بقلم الروائي طارق احمد السلطاني
قصة سفر ايوب الى محافظة البصرة في العراق
بعد انتهاء دورة معرض بغداد الدولي , ارسل ايوب احد مساعديه الى البصرة لتهيئة المتطلبات الضرورية في الكمارك والميناء لاعادة تصدير معروضات الجناح السوفيتي في المعرض وتحميلها مباشرة من الشاحنات الى ظهر الباخرة الروسية الراسيةعلى رصيف الميناء . لكن المساعد اتصل هاتفيا بايوب في بغداد وقال له :
ان قائد الباخرة ( القبطان ) قد رفض نقل الارسالية من ظهر الشاحنات الى الباخرة مباشرة , بحجة انه هو المسؤول الاول عن قيادة الباخرة . وانه المسؤول عن سلامتها وسلامة البحارة العاملين تحت قيادته . وليس من حق الأخرين اصدار الاوامر اليه او التدخل في شؤونه , كما ان الباخرة لم يتم تفريغ حمولتها من الاسمنت بصورة تامة .
مما اضطرني الى تفريغ الارسالية فوق ارض الساحة المكشوفة المقابلة لرصيف الميناء.
رد عليه ايوب قائلا :
حسنا فعلت . احجز لي غرفة بنفس الفندق الذي تنزل فيه . سوف اصل الى البصرة هذه الليلة !
وفي الساعة الثانية بعد منتصف الليل دخل ايوب غرفته في فندق البصرة الكبير وهو بحالة شديدة من التعب والنعاس , فأستسلم لنوم عميق مثل رجل اسلم الروح .
وفي صبيحة اليوم التالي قابل ايوب الشخص المندوب عن الباخرة بقسم الوكالات البحرية , واتفقا على الذهاب سوية الى الباخرة الروسية الراسية في الميناء , والتي يتواصل تفريغها من الاسمنت .
كان السيد فاضل مندوب الباخرة يتحدث اللغة الروسية بطلاقة , وفي الساعة العاشرة صباحا اجتازا السقالة التي تربط رصيف الميناء بباب الباخرة .
لسنا هنا في مجال الاسهاب في وصف ما ينتاب المرء من احاسيس يشعر بها وهو يصعد الى سفينة ضخمة للمرة الاولى ؟! خاصة وانه يضع قدمه فوق ارض اجنبية! لان السفينة وان كانت راسية – بصورة مؤقتة – داخل المياه الاقليمية لبلد ذلك المواطن . لان اية باخرة اجنبية الجنسية ترفع علم موطنها الاصلي . اشبه بسفارة دبلوماسية لذلك البلد , حتى يتمكن الاخرون من تمييزها والتعرف عليها وحمايتها ومنحها الحصانة القانونية وفقا للاتفاقيات الدولية لقانون البحار .
بكل حيطة وحذر صعدا سلما حلزونيا نحو الطابق الثالث من الباخرة . استقبلهما قائد الباخرة ( القبطان ) بكل ترحاب واحترام . تم احتساء القهوة في غرفة امين حسابات الباخرة التي قدمتها اليهم فتاة شابه روسية , يتبين ان طاقم الباخرة جميعهم من الروس . اثناء الجلسة استلم القبطان كافة القوائم التجارية والتفصيلية لارسالية المعروضات المعاد تصديرها الى الاتحاد السوفيتي مع كافة الموافقات الرسمية والمستندات الخاصة بالنقل التي توقع وتختم من قبل القبطان حال تحميل البضاعة داخل الباخرة , لان هذا التوقيع يعتبر تأييداً نهائياً بالاستلام .
كان السيد فاضل يتحدث مع القبطان باللغة الروسية وبطلاقة, نقل عن لسانه قائلا :
سيد ايوب . ان القبطان قد استلم يوم امس برقية من المقر الرئيسي للمؤسسة البحرية في موسكو , تطلب منه الاهتمام باستلام هذه الارسالية . وان مجيئكما اليوم شيء بالغ الروعة, وقد دعانا للبقاء في ضيافته طوال هذا اليوم .
اخذ القبطان يشرح لهما عن بعض الهدايا واللوحات المعروضة في جناح خاص بالباخرة والتي قدمت اليه من قبل الملوك ورؤساء الدول ومن العديد من الجهات الرسمية والشعبية طيلة فترة عمله في ركوب البحر لنقل البضائع الى العديد من موانىء دول العالم .
عند انتصاف النهار دعاهما الى تناول طعام الغداء . كانت المائدة مملوءة بالصحون, نثر فوقها قطع صغيرة من الصمون مدهونة بالزبد , نشر فوقها الكافيار الاسود والاصفر والسمك والجبن , مع سلال ملئت بالحلوى والفواكه المجففة يتوسط المائدة قناني الفودكا البيضاء والصفراء والشمبانيا والمياه المعدنية مع كؤوس صغيرة مخصصة لشرب الفودكا واقداح من الكريستال ودورق من الماء والثلج . من العادات الروسية اثناء الشرب هي رفع الكأس في نخب احد الجالسين حول المائدة, وكانوا يستسيغون شرب الفودكا , واصل الجميع رفع كؤوسهم بالعديد من الانخاب , ويقرعون الكؤوس عاليا في الهواء من حين لاخر .
اما الفتاة الروسية الشابه اوفاروفا فقد كانت تقف لمراقبة المائدة عن كثب , كانت تتحدث اللغة الانكليزية الى جانب لغتها الروسية , تعمل بكل همة ونشاط , وتسرع في استبدال الصحون الفارغة وجلب صحون جديدة مملوءة بقطع لحوم السمك البحري المقلي .
ظل ايوب ينظر اليها تارة , وتارة اخرى ينظر من خلال نوافذ الغرفة الى مياه الخليج . انشرح قلبه واسعاً وهو يتطلع الى حركة الامواج المنعشة , رفع رأسه وتحدث باللغة الانكليزية قائلا :
لنشرب نخب الشابة الروسية اوفاروفا , ونخب عينيها الزرقاوين الجميلتين اللتين اخذتا زرقتهما من البحر .
تقدمت الفتاة اوفاروفا ورمت خصلات شعرها الذهبي المتناثرة خلف رأسها بغنج ودلال , بعد ان تحركت مشاعرها الانثوية لتواجه ايوب قائلة :
ما احلى شعورك الطيب , ما احلى وقع كلامك على قلبي ! اشكرك ... وقبل ان تكمل كلامها انتصب ايوب واقفا , جذبها من خصرها وامطر خديها المتوردين بوابل من القبلات الحارة ! ارتعدت من المفاجأة , اغمضت عينيها , مستسلمة أثر هذه القبلات الساحرة والقاهرة !!
ومن خلال السنوات الطويلة الماضية التي عمل فيها ايوب مع السادة السوفييت عرف الكثير عن عاداتهم وتقاليدهم واكلهم وشربهم , وان حالة تبادل القبلات الحارة محببة الى قلوبهم , وهي حالة طبيعية وعادية في كافة المناسبات , خاصة اثناء التعارف او اثناء اللقاء والوداع !!
حين دبت الفودكا في القلوب والرؤوس , اخذ القبطان يتحدث عن نفسه , وكيف كان يحب ركوب البحر منذ طفولته , فقد ولد وترعرع بقرية قبالة بحر قزوين . اتم دراسته الاولية والاكاديمية البحرية بجدارة . وقد مضت سنوات عديدة على تبوئه منصب القيادة , كما انه لم يكن قد اعتاد في الواقع القيام بأي اجراء احمق او لا مسؤول , بل دأب على قيادة سفينته وادارة شؤونها من غير ان يتسبب في اقلاق احد . وان الطقس معتدل جدا في هذه الرحلة الى ميناء البصرة .
وفي هذه الاثناء حضر احد كبار مساعدي القبطان . استأذن وقال :
لقد تم تفريغ كافة عنابر الباخرة من الاسمنت . رد عليه القبطان قائلا :
اجمع البحارة تمهيدا لعمليات تنظيف وغسل الباخرة . اتصل بمنصة غسل البواخر في الميناء لحجز موعد قريب لغسل الباخرة .
ثم توجه الى السيد فاضل قائلا : ارجو ان تترجم الى العربية وتبلغ السيد ايوب من اني قد اطلعت على البضاعة التي خزنت على ارض الساحة المكشوفة بالقرب من رصيف الميناء . ارجو ان يهيأ غدا رافعتين شوكيتين لانزالها الى قعر الباخرة حتى يمكن توظيب الصناديق في العنابر بصورة متوازنة . وارجو حضوره بعد يومين لاستلام الوثائق التي تؤيد استلام البضاعة على ظهر الباخرة , حتى يمكنه الحصول على مستند الشحن الاصلي ( الستمي ) .
حال انتهاء القبطان من حديثه تحدث ايوب الى السيد فاضل وقال :
اننا قد قمنا بالفعل . لفترة طويلة للغاية . بتعطيل القبطان عن اداء واجباته الرسمية التي لابد من القيام بها الان , بعد الانتهاء من تفريغ حمولة الباخرة . وقد حان الوقت الذي يجب علينا فيه ان نسرع بمغادرة السفينة . ارجو ان تبلغ القبطان على قبول هدية مني , من اجل ان تبقى بيننا , على الاغلب , كذكرى ودية بمناسبة تعارفنا .
فتح ايوب حقيبة اوراقه واخرج منها علبة صغيرة وبعد رفع غطائها , قدمها الى القبطان , وكانت العلبة تحتوي على قلمين مطليين بالذهب الخالص احدهما يعمل بالحبر السائل والاخر بالحبر الجاف , وقد غلف باطن العلبة من الداخل بقماش القديفة الحمراء . وهكذا قدر للقبطان ان يتلقى هدية ايوب , وتقبلها , وشكره على مشاعره . ويبدو ان الفودكا قد صعدت الى رأس ايوب بشدة , فكرر كلامه الى القبطان قائلا :
لست بحاجة الى توضيح مدى السرور والشرف , الذي حظيت به , بتعرفي بك واود فقط ان تتقبل وتحتفظ بهذه الهدية المتواضعة .
رد عليه القبطان قائلا :
الآن تقبل تحياتي الحارة على كرمك . الى اللقاء . صافح الثلاثة بعضهم بعضا .
* * *
بعد مرور يومين سمح لايوب بالدخول بسيارة الصالون الخاصة التي جلبها معه من بغداد . لان المسافة بعيدة جدا من الباب الرئيسية للميناء الى الرصيف الذي ترسو قبالته الباخرة الروسية .
كاد ايوب ان يطير من الفرح , حين وقف وسط الساحة المكشوفة , كانت الساحة خالية من الصناديق والحاويات والمعدات الاخرى تماما , عرف من ذلك ان الارسالية قد حملت على ظهر الباخرة .
لكن هذه الفرحة لن تدوم طويلا ! فقد اخبره القبطان عن وجود نقص في الارسالية , والنقص ليس كبيرا , انه صندوق واحد فقط .
استغرب ايوب من هذا الامر! لان الشاحنات حملت وختمت بالأختام الكمركية بحضوره في المعرض ببغداد .
ثم نقلت الى الميناء تحت حراسة الشرطة الكمركية , وليس من المعقول حدوث سرقة او فقدان أي صندوق اثناء الطريق . بعد تدقيق القوائم التفصيلية ومطابقتها مع القائمة التي سلمها الى القبطان والتي اشر عليها الصناديق التي نقلت الى ظهر الباخرة اكتشف ان الصندوق المفقود يحتوي على موديل لشخص السيد كاكارين وهو اول رائد فضاء في العالم, وكان هذا الموديل قد عرض في اعلى سقف الجناح السوفيتي بمعرض بغداد الدولي في تلك السنة , فقد عرض وهو يمشي في الفضاء وبتصميم جميل ثبت في أعلى سقف الجناح . نزل من الباخرة للبحث عن الصندوق المفقود بنفسه, وفي كل ساحات الميناء المترامية الأطراف , ان حدس عينه الثالثة تؤكد ان هذا الصندوق لا زال موجودا داخل الميناء ؟!
فلا يمكن اخراجه عبر اسوار الميناء لوجود حراسة واجراءات متواصلة ليلا ونهارا للمحافظة على البضائع , ان الصندوق لم يسرق ليهرب الى خارج البلاد لعدم وجود بواخر اخرى في هذا الرصيف , سوى الباخرة الروسية وحدها, بعد مرور ساعة من البحث الدقيق عثر على الصندوق مخزونا تحت ظلال سقيفة تبعد كثيرا عن الساحة المكشوفة التي تم فيها تفريع الأرسالية .
حلل قضية نقل الصندوق الى هذه السقيفة لم يكن بقصد السرقة ! وأنما هو عمل انساني بحت ! لان تصميم هذا الصندوق يشبه نعش نقل الموتى تماما ! أي انه يشبه الصناديق التي يتم فيها نقل الموتى الى المقابر في العراق , حيث صمم عريضا من مقدمة الرأس والأكتاف , وصغيرا عند القدمين حتى ان غطاء الصنـدوق قد صمــم على شكل مثلث متساوي الضلعيـن , ومن المؤكد ان الشخص / والأشخاص الذين نقلوا هذا الصندوق من الساحة المكشوفة الى السقيفة قد اعتقدوا ان الصندوق يحتوي عل رفاة انسان ميت ! يطلق على صندوق نقل الموتى في العراق اسم ((التابوت)) واحتراما لقدسية الموت قاموا بنقله لوقايته من حرارة الشمس الحارقة , دون ان يعلموا ان هذا الصندوق يحتوي على موديل للسيد كاكارين أول رائد فضاء في العالم , واحد الابطال القوميين في الاتحاد السوفيتي , الحقيقة انه يبدو كأنسان حقيقي وهو يرتدي ملابس الفضاء البيضاء التي كان يرتديها يوم 12 نيسان (ابريل) 1961 يوم طيرانه الى الفضاء الخارجي لاول مرة في تاريخ الانسانية !
* * *
حال استلام ايوب مستند الشحن البحري (الستمي ) من قسم الوكالات البحرية. توجه نحو فرع الشركة في البصرة , لاجراء مكالمة هاتفية مع مقر الشركة ببغداد . بعد الانتهاء من المكالمة اخبره مدير فرع الشركة في البصرة عن وجود عرض مغرٍ لنقل بضاعة من ميناء ام قصر الى ميناء بايروس في اليونان , وان دفع اجور النقل على حساب المجهز الاجنبي لان هذه الارسالية وردت الى العراق بطريق الخطأ .
رد عليه ايوب بقوله :
- دعني استريح قليلا . ثم اذهب الى ميناء ام قصر لمشاهدة الارسالية على الطبيعة, وارجو ان تزودني بتفاصيل كاملة عن البضاعة كعدد القطع والوزن والحجم , سوف ادرس هذا العرض دراسة وافية حال وصولي الى بغداد .
894 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع