د. جابر أبي جابر
لينين و"باخرة الفلاسفة"
"باخرة الفلاسفة"- مصطلح ظهر في أواخر حقبة البيريسترويكا بمقالة نشرتها صحيفة"ليتراتورنايا غازيتا" عام 1990 للفيلسوف وعالم الرياصيات السوفيتي سيرغي خوروجي حول الترحيل القسري لمئات من المثقفين الروس وعائلاتهم، الذي جرى في عام 1922 بناء على اقتراح رئيس الحكومة السوفيتية فلاديمير لينين وذلك عبر خمس رحلات بحرية من بتروغراد وأوديسا وسيمفيروبل إلى ألمانيا وتركيا(اسطنبول). وكذلك من موسكو بالقطار إلى برلين وريغا. وقد تراوح عددهم من 228 إلى 272.
بعد أن وضعت الحرب الأهلية الروسية (1918-1921) أوزارها وحقق البلاشفة النصر النهائي على قوات البيض، التي جرى جلاء فلولها خارج البلاد من موانئ شبه جزيرة القرم وأوديسا ونوفوروسيسك، شعر البلاشفة بثقة كبيرة وقرروا تركيز جهودهم على مواجهة الأعداء من المدنيين في الداخل رغم أن قمع المعارضين لم يكن يتوقف، في واقع الأمر، منذ الأيام الأولى لثورة أكتوبر وكان أمراً اعتيادياً في ظروف تفرد حزب واحد بالسلطة .
ولكن دولاب الجهاز القمعي آنذاك صار يعمل بفعالية كبيرة. وفي هذه الأجواء ابتكرت السلطات طريقة خاصة لكي" تطهر روسيا السوفيتية لفترة طويلة" من كافة العناصر، التي لا يروق لها الحكم الجديد، وخاصة النخبة الواعية من السكان المتمثلة في الأدباء والفلاسفة والعلماء والبروفسورات والاطباء، الذين لا يتوقفون عن توجيه الانتقادات للسلطات السوفيتية. وللتخلص من ألسنة هؤلاء وأقلامهم اقترح لينين ترحيل مجموعة كبيرة منهم إلى الخارج بدلاً من سجنهم أو تنفيذ حكم الإعدام بهم.
ففي 19 أيار/مايو عام 1922 بعث لينين رسالة سرية إلى رئيس جهاز الأمن السري(غي. بي. أو) البولندي الأصل فيلكس دزرجينسكي عرض عليه فيها ترحيل مئات من أبرز مثقفي البلد " المعادين للثورة" ووضع قائمة بأسمائهم. وبعد يومين من ذلك تلقى لينين رسالة من وزير الصحة نيكولاي سيماشكو يشكو فيها من نتائج المؤتمر الثاني للعاملين في القطاع الصحي ويقترح عليه العمل بمساعدة أجهزة الأمن على "سحب" قادة المؤتمر المعارضين وبعض ممثلي الجمعيات الطبية المحلية. وقد كتب لينين خلاصته على الرسالة موجهاً تعليماته إلى ستالين مؤكداً له ضرورة تنسيق العمل بهذا الخصوص مع دزرجينسكي وسيماشكو لوضع خطة للتدابير اللازمة في هذا الشأن. والمعروف أن لينين كان يشعر بكراهية خاصة تجاه المثقفين حيث قال ذات مرة " ... في واقع الحال الإنتلجنسيا ليست دماغ الأمة وإنما هي خراءها...".
وفيما بعد ألقي على عاتق جهاز الأمن السري" غي.بي.أو" مهمة تنظيم عملية الترحيل حيث بدأ في جمع المعلومات عن طريق أعضاء الحزب الشيوعي، كلّ منهم حسب مكان عمله، سواء في الجامعات أوالمؤسسات والدوائر الحكومية والجمعيات المختلفة. وبعد ذلك شرع رجال الأمن باعتقال عدد كبير من ممثلي النخبة الثقافية والعلمية الروسية واستجوابهم تمهيداً لتحديد الأشخاص الذين ينبغي ترحيلهم. ثم بدأ العمل بوضع قوائم الأشخاص المزمع إبعادهم إلى الخارج. وقد صدر قرار بإلغاء ترحيل المدرج أسمائهم في قائمة الأوكرانيين.
وتجدر الإشارة إلى أنه دافع عن بعض المعتقلين مسؤولون من مؤسسات الحكومة السوفيتية والمنظمات الاجتماعية وحتى من قادة البلاشفة. ومنهم وزير المعارف في حكومة لينين اناتولي لوناتشارسكي، وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي رئيس اللجنة المركزية التنفيذية ميخائيل كالينين، وعالم الطاقة رئيس اكلديمية العلوم السوفيتية غليب كرجيجانوفسكي، ورئيس الحكومة الأوكرانية غيورغي بياتاكوف وغيرهم.
والجدير بالذكر أنه منذ الأسابيع الأولى لثورة أكتوبر دفعت الاختلافات الإيديولوجية مع السلطات الشيوعية الكثير من أبرز ممثلي الثقافة والعلوم في روسيا إلى الهجرة منها. ومن هؤلاء الموسيقار سيرغي رحمانينوف (مطلع عام 1918) والموسيقار سيرغي بروكوفييف(1918) والكتّاب فلاديمير نابوكوف مؤلف رواية"لوليتا" (1922)، والحائز على جائزة نوبل للآداب إيفان بونين (1920)، وأندريه بيلي ودمتري ميريجكوفسكي وألكسندر كوبرين ومارينا تسفيتايفا وعشرات الكتاب الآخرين، وكذلك المغني الأوبرالي فيودور شاليابين، والرسامان مارك شاغال وفاسيلي كاندينسكي وعدد من راقصات الباليه مثل آنا بافلوفا ومتيلدا كشيسنسكايا إلى جانب مصمم الطائرات ومخترع الهليكوبتر إيغور سيكورسكي، والفيلسوف والمؤرخ بيوتر ستروفه، والممثل ميخائل تشيخوف مدرب مشاهير نجوم هوليود في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، وكذلك فاسيلي ليونتيف الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وإيليا بريغوجين الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء. وفي العشرينات والثلاثينات عاد إلى الاتحاد السوفيتي بعض الكتّاب ومنهم كوبرين(1937)، الذي توفي بعد عام، وتسفيتايفا (1939)، التي أعدم زوجها سيرغي إيفرون ثم انتحرت بعد عامين وكذلك الموسيقار سيرغي بروكوفييف (1936).
المثقفين، الذين رُحّلوا على متن الباخرتين الألمانيتين "أوبربورخيرمستر هاكين"(30 أيلول/سبتمبر عام 1922) و"بروسيا" وضمن (17تشرين2/نوفمبر عام 1922)، الشخصيات التالية: سيرغي بروكوبوفتش أحد كبار مسؤولي هيئة مساعدة الجياع لعموم روسيا الخبير الاقتصادي ووزير التجارة والصناعة في الحكومة المؤقتة، وايكالترينا كوسكوفا الشخصية الاجتماعية المعروفة المشرفة السابقة على الهيئة المذكورة، والفيلسوف نيكولاي برديايف أحد مؤسسي الفلسفة الوجودية المسيحية، والفيلسوف إيفان إيلين(نصير الملكية والنزعة السلافية وفيلسوف بوتين المفضل)، والفلاسفة نيكولاي لوسكي (أحد مؤسسي المدرسة الحسية في الفلسفة) وسيرغي تروبتسكوي وسيمون فرانك (الخبير في مجال نظرية المعرفة)، والعالم الفيسيولوجي بوريس بابكين (تلميذ العالم المعروف بافلوف) والمؤرخ والباحث اللغوي أنطون فلوروفسكي, وألكسي بيشيخونوف وزير الأغذية في الحكومة المؤقتة، وفلاديمير زفيريغين مخترع التلفزيون (في الولايات المتحدة) ، والبروفسور فاسيلي فومين الأخصائي في علم الانسجة والبروفسور فسيفولود ستراتونوف العالم الفلكي، وبيتيريم سوروكين صاحب نظرية الدورة الاجتماعية.
وقد سُمح لكل مرحّل أن يأخذ معه معطفاً شتوياً وسترة صيفية واقاية من المطر وبدلة رجالية وسروالاً واحداً وقطعتين من الملابس الداخلية وقميصين وبيجامتين وزوجين من الجرابات النسائية. ومنعت السلطات المسافرين المرحّلين من أن يحملوا معهم النقود والسندات المالية وكذلك الذهب والمجوهرات باستثناء خاتم الزواج. ورغم سماح البلاشفة لكل مرحّل بأن يأخذ معه 20 دولاراً أمريكياً فإن تأمين مبلغ كهذا في تلك الأيام كان أمراً مستحيلاً لكونه محفوفاً بالمخاطر.
وكان المبعدون يقدمون تعهداً قبيل ترحيلهم بعدم العودة إلى الوطن دون موافقة السلطات السوفيتية المختصة وإلا سينفذ بهم حكم الإعدام. وبالإضافة إلى ذلك أصدرت الحكومة السوفيتية قراراً عممته على كافة المؤسسات السوفيتية في الخارج بمنع تشغيل أي شخص من المرحلين لديها.
وفي مقابلة مع مراسلة وكالة"خدمة الأخبار الدولية" الأمريكية آنا لويزا سترونغ (30 آب/اغسطس عام 1922) علل لينين مبادرته في ترحيل عدد كبير من ممثلي الإنتلجنسيا الروسية قائلاً : " لقد طردناهم لأنه لم يكن لدينا موجب لإعدامهم، من جهة، ولسنا قادرين، في الوقت نفسه، على تحملهم، من جهة أخرى...". أما تروتسكي فقد اعتبر هذا العمل من جانب لينين لفتة إنسانية. وقد أشار في تعليق آخر حول " باخرة الفلاسفة" قائلاً : " إن تلك العناصر، التي نسعى لترحيلها، أو التي سوف نرحلها، هي بحد ذاتها تافهة سياسياً . غير أن هؤلاء يمكن أن يصبحوا في وقت ما، إن لم نرحلهم، سلاحاً في أيدي أعدائنا المحتملين".
ويشير بعض المؤرخين إلى أن هذا العمل ربما كان رداً على ما قامت به قبل ذلك السلطات الأمريكية حينما رحّلت في أواخر عام 1919 على الباخرة "بافورد" 249 مهاجراً روسياً من الأناركيين إلى فنلندا حيث عادوا من هناك إلى وطنهم. وقد كان اليهود يشكلون الحزء الأكبر منهم. غير أن الفرق الأساسي بين الحالتين يكمن في أن هؤلاء اليساريين لم يحملوا الجنسية الأمريكية ولم يكونوا شخصيات بارزة.
على كل حال فإن ترحيل كبار المثقفين الروس القسري جرى في ظروف داخلية معقدة للغاية، إذ تفاقم الوضع من جراء المجاعة التي عصفت بمناطق عديدة من البلاد. كما اشتدت وتائر احتجاجات الفلاحين المناهضة للحكومة وانتشرت الإضرابات. وكان البلاشفة يعدّون لإجراء محاكمات للاشتراكيين الثوريين والمناشفة ويشنون حملة شعواء ضد الكنيسة الأرثوذكسية. وبالإضافة إلى ذلك ازداد نشاط الحركة الاجتماعية في أوساط المثقفين الذي تجلى في مؤتمرات الاطباء والمهندسين وأساتذة الجامعات (ألكسندر يرميتشوف. ملاحظات حول"باخرة الفلاسفة". مجلة "أبحاث سولوفيوفية"، الإصدار 3(43)، عام 2014). وفي معرض حديثه عن"باخرة الفلاسفة" أشار الكاتب الروسي فيتالي شنتالينسكي إلى " إن المواهب والثقافة الاصلية والفكر المبدع تشكل السلعة الوحيدة التي صدّرتها السلطة البلشفية إلى العالم دون مقابل".
أما الدكتور في الفلسفة ألكسندر تيخونوف فقد عكف في غضون سنوات طويلة على إحصاء عدد الأبحاث، التي نشرها المبعدين عن روسيا السوفيتية في شتى البلدان الأخرى، فوجد أنها تقارب 13 ألفاً من البحوث العلمية المختلفة، التي شكلت خسارة كبيرة للبلد. وقد نشر المؤرخ السوفيتي ليونيد كوغان مقالة بعنوان"إرسال المثقفين إلى الخارج عمل لا رحمة فيه"حيث أكد على أن هذا الإبعاد كان عنصراً جوهرياً في استراتيجية البلاشفة الرامية إلى فرض الاحتكار الروحي والعقائدي للحزب الشيوعي الحاكم في المجتمع السوفيتي وبذلك تصبح الحرية محظورة تماماً. وأضاف قائلاً:" لقد كان هذا العمل ضربة قاضية للإنتلجنسيا الروسية وللفكر عموماً... وفي المحصلة ألحق ضرراً نوعياً كبيراً في الرصيد الوراثي القومي الذي، بدوره، أحدث انحطاطاً ملموساً في المجتمع".
والجدير بالذكر إلى أن السلطات السوفيتية عادت إلى استخدام سياسة إبعاد المناوئين إلى الخارج في عهد بريجنيف ولكن على نطاق أضيق. وضمن الشخصيات المبعدة: الكاتب ألكسندر سولجنتسين(1974) الحائز لاحقاً على جائزة نوبل للآداب والفيلسوف والكاتب ألكسندر زينوفييف(1978) والشاعر يوسف برودسكي(1972) الحائز لاحقاً على جائزة نوبل للآداب.
وهكذا فإن ترحيل كبار المثقفين الروس في عام 1922 على متن "باخرة الفلاسفة" شكل إحدى الصفحات الدرامية في تاريخ روسيا. وتخليداً لهذه الواقعة نُصبت في عام 2003 بمدينة بطرسبورغ لوحة تذكارية في المكان، الذي انطلقت منه الباخرتان الألمانيتان "أوبربورخيرمستر هاكين" و"بروسيا" وعلى متنهما عشرات الشخصيات الثقافية والعلمية الروسية المرحلة قسراً في خريف عام 1922. وقد وضعت اللوحة المذكورة بمبادرة من جمعية بطرسبورغ الفلسفية.
868 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع