بقلم
الأستاذ الدكتور
صلاح رشيد الصالحي
تخصص: تاريخ قديم
بغداد 2023
(وفي السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشورالسامرة وسبى إسرائيل إلى أشور)
(ملوك الثاني: الاصحاح 6:17)
صورة خيالية لتهجير سكان السامرة على يد الجيش الاشوري في عهد سرجون الثاني، ويلاحظ عملية التهجير تكون تحت مراقبة وحراسة الجنود الاشوريين، ورحلة التهجير طويلة وعلى حكام المدن توفير المواد الغذائية خلال مرور المهجرين في مدنهم.
حدثت ثورة في مدينة آشور قبيل نهاية القرن الثامن ق.م ، وذلك في عهد شلمانصر الخامس الذي كان منشغلا بحصار السامرة (شمال فلسطين)، ودام الحصار ثلاث سنوات لمناعة اسوار المدينة، وانتهت ثورة مدينة آشور بمقتل الملك الاشوري نفسه عام (722) ق.م، واعتلاء سرجون الثاني العرش، فمنح مدينة آشور امتيازات عبر عنها سرجون في النص: (حررت اهل اشور من التجنيد القسري وجباية الضرائب) وشمل الاعفاء اعمال السخرة ايضا، ومن المحتمل ان لسرجون الثاني يد في حركة التمرد فهو المستفيد الأول من العنف ومقتل الملك شلمانصر الخامس، ومن خلال منحه الامتيازات اكتسب رضا الإله اشور وتأييد الكهنة وسكان مدينة آشور أيضا، وما يهمنا مملكة السامرة الصغيرة التي تقع في شمال فلسطين وسكانها من العبريين تم محاصرتها منذ عهد الملك شلمانصر الخامس وكان سقوط المدينة في السنة الأولى من حكم سرجون الثاني، ويعلق الباحث (Tadmor) ان سكان السامرة لم يعرفوا بالثورة والتغيرات السياسية في مدينة آشور، وخلال حصار السامرة تولى مسؤولية الدفاع عن المدينة ضد الجيش الاشوري من قبل مجلس شكل من قبل سكان المدينة المحاصرة، وقد نسب سرجون الثاني سقوط السامرة بانه انتصار له ولقواته كما في النص : (في بداية حكمي في السنة الأولى من استلامي للعرش، ثار شعب ساميريا (Samerinan) ضدي... (الإله شمش) جعلني أحقق النصر ... رحلت (27,500) من سكانها نقلتهم بعيدا إلى آشور، واخذت (50) عربة حربية إلى قواتي الملكية اخترتهم من بينهم ...)، ونلاحظ في حوليات سرجون اشارة إلى مملكة السامرة ولم يذكر اسم (اسرائيل) اطلاقا ربما هذا الاسم اختلقة كتبة التوراة في بابل بعد سبيهم على يد نبوخذنصر الثاني (587) ق.م أي بعد مرور اكثر من مائة عام على سقوط السامرة.
اما التوراة فقد اشارت إلى سقوط السامرة في عهد هوشع Hoshea)): ((3) وصعد عليه شلمناسر ملك أشور. فصار هوشع عبدا ودفع له الجزية. (4) ووجد ملك أشور في هوشع خيانة، لأنه أرسل رسلا إلى سو (So) ملك مصر، ولم يؤد جزية إلى ملك أشور حسب كل سنة، فقبض عليه ملك أشور وأوثقه في السجن. (5) وصعد ملك أشور على كل الأرض، وصعد إلى السامرة وحاصرها ثلاث سنين. (6) في السنة التاسعة لهوشع أخذ ملك أشور السامرة، وسبى إسرائيل إلى أشور وأسكنهم في حلح وخابور. نهر جوزان وفي مدن مادي) (سفر الملوك الثاني الاصحاح :173-6 (، في نص سفر الملوك الثاني نجد ملك أشوري واحد فقط ذكر بالاسم (شلمانصر) كما في (الآية 3)، ولكن من الواضح أن الإشارة هي إلى ملكين مختلفين، شلمانصر الخامس وسرجون الثاني، وبحسب نقوش الأخير فقد قام بترحيل (27,500) من سكان السامرة، وكان ترحيل سكان السامرة إلى شمال بلاد ما بين النهرين مثل ميديا Media)) (ذكرت في نصوص شلمانصر الثالث بانها تقع بالقرب من بحيرة اورمية شمال غرب ايران) كما هو مذكور في (الآية 6)، وهو بلا شك نفس ما قام به سرجون الثاني بعد حملته إلى الغرب عام (720) ق.م، وفي حين تشير (الآية 3) صراحة إلى شلمانصرالخامس، تشير (الآية 6) ضمناً إلى سرجون الثاني، خليفته على العرش، يمكن للمرء أن يتساءل أين تنتهي أعمال شلمانصر الخامس وأين تبدأ أعمال خليفته، أو بكلمات أخرى، أي من الملكين حاصر السامرة واحتلها؟
على العموم كرر سرجون الثاني في نقوشه ولعدة مرات بأنه غزا السامرة في بداية حكمه، وقد فسر العلماء ولسنوات عديدة ما ورد في (سفر الملوك الثاني 17، 6 ) في صحة ادعاء سرجون في نقوشه، ولم يؤيد سوى عدد قليل جدا صحة كلام سرجون، وهؤلاء اسندوا سقوط السامرة إلى شلمانصر الخامس، فقد نشر الباحث (Tadmor) مناقشته التفصيلية لنقوش سرجون وحلل بشكل نقدي الحوليات الملكية وأثبت أن سجلات سرجون الثاني تشير إلى الحملة الأولى على الغرب (سورية-فلسطين) في السنة الثانية من حكمه (720) ق.م، وخلال هذه الحملة هزم تحالفا ضم الدول التي يرأسها إلو-بيدي (Ilu-bi’di) ملك حماة Hamath)) وتم الاستيلاء على المدن المتمردة وهي أرباد (Arpad)، وسميرة Simirra))، ودمشق (Damascus) ، وبعد ذلك غزا مدينة غزة (Gaza)، وهزم رع (Re'e)، (تورتان مصر) (turānu) (تعادل رتبة جنرال)، بالقرب من مدينة رافيا (Raphia) بمعنى(مدينة رفح)، وبعد انتهاء الحملة الأولى اعاد مجددا مملكتي حماة والسامرة، وقام بترحيل الآلاف من السكان وإعادة استيطانهم وبناء مراكزالمملكتين، وبذلك فان مدينة السامرة قد تم غزوها قبل ذلك بعامين على يد شلمانصر الخامس عام (722) ق.م بعد حصار استمر ثلاث سنوات (724-722) ق.م.
ان قصة الحصار الطويل والغزو كما ذكرت التوراة تشير إلى شلمانصرالخامس، وتم تسجيل حملة غزو الملك الآشوري أيضا في الحوليات البابلية (uruŠamara'in iḫtepi') ، ولم يكن استيلاء سرجون الثاني على المدينة عملية انتصار انما يجب أن ينسب مجد الانتصار العسكري إلى سلفه شلمانصر الخامس، وان فرضية غزوا السامرة على يد شلمانصر الخامس عام (722) ق.م، ومن ثم حملة سرجون الثاني (720) ق.م، وقد تم قبول هذه الفرضية من قبل العديد من العلماء مع بعض الاختلافات الطفيفة، وقد دافع الباحث (Becking) مؤخرا في شرحه التفصيلي للمصادر الاشورية إشارة إلى سقوط السامرة بيد شلمانصر الخامس .
بعد سقوط السامرة وترحيل السكان إلى بلاد آشور، تم اعادة استيطان المنطقة باقوام اخرى كما نقرأ في التوراة: (رجال بابل صنعوا سكوت بنوت (Succoth Benoth)، ورجال كوثة (Cuthah) صنعوا نركال(Nergal)، ورجال حماة صنعوا أشيما (Ashima)، والعويون (Avvites) صنعوا نبحاز (Nibhaz) وترتاق (Tartak)، والسفراويين Sepharvites)) ... أدرملك (Adrammelech) وأناملك (Anamelech)." (ملوك الثاني 17: 30-31)، في النص اشار إلى الاقوام التي استوطنت السامرة، فكان المهاجرين من بابل وكوثة (موقع تل ابراهيم في العراق القديم) وهؤلاء كانوا يعبدون آلهتهم المحلية فصنعوا تماثيل لها وأقاموا لها معابد، ومزجوها بعبادة الإله يهوه رب العبريين، (في المقالة القادمة سوف اذكر اسماء الآلهة الرافدينية في التوراة).
اما نص سرجون الثاني فالامر جد مختلف فقد ذكر في حولياته: (قبائل تمود (Tamud) (بمعنى ثمود التي ذكرت في القرآن مع قوم عاد ويطلق عليهم العرب البائدة)، وإباديد (Ibâdid)، ومارسيمانو (Marsimanu)، وحيابا (Haiapâ)، وهم عرب بعيدون، يسكنون الصحراء، ولا يعرفون موظفين رفيعين المستوى أو صغار (بمعنى ولاة ولا مفوضين)، ولم يقدموا الجزية لأي ملك! ضربتهم بسلاح سيدي الإله آشور، ونقلت الباقين منهم وأسكنتهم في السامرة)، ويستمر سرجون الثاني في حولياته بقوله: (ومن بيرو (Pir’u) (بمعنى فرعون) ملك مصر، وشمسة (Šamsi) ملكة العرب، وايتعمرا (It’amra) ملك السبئيين (Sabean)، وملوك الساحل والصحراء تلقيت منهم الذهب ومنتجات الجبل والأحجار الكريمة والعاج وبذور القيقب (maple) (؟) وجميع أنواع الأعشاب، والخيول والجمال كجزية منهم، وهزمت ميتا (Mitâ) ملك موشكي (Maški) في إقليمه، ومدينتا حاروا (Harrua) واوشنايس (Ushnanis)، وحصون بلاد كوي (Kue) (منطقة قيليقيا جنوب وسط تركيا الحديثة)، التي تم الاستيلاء عليها بالقوة منذ زمن بعيد، استعادتها إلى وضعها (السابق)، يظهر من نص سرجون اعادة استيطان السامرة كان من العرب المقيمين في مناطق شمال الجزيرة العربية، وهؤلاء العرب كانوا من البدو الذين لم يخضعوا سابقا لسلطة اي دولة ولا يعرفون الالتزام باي سلطة مركزية، فقد هاجمهم سرجون الثاني وهجروا إلى السامرة مع آلهتهم المحلية، يبدو ان كتبة التوراة في بابل يفتقدون إلى المعلومات الكافية حول اصول المهجرين إلى السامرة، فهناك اختلاف بين النصين: فالتوراة تجعلهم من بابل وكوثة ومناطق اخرى، بينما حوليات سرجون الثاني ذكر بان المهجرين من العرب، وبذلك نتوصل إلى ان سقوط مملكة السامرة في شمال فلسطين كان على يد شلمانصر الخامس، وبعد تمردها مرة اخرة استولى عليها سرجون الثاني وهجر سكانها ونقل العرب وواعاد توطينهم في السامرة حتى لا تتمرد مرة اخرى.
2186 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع