د.سعد ناجي جواد*
كركوك القنبلة الموقوته: لماذا تصر الولايات المتحدة الان على اثارة قضية المادة 140 من الدستور مجددا؟ وماهو المطلوب من المحكمة الإتحادية
ابتداءا ارجو من اخوتي في المغرب الشقيق ان يتقبلوا من شخصي البسيط احر التعازي واصدق المواساة بسبب الكارثة الربانية التي حلت بهم. وادعو العلي القدير ان يصبرهم وان يرحم شهدائهم ويجعل مثواهم الجنة ويشافي جرحاهم، وان تكون هذه المصيبة سببا في تضامن عربي واسع ينسجم وحجم الكارثة، وإنا لله وإنا اليه راجعون.
محافظة كركوك، او التاميم، كما اسماها نظام حزب البعث تخليدا لعملية تاميم النفط (1972)، تعود من جديد للواجهة اثر نشوب صدامات داخلية بين سكانها التركمان والعرب من جهة ومؤيدي الحزب الديمقراطي الكردستاني (البرزاني) من الاكراد من الجهة الثانية. السبب المباشر لهذه النزاعات هو موافقة الحكومة الحالية، وبدون دراسة مستفيضة للموضوع، على عودة الحزب الديمقراطي الكردستاني ومسلحيه الى كركوك والى كل المواقع التي كان يشغلها قبل ان يتم اخراجهم منها في عام 2017 من قبل الجيش العراقي، إثر إجراء حكومة الاقليم الاستفتاء المعروف حول الإستقلال، غير المدروس ايضا، وفرضه على محافظة كركوك التي تتميز بكونها مختلطة تحوي كل مكونات العراق، عربا وتركمانا واكرادا، وكل الاديان والمذاهب، مسلمين ومسيحيين وشيعة وسنة. وهذا التنوع الكبير يجعل منها حالة خاصة لا يمكن، بل ولا يجب ان يُسمح لطرف معين ان يتحكم بها.
اهمية وحساسية كركوك هي ليست بالجديدة، وانما بدات مع بداية اعلان قيام دولة العراق الحديث، فلقد حرصت بريطانيا ان تكون تحت سيطرتها بسبب احتوائها على خزين كبير من النفط، (اول بئر نفطي عراقي اكتشف فيها عام 1927). في نفس الوقت اصرت تركيا على اعتبارها تحت حمايتها، متعللة بالنسبة العالية من ابناء القومية التركمانية العراقية التي يسكنونها. وبسبب الثروة النفطية ايضا بدات الاحزاب الكردية المختلفة تروج لفكرة ان كركوك مدينة كردية. إلا أن المجزرة البشرية التي ارتُكِبَت في عام 1959 بحق ابناء المحافظة من التركمان وبعض العرب، والتي اتُهِمَ بها مسلحون من الحزبين الشيوعي والديمقراطي الكردستاني، خلقت احتقانا كبيرا داخلها، خاصة بين الاكراد والتركمان، لا تزال اثاره باقية لحد اليوم. وتجدد الإحتقان عندما قام مسلحي الحزب الديمقراطي الكردستاني بإقتحام كركوك والسيطرة عليها ورفع العلم الكردي فوق مبانيها الرسمية (2014)، بإدعاء انهم قاموا (من طرف واحد) بتطبيق المادة 140 من الدستور (التي سيتم الحديث عنها في الجزء الثاني من المقالة). ثم قامت مليشيات الحزب بعمليات تجريف قرى عربية كثيرة وترحيل سكانها وتوطين عوائل كردية (اغلبهم من اكراد سوريا وتركيا)، بدعوى انهم من سكان المحافظة جرى ترحيلهم من قبل النظام السابق، كل ذلك في سياسة واضحة من أجل (تكريد) المحافظة. وهذه لم تكن المحاولة الأولى للعبث بالنسيج الإجتماعي لكركوك. فمنذ بداية الستينيات قامت الحكومات المركزية بنقل عشائر عربية الى المحافظة لغرض زيادة الوجود العربي فيها.
في محاولة الحكومات المختلفة معالجة المشكلة (وحتى في الدستور الأخير) كان الاساس الذي يطرح لتحديد هوية المحافظة هو ضرورة اعتماد احصاء عام 1957 للسكان الذي جرى في ظروف هادئة وطبيعية في العهد الملكي. ذلك الإحصاء، وإن لم تُعتَمد فيه القومية كاساس، إعتمد معيار اللغة. واظهرت نتائجه ان نسبة الذين يتحدثون الكردية في كركوك (مركز المدينة) كانت 33.53% والمتحدثين باللغة التركية كانوا 37.62% والناطقون بالعربية 22.53%. اما في المحافظ ككل فلقد كانت النسب كالاتي 48.24% تركمان، 21.44% اكراد، 28.19% عرب. وعندما تم توقيع بيان اذار في عام 1970، تم الحاق عدد من النواحي والقرى ذات الغالبية الكردية في شمال المحافظة الى منطقة الحكم الذاتي، مما قلل من نسبة الاكراد فيها. (وبالمناسبة فان ذلك الاحصاء وإعتمادا على نفس المعيار، حدد نسبة الاكراد في العراق ب 16% من مجموع الشعب العراقي).
مع تصاعد الدعوات لاقامة دولة كردية في شمال العراق، وبسبب وجود ثروة نفطية وغازية في كركوك، اصبحت المطالبة بضمها من الاولويات لدى اصحاب هذا الراي، لا بل انهم اعتبروها عاصمة الدولة او الكيان الكردي المزمع إنشاءه. هذه المطالبات وخاصة في ظل نظام البعث، كانت تحظى بتأييد أطراف خارجية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل. إلا أن هذا الدعم (باستثناء الاسرائيلي) خفت كثيرا بعد احتلال العراق، بدليل عندما قال السيد مسعود البرزاني لسيء الصيت بول بريمر ان (كركوك هي قدس الاقداس) بالنسبة للاكراد، اجابه بريمر مباشرة بان مشكلة قدس واحدة تكفي ولا نريد ان نسمع عن قدس ثانية، وانهى الموضوع. ولكن وجريا على عادة الدول الاستعمارية في ترك بؤر لمشاكل مستقبلية عمد بريمر ومن تعاون معه الى زرع لغم قابل للانفجار في اية لحظة متمثلا بتثبيت مفهوم جديد في الدستور العراقي الدائم (2005)، وقبله في قانون ادارة الدولة المؤقت (2004)، عنوانه (المناطق المتنازع عليها). هذا المفهوم السيء يعتبر بدعة دستورية ليس لها نظير. فالمعروف ان الدول، وخاصة بعد الحروب الكبيرة، تطالب بمناطق اقتطعت منها عنوة وتعتبرها متنازع عليها، ولكن لم يحدث أن قامت دولة يفترض انها تنظر لشعبها ولاراضيها ككيان واحد موحد، أن ثبتت هكذا مادة في دستورها. ناهيك عن ان إستخدام عبارة (متنازع عليها) غير سليم بتاتا ويتنافى مع مبدا الوحدة الوطنية ويخلق عداءا بين ابناء الشعب الواحد.
من المفارقات التي لابد وان ترسم بسمة حزينة على الشفاه، ان اغلب القيادات الكردية التي تصر على ضم كركوك للإقليم، خاصة عندما تُواجَه برفض قوي لهذا المطلب، تعود وتؤكد ان كركوك محافظة عراقية ومختلطة ويجب ان تبقى كذلك. هذا ما قاله وكتبه المرحوم جلال طالباني عندما كان على وشك ان يوقع اتفاق مصالحة مع الحكومة العراقية عام 1984، وكرره عندما اصبح رئيسا للجمهورية، وقاله اخرون بعد الاحتلال عندما شعروا بان هناك معارضة اقليمية ودولية لفكرة إقامة دولة مستقلة. واخر من ذكر ذلك هو السيد مسعود البرزاني رئيس الحزب الكردستاني، وكرره السيد نيجرفان البرزاني، رئيس الاقليم قبل ايام، بعد حديث (بل تهديد) السيد رجب طيب اردوغان الذي اكد فيه ان كركوك خط احمر وليس مسموح لاي طرف ان يتجاوز عليها. ومع كل هذه التصريحات تبقى القيادات الكردية المختلفة، وفي كل مرة يحصل فيها خلاف مالي مع السلطة المركزية، تطالب بتطبيق المادة 140 من الدستور، وتتحدث عن ضرورة اجراء استفتاء في (المناطق المتنازع عليها) وخاصة في كركوك، ولغرض احراج السلطة المركزية بالاساس. هذا الكلام لابد، بل ويجب ان يدفعنا للحديث عن هذه المادة التي تبقى قنبلة موقوتة اخطر من مشكلة كركوك نفسها، خاصة بعد ان انضمت الولايات المتحدة موخرا الى المطالبة بتطبيق المادة ومعها الحزب الشيوعي العراقي وابواق اسرائيلية اخرى.
بدون اطالة او لف ودوران او الخوض في امور جانبية كثيرة سبق ان كتبت عنها كثيرا ومنذ عام 2013، وبصورة مفصلة في راي اليوم ( دستور العراق وثيقة مزورة 2019/11/21)، اقول ان من يطالب بتطبيق هذه المادة إما جاهل او لديه اجندة مسبقة. وهذا ليس تجني على احد وانما امر يستند الى حقائق لا يمكن انكارها. فهذه المادة هي بالاساس مزورة ومضافة الى الدستور بصورة غير قانونية وغير مشروعة، وتمثل اضافتها اهانة للمصوتين العراقيين الذين صوتوا على الدستور عام 2005 في استفتاء عام. وبالتالي فلا يمكن قانونا ان يتم اللجوء اليها او التعكز عليها في اي نزاع بين المركز والاقليم.
ولمن لا يعلم فان الدستور الذي كتبه مدرس جامعي امريكي يهودي صغير السن وفرضه بريمر، كما فرض قبله قانون ادارة الدولة الانتقالي، كان دستورا مكونا من 139 مادة فقط. ولما كان الهدف الامريكي هو اقرار الدستور باسرع وقت وفي اقصر مدة وباي شكل من الاشكال حتى وان اعتمد التزوير، (وهذا ما حدث)، ونتيجةً لإعتراض قادة الاحزاب السنية على المسودة والمطالبة بتعديلات عليها، (أمرهم) الوفد الامريكي الذي كان يتابع مسالة اقرار الدستور من داخل السفارة الامريكية في بغداد، بان يصوتوا بنعم، ووعدهم باضافة مادة برقم 140 تنص على امكانية اجراء تعديلات على الدستور خلال مدة معينة بعد اقراره. (اصبحت هذه المادة برقم 142 في الدستور الحالي). وهكذا خرج رئيس الحزب الاسلامي انذاك على الملأ وطلب من ابناء مكونه بالتصويت لصالح الدستور. لكن عندما علمت الاحزاب الكردية بذلك المقترح اعترضت بشدة، ولارضائها تم اضافة خمسة مواد جديدة بدلا من واحدة، اولها المادة 140 التي اعادت تثبيت المادة 58 من قانون ادارة الدولة الانتقالي الملغى، والتي تحدثت عن (استفتاء في كركوك وكل المناطق التي سميت متنازع عليها)، وسوء النية في هذه المادة انها اعتبرت ان هناك مناطق متنازع عليها في كل المحافظات العربية المحيطة بالاقليم الكردي الذي تم اعلانه، في الموصل وصلاح الدين وديالى، يعني بكلمة اخرى انها وضعت الغاما عديدة للمستقبل وفي الدستور. المسالة الاهم ان هذه التعديلات والأضافات لم تُعرض على اللجنة الدستورية التي اقرت الدستور، ولا على الجمعية الوطنية التي رفعته للإستفتاء ولم تكن مثبتة في النص الذي تم الاستفتاء عليه، وبالتالي فهي تعتبر باطلة واضافتها تزوير واضح، ويجب على المحكمة الاتحادية ان تبت في هذا الموضوع وتصدر حكمها. وإذا ما عادت المحكمة الى محاضر جلسات اللجنة الدستورية ستجد أن لا وجود لحديث او مناقشات او تثبيت لمادة تحمل الرقم 140 في كل الجلسات والنقاشات التي اجرتها اللجنة.
طبعا دخول الولايات المتحدة على الخط مؤخرا، ومطالبتها الدولة العراقية باحترام المادة ياتي لأغراض اخرى، في ظل تحركات امريكية مريبة في المنطقة، لا تقتصر على تنقلات عسكرية في العراق وسوريا، وانما وصلت الى الاعلان عن تشكيل قوة جديدة عسكرية كبيرة من المسلحين الاكراد (البيشمركة) يصل تعدادها الى 80 الف مسلح، تقول الولايات المتحدة بانها ستتولى تدريبهم وتجهيزهم والتكفل بمصاريفهم، وتدعي بانهم لن يكونوا خاضعين للأحزاب الكردية الموجودة، هذا بالاضافة الى ما يتسرب من معلومات عن رعايتها لجماعات مسلحة في غرب العراق، ومقاتلين اكراد ايرانيين في اقليم كردستان العراق ايضا، مع احاديث عن تبني واشنطن بعض الاسماء البعثية. كل هذه التحركات تثبت بما لا يقبل الشك ان الهدف الامريكي من وراء اثارة موضوع المادة 140 ما هو الا حجة للتدخل بالشان العراقي لاغراض مبيتة. الامر المؤسف انه لا يزال هناك من يعتقد (من العرب والعراقيين بالذات) ان الولايات المتحدة تحمل نوايا طيبة تجاه بلدهم، وانها تحاول إصلاح ما افسدته ودمرته بعد عام 2003. هذه المحاولات يمكن ان تضاف الى ما يحدث في المنطقة والتي توكد بانها (المنطقة) مقبلة على احداث جسيمة، وخاصة في سوريا وفلسطين ولبنان والعراق .
بعد توضيح كل ما قيل يبقى من حق اكراد كركوك ان يكون لهم من يمثلهم في المحافظة وفي اية انتخابات نزيهة، شريطة ان لا يتم ذلك بالاسلوب الذي حدث مابين 2014 و2017، وحتى قبل ذلك، من محاولة تهميش المكونين التركماني والعربي وبإجراءات تعسفية كثيرة لا يزال ابناء المحافظة يتحدثون عنها، وهي السبب الأساس في معارضتهم الشديدة لعودة مسلحي الحزب الكردستاني لمدينتهم. علما بأن المقر الرئيس الذي يطالب به الحزب هو مقر حكومي عراقي من أملاك وزارة النفط العراقية ولم يكن ملكا للحزب الكردستاني في يوم ما، وتم الإستحواذ عليه بالقوة بعد الإحتلال. ولقد حكمت المحكمة الإتحادية ببطلان امر رئيس الوزراء بإعادة المقر المشار اليه للحزب الكردستاني.
وتبقى الحكومة العراقية مطالبة بنزع فتيل ازمة كركوك الذي تسببت هي فيه، وأي تاخير في إيجاد حل سريع يرضي جميع الاطراف ينذر بفتح الباب للتدخلات الخارجية التي لا تريد خيرا بالعراق وشعبه.
*كاتب واكاديمي عراقي
3178 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع