضرت معها كل الاوراق الرسمية؟
مهدي : لدي ورقة الملكية مصدقة من السلطات الرسمية بالمانيا. وقد صادقت عليها القنصلية العراقية في هامبورغ.
حسين :سنقوم ببدئ الذهاب الى سوق السيارات غداً او بعد غد.
مهدي : كما تحب فانت صاحب المسرحية.
حسين : ماذا تقصد؟
مهدي : اقصد ان الامر يعود لك اخي العزيز وانت الذي تقرر.
فجأة دخل الشيخ محمد رب الاسرة مرتدياً عبائته البنية وعمامته البيضاء وسبحته التي لا تفارق يده اليمنى ابداً حتى في اوقات النوم. وقف مهدي ليقابل والده والدموع تنهال من عينيه. وقف صامتاً كالصنم ينظر الى اباه حتى رأه يبتسم ثم رفع يداه للاعلى مناجياً ربه ليقول، "حمداً وشكراً لك يا ربي، لقد اطلت في عمري حتى اكحل عيني برؤية ابني البكر. لقد رجيت منك كثيراً في دعائي وها انت تلبيه. حمداً وشكراً لك يا الهي". تعال يا ولدي تعال ودعني اظمك الى صدري فقد مر وقت طويل وانا اراك فقط في احلامي. كان الجميع يذرف الدموع على اثر كلمات ذلك الشيخ الجليل المثقل بالامراض والذي افنى حياته في النسك والعبادة. ظل مهدي يقبل وجنتيه ويداه فسحبه اباه الى الاريكة كي يجلسا قال،
شيخ محمد : لم اعد قادراً على الوقوف طويلاً يا ولدي. حتى في خطبة الجمعة صرت اجلس على درجات المنبر وانا القي الخطبة.
مهدي : الم يحن الوقت كي تتقاعد من هذا العناء يا ابي؟ من حقك ان تستريح وتترك المهمة لخطيب غيرك كي يتولى الامامة من بعدك. فالله يعلم بمرضك وآلامك التي استوطنت جسدك. وكما قال الله في كتابه العزيز (لا يكلف الله نفساً الا وسعها).
شيخ محمد : لقد طرحت على المصلين الفكرة. لكنهم جميعاً رفضوا ذلك وارادوني ان واستمر بان أئم بهم حتى ولو كانت الخطبة بجملة واحدة. انهم يحبونني حباً جماً ويجدون الراحة النفسية في خطبي. لذلك سوف لن أخيب ظنهم ابداً حتى لو حملوا جنازتي من على المنبر.
مهدي : اطال الله في عمرك يا حبيبي يا حاج محمد.
شيخ محمد : طمني يا ولدي، هل تواصل صلاتك وصيامك هناك في الدنمارك؟
مهدي : انت الذي ربيتنا جميعاً على طاعة الله يا ابي. بالتأكيد، فانا وزوجتي واولادي نواظب على تأدية جميع الفرائض كما لو كنا في بغداد.
شيخ محمد : وهل لديكم جوامع بالدنمارك؟
مهدي : طبعاً، لدينا جوامع ومراكز اسلامية وحسينيات. تخيل يا ابي، عندما تبدأ صلاة العيد، تمتلئ الجوامع بالمصلين حتى يبدأ الناس بتأدية الصلاة خارج مبنى المسجد ثم يملأون ارصفة الشوارع من امام المسجد ليقطعوا الطريق على السيارات. انه منظر جميل تقشعر له الابدان.
شيخ محمد : وماذا عن باقي الناس غير المسلمين من سكان المنطقة؟ هل يتذمرون من ذلك الزحام؟
مهدي : لقد تعودوا على مواعيد اعيادنا لذلك تقوم الشرطة الدنماركية بتوزيع منشورات على الاهالي كي يتجنبوا المرور من تلك الشوارع في صبيحة يوم عيد الفطر والاضحى. اما سكان الاحياء المحيطة فيحترمون الامر ليقوموا بالالتزام بالصمت وقت الصلاة كي يؤازروا اخوانهم المسلمون.
شيخ محمد : والله انه لامر يثلج القلب يا ولدي. انا سعيد بذلك. ولكن اخبرني يا حبيبي لماذا جئت وحدك؟ لماذا لم تأتي بزوجتك واحفادي كي اراهم قبل ان ارحل؟
مهدي : انا بالحقيقة اعاني من ازمة مالية يا والدي. وقد اقنعني اخي حسين عبر الهاتف بان اتي للعراق واجلب معي مركبة شحن بامكاني بيعها هنا بالعراق كي تغطي نفقات السفر واستطيع من خلالها فك ديوني ليبقى منها بعض الشيء لي ولعائلتي.
شيخ محمد : لا تنسى ان تجزي اخاك حسين فهو رب عائلة وطفله الثالث في الطريق.
مهدي : بالتأكيد يا ابي. هل تعتقد اني سانساه او انسى واحداً منكم؟
شيخ محمد : لا يا ابني، نحن جميعاً بخير. اريدك فقط ان تعتني باخاك المسكين.
مهدي : وهو كذلك يا حبيبي.
شيخ محمد : والآن استسمحك عذراً، ساصلي ركعتي شكر لله ثم اتوجه للنوم فانا اشعر بتعب كبير بالرغم من اني لم اقم باي عمل شاق. انها الشيخوخة والمرض يا ولدي.
مهدي : كما تشاء يا ابي. اذهب انت وارح بدنك. انا باقٍ ها هنا.
شيخ محمد : كم ستبقى معنا؟
مهدي : سامكث شهراً كاملاً على الاقل لان اجازتي بعملي في كوبنهاكن ستنتهي ويجب ان لا اخسر وظيفتي التي استرزق منها.
شيخ محمد : وماذا تعمل هناك؟
مهدي : لدي وظيفة بسيطة في النقل العام.
شيخ محمد : جيد جداً. ساتركك الآن.
في الايام التي تلت، كان الاقارب يزورون منزل الاسرة كي يلتقوا بمهدي ويرحبوا به ظناً منهم انه عاد عودة نهائية. لكنه كان يخبرهم بنيته في الرجوع الى الدنمارك لان لديه اسرة وعمل وحياة اخرى مستقرة هناك. باقي الايام كان مهدي يقضيها مع اخاه في الذهاب الى معارض السيارات كي يحاولا بيع الشاحنة التي جلبها معه من المانيا. لكن العروض التي كانوا يتحصلون عليها بالرغم من انها كانت جيدة جداً واكثر مما توقعا لكن اخاه حسين كان يخبره بان عليهم التريث للحصول على سعر اكثر بكثير مما هو معروض.
<<<<<<<<<<
الايام اصبحت اسابيع والاسابيع اقتربت من اكمال الشهر والحال مازال على ما هو عليه. مهدي يخرج مع اخاه كل يوم برحلات مكوكية من البيت الى معارض السيارات وكأنه دوام رسمي وفور دخولهما اي معرض، كان عدد كبير من المشترين يتجمعون حول الشاحنة والكل يبدي رغبته في شرائها فيرفض حسين كل العروض التي تتقدم. لذلك سأل مهدي،
مهدي : ما العمل يا اخي؟ لقد اقترب موعد رجوعي الى الدنمارك ولم يتم بيع الشاحنة.
حسين : لا اعتقد ان هناك مشكلة. كل ما عليك فعله الآن هو منحي وكالة رسمية تخولني بيع الشاحنة. وعندما ابيعها باعلى ثمن ممكن سوف اخذ منها عشر ورقات وابعث لك الباقي الى الدنمارك.
مهدي : ماذا لو لم نحصل على المبلغ الاقصى الذي في بالك؟
حسين : إن لم يحصل ذلك فسوف ابيعها لاعلى عرض تسلمناه لحد الآن. ما رأيك؟
مهدي : الرأي رأيك حبيبي. دعنا إذاً نذهب الى كاتب العدل لنحرر الوكالة.
حسين : هيا بنا.
خرج الاخوان من البيت وتوجها الى المحكمة في الكرادة كي يقوما باجراء اللازم ليمنح مهدي اخاه حسين وكالة يتمكن من خلالها بيع الشاحنة. وبعد ان تسلم حسين الوكالة قال،
حسين : الآن بامكانك المغادرة وانت مطمئن يا مهدي. سابيعها قريباً وابعث لك بثمنها.
مهدي : لا تنسى حصتك؟
حسين : اطمئن. ساطرح منها الف دولار.
<<<<<<<<<<
بعد مرور ثلاثة ايام حزم مهدي امتعته وطلب سيارة اجرة عبر الهاتف كي تقله الى المطار ثم صار يودع والديه وجميع افراد عائلته وسط البكاء والدعاء له بالوصول الى الدنمارك بالسلامة. ركب سيارة الاجرة وراح يلوح لهم بيده فقامت امه بسكب الماء ورائه كتقليد قديم لكي يعود بزيارتهم من جديد.
ركب مهدي الطائرة تراوده شكوك كثيرة بخصوص الثمن الذي سيتمكن حسين بيعه للشاحنة لانه الآن قد غرق بالديون ولم يبقى له التنقل السهل بداخل الدنمارك بعد ان باع سيارته المستعملة.
وصل مهدي الى الدنمارك ثم العمارة التي تقع فيها شقته فلمحه ابنه احمد من الشرفة فصاح باعلى صوته،
احمد : امي امي لقد عاد ابي.
ركضت اريج وهديل نحو باب الشقة يتبعهما احمد. وركبوا المصعد فنزلوا الى مستوى الشارع واستقبلوا رب الاسرة. فورما شاهدوه يحمل حقيبته ركضوا نحوه وصاروا يقبلونه ويحيوه بحرارة. دخل الجميع الشقة في الطابق الثاني فجلس مهدي غرفة الاستقبال ليجلس احمد على ساقه الايسر وتجلس هديل على ساقه الايمن وصار يحظنهما ويقبلهما ليعبر عن مدى اشتياقه لهما. سألت زوجته،
اريج : كيف كانت الرحلة؟ هل واجهتك مشاكل؟
مهدي : كانت رحلة الذهاب متعبة جداً لكنني كنت سعيداً لانني تمكنت أن ارى والدي بالرغم من حالته الصحية المتردية. اطبائه يقولون بانه لن يبقى على قيد الحياة اكثر من 6 شهور اخرى.
اريج : كل شيء بيد الله. والآن اخبرني متى سيبيع اخاك الشاحنة؟ فكلما سألتك بالهاتف تقول انكما ذهبتما لبيع السيارة ثم تعود وتخبرني بانكما رجعتما بخفي حنين. الديون تتراكم فوق رؤوسنا ومخزون الطعام كاد ان ينفذ. لقد اصبحت اطهي المرق من دون لحم.
مهدي : انا متأكد ان حسين يريد مصلحتنا بالحصول على اعلى ثمن. لذلك منحته وكالة رسمية حتى يتمكن من بيعها بدلاً عني ثم يبعث لي بثمنها بعد ان يطرح الف دولار منها.
اريج : وهل انت... اقصد اتثق باخوك انه لن يقوم بـ...؟
مهدي : ما هذا الكلام يا اريج؟ انه اخي واقرب الناس لي. ايعقل ان تشكين باخي؟ فهو لم يوافق على بيع الشاحنة فقط لانه اراد ان احصل على افضل عرض.
اريج : دعنا نرى. ومتى سوف يبيعها إذاً؟
مهدي : قال انه سيبيعها خلال الايام القريبة القادمة.
اريج : اتمنى ذلك يا مهدي فنحن غارقون بالديون ومرتبك بالكاد يسد حاجتنا.
مهدي : تفائلوا بالخير تجدوه يا امرأة. صرت تزيديني قلقاً وكربة بدلاً من ان تفرحي بمجيئي.
اريج : انا آسفة لكننا يجب ان نكون واقعيين.
مهدي : ساتحدث معه اليوم واطلب منه ان يبيع الشاحنة باي ثمن.
اريج : هذا هو الكلام المنطقي. نحن لا نريد ان نصبح من اصحاب الملايين. فقط نسدد ديوننا ونربح بعض المال إن امكن كي نستطيع شراء سيارة اخرى بدل التي بعناها.
بتلك الليلة اتصل مهدي باخاه حسين وطلب منه كي يبيع الشاحنة باي ثمن حتى لو كان اقل مما عرض عليهم في السابق. حاول حسين ان يراوغ لكن مهدي كان حازماً جداً واخبره بانه مثقلٌ بالديون وانه يحتاج للمال باسرع وقت ممكن. فطلب حسين من اخاه ان يمهله اسبوعين آخرين لا اكثر فوافق مهدي.
وبعد مرور اكثر من اربعة اسابيع اتصل مهدي بحسين هاتفياً وسأله عن الشاحنة لكن الجواب كان مشابهاً لسابقاته وطلب من مهدي مهلة اخرى لان اسعار المركبات قد هبطت للنصف وانه ينتظر لاسعار السوق ان تعود وتسترد عافيتها حتى يبيعها.
ولما مر على رجوع مهدي ثلاثة اشهر كاملة جلست اريج مع زوجها وقالت،
اريج : يبدو ان اخاك قد بلع الشاحنة بما فيها. لم اعد اثق فيه يا مهدي.
مهدي : يؤسفني قول ذلك، لكنني اشاطرك الرأي يا اريج. يبدو ان حسين صار يماطل لاسباب اجهلها تماماً. ساتصل به اليوم مساءاً واحل الامر معه بشكل قطعي.
وفي المساء اتصل مهدي باخاه حسين وقال،
مهدي : ماذا فعلت يا حسين بخصوص الشاحنة؟
حسين : اسمع يا مهدي، لقد ضقت ذرعاً باسئلتك كل يومين او ثلاثة ولم اعد احتمل مكالماتك المزعجة والحاحك الذي لا يطاق.
مهدي : لكني اعاني من ضيق الحال يا اخي.
حسين : اي ضيق واي حال؟ انت تعيش بالدنمارك يا رجل. انت تعيش بالجنة. وتريد ان تأكل من حقنا؟ الم تقل ان لديك عمل يدر عليك بمرتب ممتاز؟
مهدي : لا افهم قصدك. هل قمت ببيع الشاحنة بالفعل؟
حسين : اجل بعتها. الشاحنة بيعت بعد اسبوع من مغادرتك للعراق.
مهدي : ولماذا لم تبعث لي بالمال إذاً؟
حسين : لانني محتاج لذلك المال اكثر منك. فعائلتي اولى به.
مهدي : وماذا عن ديوني وماذا عن العناء الذي تكبدته لاقود تلك الشاحنة الى بغداد؟ وماذا عن وعودك بالارباح؟
حسين : المال لي والارباح لي انا ايضاً. سوف لن ابعث لك اي شيء. هل انت سعيد بهذا؟
مهدي : انا متأكد انك تمازحني. انا على يقين بانك ستقول انك قمت ببيعها وستبعث لي المال قريباً.
حسين : اسمع يا مهدي. ربما نحن اخوة بالدم لكنك خرجت من العراق وانتهى فلمك. عش انت بالدنمارك ودعنا نعيش هنا بجحيم العراق.
مهدي : اهذا جزائي لاني صدقت كلامك بخصوص الشاحنة؟
حسين : الموضوع منتهي من عندي. سوف لن ترى فلساً واحداً من ذلك المال. حاول ان تتقبل الواقع.
مهدي : وهل يرضيك ان اغرق بالديون يا اخي؟
حسين : انا لست اخاك من الآن فصاعداً. لا تتصل بي ثانية ارجوك اخرج من حياتي.
اغلق الخط بوجه اخاه الاكبر فجلس مهدي على الاريكة مغرورق العينين ينظر بوجه زوجته قال،
مهدي : يبدو ان شكوكك كانت في محلها. لقد ابتلع حسين الجمل بما حمل واستولى على المبلغ الذي جناه من بيع الشاحنة.
اريج : كم هو حقير ودنيئ وسافل. أهذا عمل يعمله شخص باخاه؟
مهدي : لا اعلم ماذا حل بالعراق والعراقيين. لقد تبدلت اخلاقهم واختفت النخوة والكرامة والحمية والرجولة. ما هذا يا اريج؟ هل وصل بهم الحال الى هذا الحد؟ أيطمع بمال اخيه؟
اريج : احمد الله اني لا املك اي اخوان او اقارب لانني يتيمة الابوين. ولكن اباك لا زال حياً فلماذا لا تخبره بما فعل حسين؟
مهدي : لا يمكنني فعل ذلك ابداً، فابي رجل صالح ومستقيم ولن يرضى عما فعله حسين ابداً. وبما انه مريض جداً فسوف يصاب بجلطة قلبية على الفور. انا لا اريد ان اكون الانسان الذي تسبب بقتل ابيه.
اريج : لكنك قليل الحيلة هنا. ربما سيتمكن ابوك من التحدث اليه كي يبعث لك بعض من المال. على الاقل كي نسدد الديون فقط وليحتفظ بباقي المال.
مهدي : لا اعتقد ذلك. فالصدمة ستكون قاتلة لوالدي يا اريج. لن اجرؤ على مفاتحة والدي بذلك الامر.
اريج : وهل سنبقى نعاني هنا لفترة طويلة حتى نحرم انفسنا واولادنا من كل شيء بسبب كل الديون؟ سيتطلب منا الامر سنتان على الاقل لنسترد عافيتنا.
مهدي : اي سنتان هذه؟ وماذا عن الدين الذي تحصلت عليه من الرجل اللبناني جاد عندما كنت بالمانيا؟ يجب علي ان اسدد دينه هو الآخر.
اريج : وماذا عن البنك؟
مهدي : اجل هذا صحيح. يا الهي، نحن في ورطة كبيرة.
اريج : اسمع مني يا حبيبي، اتصل باباك واخبره بالامر ودعه يحاول التأثير على اخاك حسين.
مهدي : لا هذا مستحيل. اغلقي الموضوع ارجوك. فلو علم ابي بما فعله حسين فسيعجل ذلك من اجله. انا لا اريد ان اكون السبب بموت ابي. انسي الموضوع.
اريج : طيب اتصل بامك على الاقل واخبرها.
مهدي : ولا حتى امي انها لا تتحمل هذه الصدمة سوف يرتفع لديها السكر والضغط وهذا امر لا استطيع ان احمله لضميري.
اريج : لكن ضميرك يسمح لك ان يبقى من ادانوك دون ان يستردوا اموالهم؟ اهذا عدل برأيك؟ هل سيُكتَبْ علينا الشقاء ونحن نعيش ببلد من المفروض ان يكون البلد الاكثر سعادة في العالم؟
مهدي : وماذا تريديني ان افعل يا اريج؟ لقد نفذت حيلتي.
اريج : يجب ان تجد شخصاً يؤثر على حسين. ايعقل انه يستحوذ على ربح الشاحنة كله ونعاني نحن من الديون؟ الم يكن هذا هو احد الاسباب الاساسية لذهابك للعراق. قلت انك اشتقت لاهلك فاقنعك اخوك بفكرة احضار الشاحنة كي تستفيد من بيعها قليلاً. هل كان ينوي الاستحواذ على المبلغ منذ البداية؟ ولذلك كان يماطل ببيع الشاحنة عندما كنتما تذهبان الى معارض السيارات في بغداد.
مهدي : امنحيني بعض الوقت ودعيني افكر على الاقل هذه الليلة. سارد لك الخبر غداً.
اريج : حسنا حبيبي ولكن فكر ملياً ولا تتوانى فإن ما فعله بنا حسين امر لا يمكن السكوت عليه.
مهدي : طيب، طيب، سافكر بالامر. إذهبي الى السرير وسألحق بك لاحقاً.
لم تغمض لمهدي عين في تلك الليلة وهو يفكر بكيفية توصيل الفكرة لشخص لديه تأثير على حسين حتى قرر ان يمهدها لابيه الشيخ محمد بشكل سلس ومبسط كي لا يثير غضبه. وفي الصباح الباكر دخلت اريج غرفة الاستقبال فوجدت زوجها ما زال صاحياً يصارع افكاره سألته،
اريج : الم تنم طول الليل؟
مهدي : كلا، كنت افكر كيف سافاتح والدي بما فعله اخي.
اريج : الحمد لله لانك اقتنعت اخيراً. انا متأكدة وبدون ادنى شك انه سيتمكن من اقناع اخاك بالتنازل عن بعض المال كي نسد به الديون ونعود الى حالتنا الطبيعية.
مهدي : اجل ولكن عندما اتصل به هذه الليلة اريد ان اكون وحدي كي لا تؤثر اصوات الاولد والتلفاز على تركيزي.
اريج : بامكانك البقاء في غرفة النوم لتغلق الباب عليك وتتحدث معه بهدوء تام. والآن تعال كي تتناول افطارك ثم تستعد للعمل.
خرج مهدي الى عمله وهو مستبشر لانه توصل الى طريقة تمكنه من حل المشكلة العالقة كي يردم الهوة المالية التي وقع فيها من خلال زيارته للعراق. بقي طوال يومه يفكر بما سيقوله لوالده خلال قيادته للحافلة. لقد أعاد واسترجع السيناريو مرات ومرات حتى استقر على اسلوب سلس مخفف يمكنه توصيل الفكرة اليه دون ان يسبب له المزيد من التشنج والانزعاج. وفي المساء عاد الى بيته فاستقبلته اريج لتسأله،
اريج : ألا زلت مقرراً ان تفاتح ابوك؟
مهدي : اجل، اجل لقد فكرت باسلوب يفهمه ابي جيداً. ساعطيه المعلومة بشكل بسيط فانا اعرف والدي واعرف كيف يفكر.
اريج : جيد جداً. تعال وتناول وجبة العشاء الآن فالاولاد في انتظارك ثم قم بالاتصال بوالدك بعد العشاء.
مهدي : لا، انا لا اريد من الافكار ان تتلاشى من ذهني. ساتصل به الآن فوراً.
اريج : كما تريد حبيبي، سابقي الاولاد بحالة هدوء تام وساخفظ من صوت التلفاز لادنى حد. هيا ادخل الغرفة واتصل.
دخل مهدي الغرفة وغير ثياب العمل ليرتدي بيجامته الفضفاضة ثم جلس على السرير وامسك بهاتفه النقال ليضغط على اسم والده فسمع الهاتف يرن. وبعد عدة رنات اجاب والده قائلاً،
الشيخ محمد : كيف حالك يا مهدي؟ وكيف الاولاد والزوجة.
مهدي : الاولاد وامهم بخير لكنني لست بخير ابداً يا والدي. انا اعاني منذ ان عدت من بغداد.
الشيخ محمد : هل انت مريض؟
مهدي : كلا يا ابي، انا في ورطة كبيرة ولا اعلم كيف اخرج منها ولا كيف اخبرك عنها.
الشيخ محمد : أخبرني يا ولدي ولا تخف فانا ابوك ومن واجبي ان احل لك مشاكلك بالرغم من بعد المسافة بيننا.
مهدي : يا والدي انت تعلم انني احضرت معي شاحنة صغيرة اشتريتها من المانيا لكي ابيعها بالعراق.
الشيخ محمد : اجل اعرف ذلك.
مهدي : وكذلك تعلم ان ذلك كان اثر اقتراح من حسين لانه يفهم ببيع وشراء السيارات.
الشيخ محمد : اجل اعرف.
مهدي : وطوال فترة وجودي ببغداد كنا نحاول بيعها بالمعارض ولكن دون جدوى. لذلك طلب مني حسين ان اعمل له توكيلاً لدى كاتب العدل كي يتمكن من بيعها بعد مغادرتي.
الشيخ محمد : اكمل حديثك.
مهدي : والآن يفاجئني حسين بانه باعها واستولى على ثمنها بالكامل وانه لا يريد ان يبعث لي النقود.
الشيخ محمد : ولماذا يبعثها لك؟
مهدي : لانني اقترضت من البنك ومن اصحابي ومن سيغة زوجتي ثمنها كي اتمكن من السفر لاراكم. والآن يجب علي تسديد كل تلك القروض.
الشيخ محمد : سددها يا ولدي. ما المانع؟
مهدي : المانع يتلخص بشيء واحد. ليس لدي المال لتسديدها.
الشيخ محمد : وماذا عن مرتبك؟ الم تقل انك تتقاضى مرتباً دسماً في الدنمارك؟
مهدي : يا ابي المرتب بالكاد يكفي لمعيشتي انا وعائلتي.
الشيخ محمد : ليس هناك شيء مجاني يا ولدي. وماذا عن اخاك؟ اليس لديه الحق بالمال؟ انه اخوك وانا قضيت جل عمري كي اعلمكم الحب ومساندة بعضكم البعض.
مهدي : لكنك لا تفهم المشكلة يا والدي.
الشيخ محمد : إذاً فهمني المشكلة هيا.
مهدي : قبل ان اتي الى العراق طلب مني حسين المجيء الى بغداد لكنني اخبرته بانني لا املك النقود الكافية لتسمح لي بالمجيء اليكم. لكن حسين اقنعني بالمتاجرة بشاحنة بامكانها ان تسد ثمنها ويزيد عن ذلك كثيراً فاتمكن من الاستفادة من الباقي لاغطي به تكاليف الرحلة ولكي اصرفه على عائلتي.
الشيخ محمد : اليس لاخاك حسين عائلة؟ اليس هو مسؤول من زوجة واطفال؟
مهدي : اجل لكنني اضطررت لاقتراض مبلغ كبير جداً من البنك ومن الاصدقاء وباعت زوجتي سيغتها كي استطيع المضي بتلك الرحلة.
الشيخ محمد : وهل انت نادم لانك رأيتني قبل ان اموت؟
مهدي : ابداً، ابداً يا ابي. انا اردت ان اراك وارى باقي افراد العائلة ثم اسدد ديوني عندما اعود.
الشيخ محمد : الم تخبرني بان لديك عمل يدر عليك بآلاف الدولارات كل شهر؟
مهدي : اجل يا والدي ولكن تكاليف الحياة هنا مرتفعة وبالكاد نسد حاجتنا الضرورية. لذلك وافقت على الرحلة وصفقة الشاحنة معاً.
الشيخ محمد : وماذا عن اخوك؟ هل نسيت ان لديه حق في الشاحنة؟
مهدي : لقد وعدته بجزء من المبلغ لكنه استحوث عليه برمته.
الشيخ محمد : هذا حقه. لقد تعب معك كثيراً وهو يحاول ان يحصل على افضل عرض للشاحنة. لقد كان يخبرني بذلك كلما كان يرجع من معارض السيارات.
مهدي : وماذا عن الاتفاق الذي بيننا قبل مجيئي للعراق؟
الشيخ محمد : انا لا اتدخل بخصوصياتكم. وانا ارى ان ما حصل عليه حسين هو له وليس لك فيه اي حق.
مهدي : كنت اعتقد انك ستنصفني يا والدي.
الشيخ محمد : انا انصفك يا ولدي واعلمك كيف تآزر اخاك وقت الشدة.
مهدي : وماذا عن ديوني المتراكمة؟
الشيخ محمد : انا متأكد انك ستجد طريقة لتسد بها الدين حتى وإن اضطررت لان تعمل في وظيفة ثانية.
مهدي : اي وظيفة ثانية تتحدث عنها يا ابي. انا اعمل ساعات طوال وعندما اعود من عملي اكون متعباً لا اقوى سوى على النوم.
الشيخ محمد : العمل شرف، العمل عبادة، العمل اخلاق، الم اعلمك شيئاً في حياتك؟
مهدي : كلا يا والدي. يبدو ان كل ما علمتني اياه في السابق قد تلاشى مع الديمقراطية الجديدة. انا اشكرك على تلك النصائح الجليلة.
الشيخ محمد : على الرحب والسعة يا ولدي. وصيتي لك هي ان تتمسك باخاك وتؤازره بعد رحيلي.
مهدي : شكراً لك يا ابي. وداعاً.
اغلق الهاتف مع والده وبقي يفكر باجابات ابيه وكيف تغير تفكيره ليصبح مادياً. كيف يكون ذلك؟ هل انقلبت الدنيا؟ هل اصبح الشيخ النزيه الصالح الشريف الطاهر المتدين الورع يؤيد الخطأ بهذه السرعة؟ هل انا غلطان لانني صدقت اخي الذي ظننت انه سندي بالحياة؟ هل العلة في عائلتنا نحن فقط ام في العراقيين جميعهم حين تغيروا بهذا الشكل وبهذه الصورة البشعة؟ او ربما كان والدي على حق وانني لا استطيع ان اقدر الحالة التي يمرون بها الآن؟
عندما سمعت اريج بان الهدوء قد حل بالغرفة، علمت وقتها ان المكالمة الهاتفية قد انتهت. فتحت الباب وسألت،
اريج : ماذا قال السيد الوالد؟ هل سيتحدث مع حسين؟
مهدي : لا يا اريج لا. لقد وقعنا في ورطة كبيرة. الوالد ايد ما فعله بنا حسين في استحواذه على المبلغ بالكامل.
اريج : كيف يفعل ذلك. الم تقل انه انسان مستقيم وانه...
قاطعها وقال،
مهدي : لم يبقى في العراق شيء من هذا يا عزيزتي. علينا ان نلعق جراحنا وننسى ان يوماً ما كان لدينا وطن اسمه العراق.
القصة واقعية وقد قمت بتغيير الاسماء للحفاظ على خصوصية صديقي.
609 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع