أحمد العبدالله
صدّام حسين؛ لقد غَدَر الغادرون!!(٤-٢)
كان الرئيس صدّام حسين عازمًا بعد انتهاء الحرب مع إيران بنصر عراقي مبين, على الانصراف لبناء العراق, وردّ الجميل للشعب الذي ضحّى بالغالي والنفيس وبفلذات أكباده في تلك الحرب الضروس, التي قال عنها(كيسنجر)؛(هذه أول حرب في التاريخ أتمنى أن لا يخرج فيها طرف منتصر)!!. فخلال زيارة له للموصل, قال؛(آنَ الأوان لنخلع البدلة العسكرية, ونتفرّغ للبناء). ولأجل ذلك عُقدت إجتماعات في القيادة العليا, تقرّر على ضوئها تشكيل ثلاث لجان؛لجنة إعداد الدستور الدائم, ولجنة التعددية السياسية والأحزاب, ولجنة حرية الصحافة والنشر. وقد قطعت هذه اللجان شوطًا كبيرًا في هذا الاتجاه. فلجنة الدستور,مثلا, أنهت عملها وأحالت مشروع الدستور للبرلمان قبل اجتياح الكويت بـ48 ساعة فقط!!.
وكانت النيّة متجهة, بعد ذلك, لعرض مشروع الدستور الدائم للاستفتاء الشعبي العام لإقراره. وحُدّدت الفترة الرئاسية بثماني سنوات ولمرتين فقط, لتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة, وإلغاء مجلس قيادة الثورة, ليحلّ محله(مجلس الشورى), ونقل البلاد من مرحلة(الشرعية الثورية)لمرحلة(الشرعية الدستورية), وتطبيع الأوضاع الداخلية, ومغادرة الفترة الاستثنائية, بعد ثلاثة عقود لم يذق فيها العراقيون طعم الراحة والاستقرار والهدوء, عدا السنوات الخمس الذهبية بين 1975-1980.
كانت رسائل السلام العراقية تترى؛داخليًّا وخارجيًّا. فقد تم الشروع بهيكلة الجيش, وإعادة العمالة المصرية لبلدها لغرض استيعاب الجنود المسرّحين في القطاع الخاص, وتحويل خطوط إنتاج بعض المصانع من الإنتاج الحربي للصناعات المدنية. وأعيد إعمار مدينة الفاو التي دمّرها الفرس المجوس خلال احتلالهم لها, وبزمن قياسي, مع مساهمة خليجية شحيحة, وتم إطلاق حملة كبرى لإعمار مدينة البصرة التي عانت ما عانت من أهوال الحرب, لإيصال رسالة للإيرانيين مؤدّاها؛إن صفحة الحرب معهم قد طُويت من جانبنا, وأن أيادينا ممدودة لهم بالسلام.
وخلال زيارة للرئيس صدّام حسين إلى أربيل عقد اجتماعًا مع المختصّين في السياحة تحت شلال(كلي علي بك), دعاهم فيها لتنشيط قطاع السياحة, الذي وصفه بأنه؛(نهر من ذهب). وفي زيارة أخرى للسليمانية, خاطب جلال الطالباني ودعاه للعودة إلى العراق وممارسة نشاطه السياسي بكل حرية, بعد أن استُثني من العفو العام الذي صدر في آب 1988. وكانت الرسالة لا تخلو من لفتة إنسانية وجانب شخصي وعاطفي, إذ قال؛(إن عشيرة البيجات لن تنسى أبدًا, موقف الطالبانية في مقتبل القرن العشرين عندما استجاروا بهم من ملاحقة الأتراك). وتم تبليغ السفارات العراقية في أوربا بتجديد جوازات سفر المعارضين العراقيين, والسماح لمن يريد منهم بالعودة إلى العراق وعدم ملاحقته, إن لم يكن متّهمًا بجرائم التخابر والعمل لصالح العدو.
وتم توقيع معاهدة عدم اعتداء مع السعودية خلال زيارة الملك فهد لبغداد في نيسان 1989, حيث نُظّم له استقبال رسمي وجماهيري كبير, ولكن السعوديين تنصّلوا عنها ولم يلتزموا ببنودها, عندما جعلوا من أراضيهم قاعدة للعدوان على العراق. وأعتقد إنهم الذين قصدهم الرئيس صدّام حسين بعبارته الشهيرة؛(غدرَ الغادرون)!!, في كلمته التي ألقاها فجر يوم 17-1-1991, والتي أعلن فيها ابتداء العدوان الثلاثيني. وكان(فهد)قد قطع على نفسه عهدًا بأن؛(أرض السعودية لن تكون منطلقًا للهجوم على العراق), وذلك أمام وفد من الحركة الإسلامية في العالم برئاسة حسن الترابي, والذي التقاه في الرياض بعد غزو الكويت بقليل, ويومها قال فهد للترابي؛(إن الغربيّين أتوا إلى المنطقة دون أن ندعوهم)!!.
وتم تأسيس مجلس التعاون العربي مع مصر والأردن واليمن الموحد في شباط 1989. وغدت بغداد مركز استقطاب وقبلة لزعماء عرب وأجانب, فلا يكاد يمرّ أسبوع دون أن يحطّ أحدهم رحله فيها. وبوشر بعمل حثيث لإعادة صياغة علاقات العراق الدولية للدخول في عقد التسعينات بكل تحدياته, وأخطرها ما كان يلوح في الأفق من إن الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي على وشك الأفول, وإن أمريكا ستتفرّد بقيادة العالم. وكانت هناك محاولة لتطوير علاقات العراق بالولايات المتحدة الأمريكية والتهيئة لزيارة تاريخية يقوم بها الرئيس صدّام حسين لواشنطن, وفق ما نشره الكاتب فؤاد مطر كموضوع غلاف في مجلته(التضامن)في أحد أعدادها في صيف عام 1989, كما أتذكر.
وكذلك تم مخاطبة الكويت للدخول في مفاوضات لترسيم الحدود وإغلاق هذا الملف المزمن, إذ اقترح الرئيس صدّام حسين على شيخ الكويت حسم هذا الموضوع, ولكن الأخير لم يعطِ إجابة واضحة وطلب تأجيله في الوقت الراهن!!. والغريب إن الكويتيين هم الذين كانوا يلحّون ويطلبون من العراق سابقًا حسم هذا الملف, خصوصًا خلال فترة الحرب مع إيران. وتبدو الانتهازية واضحة لديهم, فكانوا يريدون استغلال انشغال العراق بتلك الحرب وفرض شروطهم غير الواقعية. أما الآن وقد خرج العراق منتصرًا ومقتدرًا, فيحاولون التسويف والمماطلة وكسب الوقت, أملا في تغيير ما يقع في المستقبل, وكما كان ذلك يحصل في فترات تاريخية سابقة, حيث كان الوقت والحظ, قد خدمهم في مواطن كثيرة!!.
كل ذلك وغيره جرى في بحر السنتين أو أقل, قبل اجتياح الكويت. وكانت الدوائر المعادية في الغرب وإسرائيل يغيظها هذا النشاط الحثيث, وترصد وتراقب ذلك بدقة, وتخطط بخبث ودهاء لإشغال العراق وإدخاله في دهاليز مظلمة. وبدأت عصيّ التعطيل توضع في عجلة التقدّم العراقية قبل انطلاقها. وكانت عملية تحرير الفاو في غرّة شهر رمضان المبارك عام 1988, نقطة البداية في مسلسل التآمر على بلادنا الناهضة, والتي أثارت رعب الغرب والصهيونية العالمية من تلك العملية العسكرية الصاعقة والمباغتة؛ تخطيطًا وتنفيذا.
ثم أسفروا عن وجوههم القبيحة بعد النصر العظيم في 8-8-1988, وبدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها وأتباعها, بفرض عقوبات اقتصادية على العراق مع حملة إعلامية منسّقة ومركّزة والتخويف من(الخطر العراقي القادم)!!, ووصلت تلك الحملة لذروتها في الأشهر القليلة التي سبقت اجتياح الكويت. ففي هذه المنطقة لا يُسمح لبلد عربي بتجاوز الخطوط الحمر وبناء قوته العسكرية والاقتصادية واستقلاله السياسي, فيتم وأدها وهي في المهد, منذ(محمد علي باشا)وحتى يومنا هذا. فمنطقة الشرق الأوسط يجب أن تتقاسمها دولتان لا ثالث لهما, وهما؛إيران وإسرائيل!!.
ولم تكن الكويت, سوى(مخلب القطّ)في المؤامرة الكبرى, التي حيكت بخبث ودهاء, بخيوط وأصابع؛صليبية- صفوية- صهيونية, لتدمير العراق وسحقه وجعله عبرة للآخرين. وكان على القيادة العراقية أن تتنبّه للفخ المنصوب لها, وتكتفي بالتلويح بالقوة دون استخدامها فعليًّا, وممارسة ضغوط على حكام الكويت باستخدام ثقل العراق السياسي وعلاقاته العربية, وخصوصًا علاقته القوية مع السعودية, لانتزاع حقوقه من الكويت. ولكنها بدلًا من ذلك, ذهبت مباشرة للخيار الأخير, وهو الحرب, وهنا كانت الكارثة الكبرى, وتم ابتلاع الطعم!!.
المقال القادم سيكون عن الأسباب والدوافع التي حدَت بالرئيس صدّام حسين لتحريك جيشه واحتلال الكويت في 2-8- 1990. ومن هم الذين حرّضوه على هذا القرار الكارثي؟. وما هو الوصف الذي أطلقه الرئيس لاحقًا على العملية تلك؟!.
....................
https://www.algardenia.com/maqalat/59422-2023-07-13-15-32-16.html
الجزء الأول من هذه السلسلة..
1705 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع