عوني القلمجي
حروب العشاق
منذ عملية طوفان الأقصى، واتهام إيران بانها تقف وراءها، لم يتوقف الحديث عن حرب تجهز لها امريكا ضد إيران. ليس بين المعنيين بالشأن السياسي، وانما شمل الأوساط العربية عامة. في حين ذهب البعض بخيالاته ابعد من ذلك، واعتبر الحرب اتية لا ريب فيها، وحدد هدفها وهو، تدمير الميليشيات المسلحة المرتبطة بإيران، في العراق وسوريا ولبنان واليمن، تمهيدا لضربها. كل هذا الخيال الواسع مصدره تحريك أمريكا لأساطيلها في المنطقة، والضربات الصاروخية الامريكية، التي استهدفت خلال الأيام الماضية، مواقع عسكرية للمليشيات الموالية لإيران في سوريا والعراق واليمن. ومنها تدمير مخازن للأسلحة والعتاد ومخابئ لعدد من الطائرات المسيرة. وكان اخرها يوم الأربعاء الماضي. حيث تم اغتيال اثنين من قادة حزب الله العراقي، بأربعة صواريخ أطلقت من طائرة مسيرة، على سيارة في شارع المشتل شرق العاصمة العراقية بغداد واحرقت من فيها. وقد تبين ان أحد ركابها هو وسام محمد صابر، الملقب أبو باقر الساعدي، الذي وصفته كتائب حزب الله العراقية بـ "القائد الكبير"، فيما عدته القيادة المركزية الأميركية، مسؤولاً عن التخطيط المباشر للهجمات على القوات الأميركية في المنطقة. والأخر اركان العلياوي، الذي وصف بانه المسؤول عن الطائرات المسيرة.
يتناسى أصحاب الخيال الواسع، ان ما يحدث بين أمريكا والمليشيات الموالية لإيران ليس جديدا، بل وجرت العادة ان يكون ختامها، عودة الأمور الى مجاريها. فما نشهده اليوم ليس اختراقا، وانما تكرار ممل لعشرات المناورات، والعمليات العسكرية المحدودة بين الطرفين. فأمريكا بحاجة للذنب والراس للمليشيات وإيران في المنطقة، وموضعتهما باستمرار في مسار مصالحها، ولن تضحي بهما في الأقل في المدى المنظور. وفي ذاكرة العراقيين الكثير من الوقائع، التي تؤكد حقيقية محدودية ما يحدث. فعلى سبيل المثال، استهداف السفارة الامريكية في بغداد، او القواعد العسكرية الامريكية في عين الأسد بالرمادي، او قاعدة حرير في شمال العراق، اما بطائرات مسيرة من داخل العراق، او صواريخ من إيران. لترد عليها أمريكا بضربات محدودة ضد المليشيات الموالية لإيران، ثم تعود التهديدات المتبادلة، لكنها جعجعة بدون طحين. تبدأ بعدها مرحلة من الغزل على استحياء تجنبا للفضيحة.
وحدث مثل ذلك حين قصفت ميليشيات الحوثيين، شركة ارامكوا وهدمت نصف منشاتها وعطلت نصف انتاج النفط السعودي، وأيضا، حين هددت إيران بأغلاق مضيق هرمز وحجز ناقلات نفط امريكية وبريطانية، واستهداف ناقلات اخرى بطوربيدات متفجرة، سميت حينها بحرب الناقلات، ثم اسقاط طائرة امريكية مسيرة ذات تقنيات عالية قرب الاجواء الايرانية، لترد أمريكا بضربات عسكرية موجعة، للمليشيات المسلحة الموالية لإيران. حيث شنت الطائرات الامريكية هجوما جويا، على قواعد للميليشيات على الحدود السورية العراقية، قتل فيه حوالي سبعين مسلحا وجرح أكثر من مئة. ومع ذلك لم تؤدي هذه الضربات العسكرية المتبادلة الى حرب ضروس.
وفي إطار اجترار المناوشات العسكرية المحدودة، وجهت ايران بعد اغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، ضربات صاروخية على قاعدتين للجيش الامريكي. الأولى عين الاسد في مدينة الرمادي، والثانية قاعدة حرير شمال العراق. وكانت النتيجة بردا وسلاما. اذ لم ينتج عنها اية خسائر عسكرية أمريكية تستحق الذكر. وقد تبين لاحقا بان الهدف منها امتصاص نقمة الايرانيين الموالين للجنرال وحرسه الثوري من جهة، والحفاظ على هيبة النظام وعدم اهتزاز صورته امام الشعب الإيراني، وامام دول المنطقة من جهة اخرى. فسليماني هو قائد الحرس الثوري وفيلق القدس، ويتمتع بمكانة كبيره وموقع هام في القيادة الايرانية، وله الفضل في مد نفوذ إيران الى أربعة عواصم عربية مهمة هي، العراق وسوريا ولبنان واليمن. بل تبين لاحقا بان ما حدث مسرحية مدبرة، بين الطرفين لحفظ ماء وجه القيادة الايرانية.
لقد اكدت هذه الحقيقة، التصريحات المتبادلة بين اقطاب السياسة في البلدين في تلك الفترة. فوزير خارجية إيران جواد ظريف قال "ان هذا الامر انتهى عند هذا الحد". ليرد وزير الخارجية الأميركي وقتها، مايك بومبيو، التحية بمثلها فقال "إن بلاده لا تسعى إلى الحرب مع إيران، وأنها ستظل ملتزمة بوقف التصعيد". اما الرئيس دونالد ترامب رئيس أمريكا آنذاك، فلم يكلف نفسه سوى جملة واحدة، "كل شي يسير على ما يرام"، ليعقبها في اليوم التالي بخطاب خلاصته، "ان امريكا لا تريد الحرب، وانما تريد حياة أفضل، ليس للشعب الايراني وحده، وانما للنظام ايضا". اما الضربة القاضية، فجاءت من رئيس الوزراء العراقي آنذاك عادل عبد المهدي، حيث قال لقد أبلغنا الجانب الايراني بتوجيه ضربة ضد قاعدة الأسد قبل أكثر من ساعتين، وبدورنا أبلغنا ضيوفنا في القاعدة المستهدفة. هكذا تنتهي حروب العشاق بعد ان يحبس الجهلة انفاسهم، خشية من نشوب حرب طاحنة بين البلدين.
ان إيران وامريكا يحتاج كل منهما الاخر. فالأولى تلعب دور العدو القوي، الذي تخشاه الدول الضعيفة، وخاصة دول الخليج العربي، التي تضطر لضعفها طلب الحماية من امريكا لقاء اموال طائلة. في حين قدمت امريكا لملالي طهران حصة كبيرة في العراق المحتل. فعلى المستوى السياسي، نالت إيران حصة الشريك، سواء في الحكومة او البرلمان او بقية المؤسسات. واقتصاديا استحوذت على كميات كبيرة من النفط المهرب. يضاف الى ذلك جني الاموال الطائلة التي دعمت الاقتصاد الايراني في ظل الحصار، من خلال تصدير مختلف المنتجات الصناعية والغذائية والدوائية للعراق بأسعار عالية، او في صفقات فساد، لدعم اقتصاد إيران الذي يشهد تراجعا حادا في مجالات عديدة.
اما عسكريا، فقد سمحت امريكا لإيران حماية مكاسبها غير المشروعة، بقوة عسكرية، تمثلت بعشرات المليشيات المسلحة، التي لم تمتلك اية جهة خارج الدولة في تاريخ المنطقة من العدة والعتاد. كما ان الطرفين يعملان سوية لإذلال الشعب العراقي وتجويعه وتمزيق وحدته الوطنية، وزجه بحروب طائفية لتامين هيمنة البلدين على العراق. وهذا ما يفسر وقوفهما بقوة ضد ثورة تشرين، باستخدام القوة العسكرية، أدت الى استشهاد المئات من أبنائها، وجرح الالاف واغتيال عشرات الناشطين والاعلاميين.
سينتفض الموالون لإيران ويسألون، إذا كان الامر كذلك، ترى لماذا كل هذه الحشود العسكرية الامريكية في مياه الخليج العربي، والتي تكفي لدخول أمريكا حرب عالمية؟ ولماذا هذا الاستنفار العسكري من قبل إيران؟ هل الامر يتعلق بغزة المدينة الصغيرة، ام ان الهدف منها ضرب إيران، على افتراض انها تقف وراء حرب غزة؟
لا نجادل هؤلاء في حاجة كل طرف لمثل هذه القوات العسكرية، حيث لا توجد ضمانة اكيدة بعدم اخلال كل طرف بالتزاماته تجاه الطرف الاخر. وسنفترض جدلا بان مثل هذا التعاون بين إيران وامريكا في العراق ليس له وجود. لكن هذه الفرضية تسقط امام معادلة اختلال موازين القوى العسكرية بين الطرفين، التي تمنع الدخول في مواجهة عسكرية لا تحمد عقباها. فإيران مثلا ليست مؤهلة لمواجهة قوة عسكرية عملاقة كافية لتدمير نصف الكرة الأرضية. في حين تتردد أمريكا في شن حرب ضد إيران، قد تكلفها خسائر مادية وبشرية، او تعرضها لحروب عصابات مسلحة، هي في غنى عنها. خاصة وان الشعب الامريكي قد عانى من الحروب كثيرا، وأصبح كارها لاي ادارة تقوده اليها. بل ان الشعب الامريكي درج على الخروج الى الشوارع في مظاهرات كبيره وصاخبة ضد الحروب. كما خرج ويخرج اليوم احتجاجا على مشاركة دولته في الحرب على غزة. ناهيك عن المظاهرات غير المسبوقة التي عمت
دول العالم، والتي لم تدن الكيان الصهيوني وحده، وانما ادانت أمريكا وحلفاءها.
لقد احتلت امريكا العراق لهدف واحد هو تدميره دولة ومجتمعا، و"امريكا لا تذهب للصيد الا وكلابها معها". هذا ما قاله الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وإيران قبلت المشاركة في رحلة الصيد الى العراق، مقابل حصولها على مكاسب هامة، سياسية وتجارية ومذهبية، عجزت عن تحقيقها طيلة العقود الماضية، وبالتالي فهي غير مستعدة للتفريط بها، والدخول في حرب خاسرة ضد اقوى دولة عسكرية في العالم. وهناك الكثير من الادلة التي تؤكد على هذا التعاون المتين بين امريكا وإيران. منها على سبيل المثال لا الحصر، اعترافات لشخصيات امريكية مثل ادوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية الامريكية الاسبق لشؤون الشرق الأدنى وافريقيا، ومن الباحثين السياسيين، جون سبوزتو وستيفن زوترو ومن الكتاب ذوي الصلة الوثيقة بالأمريكان الكاتب السياسي اللبناني الامريكي الفارسي الاصل فؤاد عجمي، ومن العراقيين احمد الجلبي وكنعان مكية وليث كبة ورند الرحيم، وغيرهم الكثير. وكلهم أكدوا على قيام تفاهم بين امريكا وإيران بشأن العراق منذ سنة 1991. وتعزز ذلك التفاهم طيلة فترة الحصار، وبعد احداث ايلول عام 2001 أصبح شبه مكتوب، وإذا اختلفت امريكا وإيران في سوريا او لبنان او اليمن، فانهما يتفقان تماما حول مخطط تدمير العراق بالكامل.
في ضوء ما تقدم، من غير الوارد ان يكون التصعيد السياسي والعسكري الحالي للدخول في حرب، وانما محاولة في الوصول لحل. فإيران لم يعد بإمكانها الاستمرار في اللعب مع الكبار. خاصة في ظل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها منذ سنين طويلة، مع وجود حركات سياسية وقومية معادية للنظام وتسعى الى أسقاطه. اضافة الى نشاط التيار المعتدل داخل القيادة الايرانية، الذي يرفض سياسة التوسع وتصدير الثورة، ويسعى الى بناء علاقات تفاهم مع الغرب وامريكا بالذات، تحفظ مصالح إيران الوطنية، وتديم وظيفتها المرسومة لها في المنطقة. ومنها ما تحتاجه امريكا لاستكمال مخطط تدمير العراق، الذي لم ينته بعد. وبالتالي لا يحصد الا الخيبة من يراهن على حرب امريكية ايرانية، لا في المستقبل القريب ولا البعيد.
9/2/2024
727 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع