رد مؤدب على مقالة بحق تركمان العراق أغاظتني

د. صبحي ناظم توفيق
عميد ركــن متقاعد.. دكتوراه في التأريخ
28/4/2024

رد مؤدب على مقالة بحق تركمان العراق أغاظتني

قلّما أنشر مقالة عن قومي التركمان الذين أعتز بالإنتماء إليهم وأتشرّف، خشية أن يلومني البعض من أحبائي وأعزائي لإثارتي عناوين ومواضيع أبتعد بها عن عراقيّتي الأصيلة وأثير مواجع تزعج هذا المكوّن وتلك الطائفة وأصحاب هذه الديانة وذاك المذهب من مسمّيات الأحزاب المتسلطة على عراق ما بعد 2003.

واليوم لا أستجلب إسم صاحب قلم نشر العديد من المقالات بعناوين أخّاذة، ومن بينها واحدة عن ميليشيات الحرس القومي (البعثي) التي عاثت في أرض العراق وعدد من مدنه إجراماً في الفترة (شباط- تشرين2 1963)، وقد عاصرتُ إرهاصات تلك الحقبة من تأريخ وطني غير المستقر لحد يومنا الراهن، وقتما كنتُ ما زلتُ طالباً بالصف المتوسط في الكلية العسكرية، والتي أغاظت تصرفاتهم نفوس العديد من قادة العراق العسكريين الحريصين على الوطن وسمعته وأمن مواطنيه وأمانهم، وقد إصطف معهم معظم ضباط الجيش والقوات المسلحة الشرفاء وإلى جانبهم العديد من قادة حزب البعث الحاكم في حينه، فإتفقوا وخططوا وتحرّكوا بكل شجاعة وإتقان وإنقلبوا على نظام الحكم بأنفسهم فجر يوم 18 تشرين2 1963، وأنهوا الحرس القومي وقيادته المستهترة وقضوا عليهم وعلى دورهم في غضون 36 ساعة ليس إلاّ.
لقد قرأتُ تلك المقالة بإمعان ولم تكن لديّ ملحوظة ما... ولكن الذي أغاضني بالأخص، لمّا إستجلَب كاتبها إسمي في عبارات وجُمَل عديدة ووضع كوني أحمل صفة (مؤرخ) بين قوسين في إشارة تنمّ على إستهزائه بي بتعمّد، وذلك في كتاباتي ضد الشيوعيين في حينه، وتزويري العديد من الحقائق التي أوردها السادة "حنا بطاطو وليث الزبيدي ومكرم جمال" وسواهم، مضيفاً أني تناسيتُ أن تركمان العراق كانوا هم من تسببوا ولغاية اليوم في عدم إستقرار المنطقة!!! وذلك لتبعيّتهم القومية!!! وإصطفاهم مع البعث وبعض القوى الرجعية للوقوف ضد ثورة تموز 1958!!! مشيراً أن ما يثبت ذلك إشتغالي مع الرئيس عبدالسلام عارف الذي هو من أشرَفَ وأسّس الحرس القومي البعثي!!!!
إن الذي أغضبني أكثر هو طرحه نحوي شخصياً وبإسمي الثلاثي بمزاعم أنا بعيد عنها كل البعد، ولذلك آثَرتُ عدم السكوت أزاءه لأجيبه بإيجاز على صفحات هذا الموقع الأغر، وبالمختصر والمفيد.
فقد تعمّد بوضع صفتي (المؤرخ) بين قوسين في قصد مظنون فيه... ووددتُ أن أوضح له ولسواه أني (((مؤرخ))) فعلاً حتى لو كنتُ متواضعاً بالمقارنة مع أساتذتي من عمالقة العراق، بعد أن أصدرتُ إلى الأسواق والمكتبات الموثرة عشرة كتب تأريخية صرف، ستة منها وثائقية، وأضفتُ إليها مئات البحوث والدراسات والمقالات المنشورة، ناهيكم عن مئات الإستضافات ذات الصلة بالتأريخ السياسي والعسكري والطيران والصواريخ وحاملات الطائرات لدى ستوديوهات القنوات الفضائية.
أنا لم أُزوّر الحقائق عن الشيوعين، والتي تَبَحّر فيها الأساتذة الكبار المحترمون حنا بطاطو، ليث الزبيدي، ومكرم جمال، وليس بإقتداري تزويرها أو أي مَسٍّ بها... بل كنتُ شاهد عيان على أحداث دموية مروّعة عشتُ ساعات أيامها ولياليها خلال النصف الثاني لسنة 1958 المشؤومة والنصف الأول من سنة 1959 الأعظم شؤماً، مثلما كان الأخ الكاتب شاهداً على البعض من مخلفات أعمال الحرس القومي البعثي وتصرفاته... وفي حين إعتمد أساتذتنا الثلاثة على وثائق لا ولم أمتلكها وسوف لن أستطيع إمتلاكها، ولا أمل أن يُتاح لي ما فُرِشَت أمام أنظارهم من مخزونات وأراشيف عدد من الوزارات والمؤسسات والدوائر الأمنية العراقية العليا وعمّا سمعوه من هذا وذاك... أما أنا فقد إعتمدتُ على ما سجّلتُه من مشاهد كارثية لا يقترفها الضباع وأوسخ الحيوانات والضواري بالعين المجردة خلال الأيام الثلاثة لمجزرة كركوك الوحشية (14-16 تموز 1959) والتي خُطِّطَت تفاصيلها ونُفِّذَت بكل قسوة غير مسبوقة على أيدي الشيوعيين والبارتيين واليساريين بحق أهلي وأقربائي ومواطني مدينتي الحبيبة "كركوك"، وذلك في وقت كان كاتب المقالة طفلاً لم يتعدَّ عمره أربع سنوات متنعماً في "البصرة" الفيحاء -المسيطَر عليها شيوعياً- وعلى ضفاف شط العرب بعيداً بواقع 800 كلم عن مجريات الأحداث التي عشتها، ولم يشاهد هو وأهله سوى مخلّفات قيل له أنها من مخلفات جرائم الحرس القومي البعثي.
وقد أشار صاحب المقالة نحوي بعبارته:- ((متناسياً أن التركمان كانوا من المسبّبين -وإلى اليوم- بعدم إستقرار المنطقة لتبعيّتهم القومية وإصطفاهم مع البعث وبعض القوى الرجعية للوقوف ضد الثورة))!!!.... وبذلك يحقّ لي أن أُطالبه لإيضاح:- متى وبأية مناسبة تسبّب تركمان العراق في عدم إستقرار المنطقة؟؟ فهل ثاروا في يوم ما أو تآمروا أو خططوا لإنقلاب أو إعتصموا، أو إنتفضوا أو حملوا السلاح ضد الدولة العراقية منذ تأسيسها ولحد اليوم؟؟ وهل قطعوا الطرق ونهبوا ممتلكات الدولة وسلبوا الآمنين وخطفوا الأبرياء؟؟ وهل قتلوا آلافاً من جنود العراق وأفراد قواته المسلّحة؟؟ وهل هاجموا أو قصفوا مؤسسات الدولة ودوائرها وسرقوها أو نهبوها وصادروا أسلحتها ومحتوياتها وساووها مع الأرض؟؟؟ وهل أحدثوا أية فوضى في ديارهم ومواطنهم أو أي بقعة من العراق؟؟ وهل حاولوا التمدّد والتوغل في أرض غيرهم من أقوام العراق وتعشعشوا فيها وإستحوذوا عليها؟؟ وهل تسببوا في دمار إقتصاد العراق وحوّلوا موازناتها ومواردها إلى صروفات على الحروب والفتن؟؟ وهل آذوا مصالح الوطن وحوّلوا أخصب أراضيه إلى ميادين للقتال، وقلبوا العراق من بلد مُصَدِّر للحبوب والمنتجات الزراعية والمواشي والدواجن إلى مستورِد لها؟؟ وهل طالبوا بإستقلال أو حكم ذاتي وإقليم فيدرالي ودولة منفصلة؟؟ وهل إنضمّوا إلى فصائل إرهابية فجّرت وقتلت مئات الآلاف من الأبرياء بالجملة؟؟ وهل شكّلوا فصائل مسلّحة وميليشيات تتعدى على الناس؟؟ وهل دمّروا مدناً ونواحٍ وقرىً وإستباحوها وسرقوها وحرقوها وإنتهكوا أعراض أهليها؟؟ وهل تعاونوا مع بلدان الجوار والمنطقة وجيوش دول عظمى أتت عبر البحار والمحيطات لغزو العراق وإحتلاله؟؟ وهل شكّلوا طابوراً خامساً ودَلّوا الأجانب على مكامن وطنهم وخباياه وأسراره؟؟ وهل إستحوذوا على أسلحة جيشهم وقواتهم المسلحة وسلّموها للأجنبي؟؟
فلماذا هذا الإجحاف غير المبرر بحق التركمان أيها الكاتب؟؟؟؟
وأية ثورة يشير إليها ويتحدث عنها ويمتدحها؟؟ أهي ثورة الفوضى والدمار وعدم الإستقرار والقتل والقصف والمعتقلات والسجون والمذابح والمجازر والسحل بالحبال والتمثيل بالجثث وتعليقها على الأعمدة وقذفها في الشوارع والأزقة والمقابر الجماعية، والتي لم يألفها العراق قبل 14 تموز 1958 المشؤوم؟؟ وإذا كانت تلك الثورة العظيمة في أنظار هذا الكاتب قد حققت كل هذه المنجزات (العظيمة)!!! فمن حق التركمان -لو كانوا قد وقفوا ضدها وتصدّوا لها- أن يتشرفوا بهكذا موقف شجاع حتى لو إصطفّوا إلى جانب الشيطان حيالها.
وإذا كان الأخ المحترم صاحب المقال يقصد بعبارة (تبعيّتهم القومية) بإرتباط التركمان بقوميتهم التُركية، فمن المعيب أن ينكروا إرتباطهم عِرقاً ودَماً بأمّتهم التركية العريقة وأولاد عمومتهم، ويتشرفوا بذلك ويفتخروا، بل ويصرّون أنهم لم يتبعوا أو كانوا ذيولاً وعملاء مأجورين وعبيداً مدفوعي الثمن في يوم ما، لا لموسكو ولا لواشنطن ولا للندن ولا لباريس ولا لتل آبيب ولا لطهران... وفي حين لا يؤمن معظم التركمان بالعشائرية والقبائلية كونهم حَضَريّين ومَدَنيّين، فإن كاتب المقال الذي يحمل لقباً عشائرياً يُفتَرَض به أن يقدّر إرتباطات الدم والجذر والأصل أكثر من التركمان بذواتهم.
أما عبارته المستغربة نحو التركمان بـ((إصطفاهم مع البعث وبعض القوى الرجعية للوقوف ضد الثورة))، فقد نأى تماماً عن واقع تركمان العراق، ولربما لبُعده الجغرافي عنهم وعدم معايشته لهم في مواطنهم... ففي الوقت الذي لا تُنكَر مقاومتهم للشيوعيين والبارتيين واليساريين حفاظاً على مواطنهم وأنفسهم، ولكنهم لم يصطفوا مع البعثيين بشكل مطلَق حتى بعد سيطرتهم المطلقة على سدة الحكم، سواء بعد 14رمضان- 8 شباط 1963، ولا حتى بعد 17 تموز 1968، وذاك ما أغاظ حكومة البعث حيالهم فأقدمت على جملة من الخطوات الجادة والممنهجة لتذويبهم وتهجيرهم، إلى جانب مئات الإجراءات لإيذائهم وتعريب مناطقهم، وذلك على عكس الغالبية الساحقة من أهل وسط العراق وغربيّه وجنوبيّه والفرات الأوسط الذين تقلّب معظمهم من مَلَكِيين إلى شيوعيين ثم بعثيين وبعدهم إلى قوميّين قبل أن يعودوا مجدداً كبعثيين ولغاية غزو العراق وإحتلاله عام 2003، حتى إنقلبوا بقدرة قادر إلى مظلومين يشوبهم الفساد والسحت الحرام والرشوة ولغف موازنات العراق لصالح ذواتهم وأولادهم وأحفادهم، فيما يعيش 30% من أهالي مناطقهم تحت مستوى الفقر والبطالة والأمّية وإنعدام الخدمات وتفشي جائحة المخدرات.
وفي هذا الشأن وددتُ التأكيد لمقام كاتب المقال أن قلّة من التركمان هم من إنتموا لحزب البعث في أوجّ سطوته، وذلك خلافاً لمن إستجلبهم إلى صفوفه من أعراق العراق وطوائفه وأطيافه... فلا أدري من أين أتى هذا الكاتب بهذه الفِرية!!؟؟
والآن فلأعرج على شخصي وقتما أورد هذا الكاتب في مقالته عبارة:- (وما يثبت ذلك إشتغاله مع عبدالسلام عارف المشرف والمؤسس للحرس القومي)، وأوضح أزاءها نقاطاً عديدة، أولاها:- هذا الربط الساذج بين عبارته (تسبب التركمان بعدم استقرار المنطقة لتبعيتهم القومية واصطفاهم مع البعث وبعض القوى الرجعية للوقوف ضد الثورة) وبين (إشتغالي مع الرئيس عبدالسلام عارف) ضابطاً في الحرس الجمهوري، حيث يبدو أنه لا يفقه شيئاً عن القوانين العسكرية وتقاليدها!! فهل من ضابط يتخرّج لتوّه في الكلية العسكرية، بل وحتى لمّا يرقى لرتب عالية ويتبوأ مناصب حساسة، أن يرفض أمراً تصدره وزارة الدفاع ويرفض الإلتحاق بالوحدة أو التشكيل أو القيادة العسكرية المعين فيها أو المُنَسَّب إليها، في وقت لم يكن جيشنا العراقي الوطني المنضبط في حينه أشبه بـ"جيش محمد العاكول"؟؟!!
وأُضيف لهذا الكاتب التي تبدو معلوماته سطحية وساذجة، أن الرئيس عبدالسلام عارف بعد سيطرة البعث على الحكم في 8 شباط 1963 ولتسعة أشهر متلاحقة كان مجرد رئيس جمهورية بالإسم معدوم الصلاحيات، في حين أن قرار تأسيس الحرس القومي قد أُتّخذ عند التخطيط لتلك الحركة الإنقلابية التي لم يكن "عبدالسلام عارف" على علم بها ولا ضلعاً فيها لغاية الساعة الثامنة من صبيحة ذلك اليوم... ولكنه لـمّا تلمّس الفوضى وعدم الإستقرار الذي حلّ على العراق بين أيدي قادة البعث وحرسهم القومي، فقد صعدت لديه الغيرة العراقية فبادر لإنقاذ الوطن من براثن حرب شوارع بَينيّة يخوضها مسلّحو جناحا الحزب المتصارعين على الكراسي.
أما مقر قيادة الحرس القومي تحت إمرة المقدم الطيار منذر الونداوي، فقد كان في مقدمة الأهداف التي قُصِفَت بالطائرات في بغداد بالتزامن مع هجوم وحدة من جيشنا الغَيور في الصباح الباكر ليوم 18 ت2 1963، إذْ كنتُ في حينه تلميذاً بالصف المتقدم من الكلية العسكرية... كما قضت خطة الإنقلاب في بيانه الأول على إلغاء الحرس القومي وتجريد أفراده من أسلحتهم وإعتقالهم وقتل من يقاوم منهم.
وقد شَتـّتَ الرئيس عبدالسلام عارف كوادر البعث وتنظيماته العسكرية والمدنية شذراً، وأبقاهم موقوفين أشهراً عديدة قبل أن يأمر بنقلهم إلى مناطق نائية وإبعاد ضباطهم من صنوف القوة الجوية والدبابات والمدرعات... ولولا وفاته بحادث الطائرة مساء 13 نيسان 1966 لـما عاد البعث إلى سدّة الحكم مرة ثانية.
فذاك هو الرئيس عبدالسلام عارف الذي خدمتُ بكل إخلاص وتجرّد لعامين متتاليين وبإخلاص في حرسه الجمهوري ولو على مضض، وأخلصتُ في حماية شخصه ونظامه وقصره الجمهوري ومسكنه عائلته المتواضع في حي الأعظمية، ولكن بصفتي ضابطاً برتبة ملازم ثانٍ في الجيش العراقي ، وقبل أن أتقدّم بعريضة رجاء لمدير إدارة الجيش بوزارة الدفاع كي ينقلي إلى إحدى وحدات الجيش العاملة في شمالي الوطن... وتمّ ذلك.
وختاماً أرجو من كاتب المقال قبول فائق إمتعاضي لقلمه الناقص مع الأسف للكثير من المعلومات.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

802 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع