بقلم أحمد فخري
قصة قصيرة - جريمة في شارع ٥٢ / الجزء الثاني
من لم يتسنى له الاطلاع على الجزء الاول فبامكانه مراجعته من خلال هذا الرابط:
https://algardenia.com/maqalat/59294-2023-07-03-11-54-41.html
بعد مرور يومين تسلم المحقق ماهر ظرفاً ابيضاً رسمياً عليه رمز وزارة الداخلية يحتوي على صورتان، اخرجهما وتمعن فيهما جيداً فتعرف على شكل المكبس ومواصفاته وصورة للمجرم الهارب من البصرة.
دخل المحقق ماهر غرفة الدعم وتحدث مع رئيس عرفاء محسن ثم طلب منه ان يستنسخ تلك الصور 100 مرة لكل واحدة منها. فوعده ان يحضرها له خلال نصف ساعة. وعندما ادخلها الى مكتبه قال له،
المحقق ماهر : اريدك يا محسن ان توزع هذه الصور على جميع المفارز التي على مداخل مدينة بغداد وبالاخص المدخل الجنوبي من منطقة البياع. اريد ان تخبر جميع الدوريات كي يبلغونا على الفور إن كانوا قد شاهدوا عربة حمل او شاحنة صغيرة او متوسطة الحجم تحمل آلة مثل التي بالصورة او الرجل كذلك.
محسن: اي رجل سيدي؟
المحقق ماهر : ابي المرحوم محمد. يعني من سيكون يا محسن؟ شغل مخك معي، انه المدعو خليل ابراهيم حبيب الذي بالصورة.
محسن : حاضر سيدي.
بعد اسبوع من ذلك التاريخ جلس المحقق ماهر في مكتبه يقلب افكاره بتلك القضية فاستنتج ان مربياً فاضلاً مثل داود لا يمكن ان يقترف مثل هذه الجريمة البشعة باي حال من الاحوال وان احتمالية قيام احد افراد عصابة الحرباء الهارب من السجن، على الارجح يكون من فعلها لانها تتطلب امكانيات خاصة لطباعة لوحات السيارات. خصوصاً وان في العراق لا تملك اي جهة معينة الحق لمزاولة تلك الطباعة سوى مديرية شرطة المرور. وبينما هو يقلب اوراق الملف، رن هاتفه فرفع السماعة ليسمع صوتاً يقول،
العنصر : سيدي انا جبار من قسم العمليات بالطابق العلوي، مرور.
ماهر : اهلاً جبار ماذا لديك؟
العنصر : سيدي اتصلت بنا قبل قليل عن طريق اللاسلكي مفرزة مرور من الوحدة (46) لتخبرنا بان احد عناصرها ويدعى العريف محمود كان قد شاهد الصور التي عممتموها وقد تعرف عليها جيداً.
ماهر : انا آتي اليك فوراً لكي اتحدث معه.
صعد ماهر الى الطابق العلوي ودخل غرفة العمليات فانتصب جبار من مجلسه وسلمه المكرفون. ضغط ماهر على الزر الاحمر وقال،
ماهر : دورية 46 من القيادة.
عنصر : قيادة، دورية 46 معك سيدي.
ماهر : اريد التحدث الى العريف محمود.
محمود : انا العريف محمود سيدي.
ماهر : هل شاهدت الجهاز الذي بالصورة؟
محمود : اجل سيدي كان ذلك قبل شهرين تقريباً إذ كان محملاً على (بيكم) ابيض من نوع ايسوزو. وعندما سألت السائق عنه قال انه مضخة ماء يستعملها للزراعة.
ماهر : وما هي اوصاف السائق؟
محمود : انه (املح) اقصد اسمر داكن سيدي ويشبه اغلب البصاروة.
ماهر : هل رأيت صورته التي وصلتك؟
محمود : اجل سيدي. لكني لا يمكن ان احلف بالعباس انه نفس الشخص لان اصحاب البشرة الداكنة لا اقوى على التمييز بينهم.
ماهر : حسناً يا ابني. شكراً لك. لقد أبليت بلاءاً حسناً.
محمود : بالخدمة سيدي.
خرج المحقق من غرفة العمليات وهو يبتسم ويتحدث الى نفسه فصار كل من يجابهه بالممرات يبتسم لانهم يعرفون انها من علامة النصر لديه. دخل مكتبه وتوجه نحو الهاتف ليتصل باللواء فاضل مدير شرطة مرور بغداد. رفع السماعة وقال له،
ماهر : صباح الخير سيدي.
اللواء فاضل : صباح الخير ماهر، كيف حالك؟
ماهر : باحسن حال شكراً. سيدي لدي طلب مهم جداً وعاجل جداً عندك.
اللواء فاضل : تفضل ابني ماهر، ما هو؟
ماهر : لقد قام احد المجرمين الفارين من سجن البصرة بدخول بغداد من مدخل البياع وقد تعرف افراد الدورية عليه وعلى حمولته الممنوعة وهي آلة لطبع ارقام السيارات محمولة بشاحنة صغيرة. اريد منك المساعدة بالقبض عليه.
اللواء فاضل : هل لديك رقم الشاحنة؟
ماهر : كلا سيدي ولكن لدينا اوصافها.
اللواء فاضل : حسناً. اعطني جميع البيانات وسوف البي طلبك على الفور.
بدأ المحقق ماهر باملاء جميع المعلومات على اللواء فاضل ثم قام بارسال الصور التي بحوزته بيد احد عناصر الشرطة الى مكتب اللواء.
وبنفس اليوم وبعد مرور ساعتين اتصل اللواء فاضل بماهر هاتفياً وقال،
اللواء فاضل : يبدو ان الحظ يحالفك ايها العقيد.
ماهر : هل عثرتم على المجرم؟
اللواء فاضل : كلا، لكننا عثرنا على الشاحنة التي كان ينقل بها آلة الطبع. الا انه قام بحرق الشاحنة ومسح جميع معالمها.
ماهر : الم تتمكنوا من الحصول على اي بصمات؟
اللواء فاضل : الحظ حالفنا هذه المرة ايضاً لاننا رفعنا بصمات من على مقود الشاحنة (الستيرن) الذي لم تصله النيران. وقد ارسلناها اليك بالبريد الداخلي. سوف تصلك عن قريب.
وبهذه الاثناء دخل عليه عنصر يحمل ظرفاً فوضع السماعة ليفتحه ويرى فيه بصمة الاصابع. التقط سماعة الهاتف وقال،
ماهر : سيدي لقد وصلت نسخة من البصمات الآن شكراً جزيلاً.
فوراً ارسل ماهر البصمات الى قسم الارشيف بغرض المقارنة ليخبروه بانها تعود للمجرم الهارب من سجن البصرة. وقتها تأكد ان الجاني الحقيقي الذي اقترف الجريمة هو خليل ابراهيم حبيب لذلك قام بطلب استنساخ المزيد من صوره وتوزيعها على جميع دوريات شرطة النجدة وشرطة المرور بداخل بغداد وخارجها. بعدها ذهب الى مديرية الطب الجنائي وتحدث مع الدكتور احمد عبد سلام، الطبيب الذي شرّح جثة المجني عليها فاطمة سعيد الهلالي ليسأله،
ماهر : كيف قمت بتشريح جثة المجني عليها؟
الدكتور احمد : لماذا سيدي؟ هل تعتقد انني قصرت بعملي؟
ماهر : لا، العفو لم اقصد ذلك ولكن لدي سبب بالسؤال.
الدكتور احمد : فتحت الجمجمة واخرجت الرصاصة التي استقرت بالجزء الخلفي من الدماغ.
ماهر : وهل فحصت الجلد على اصابعها مثلاً لوجود آثار بارود؟
الدكتور احمد : مع احترامي لك سيدي العقيد ماهر، في العادة نحن نعمل ذلك الفحص على الجاني وليس على المجني عليه.
ماهر : لكن لدي نظرية ربما اكون صائباً فيها. فانا اعتقد ان المجني عليها قامت باطلاق النار على الجاني اولاً فاخطأت التصويب لتستقر الرصاصة على الحائط وهذا ما دفع الجاني الى ان يطلق النار من مسدسه عليها ليرديها قتيلة.
الدكتور احمد : حسناً الجثة لا تزال عندي في الثلاجة. بامكاني فحص اصابعها الآن.
نظر الى ملف المجني عليها ثم سحب جراراً ليخرج الجثة وصار يضع بعض المواد الكيماوية على اصابع يدها اليمنى فهز رأسه بالنفي دلالة على انه لم يعثر على شيء فقال له ماهر،
ماهر : افحص اليد اليسرى فقد تكون عسراء.
الدكتور احمد : حسناً.
ولما فحص اصابع اليد اليسرى صاح باعلى صوته،
الدكتور احمد : يـــــــــــــا سلام، والله انت عبقري يا سيادة العقيد. نعم هناك اثر بارود حول يدها اليسرى. احترامي لمعلوماتك سيدي.
ماهر : لا تقل ذلك. لقد كانت مجرد ضربة حظ. والآن خذ هذه الرصاصة التي اخرجتها من حائط بمسرح الجريمة ودع قسم المقذوفات يطابقونها مع الرصاصة التي اخرجتها من جمجمة المجني عليها ومع المسدس الذي في ارشيف الادلة.
الدكتور احمد : سافعل ذلك وساضيف ما توصلنا اليه اليوم على التقرير وارفق به تعديلاً فارسله اليكم من جديد.
ماهر : شكراً لك يا دكتور. نهارك سعيد.
خرج المحقق ماهر وهو في غاية السعادة فقد بدأ يكوّن سيناريو جديد لمسرح الجريمة. رجع الى مكتبه وجلس خلف منضدته وراح يدون مجريات ذلك اليوم. وفي صباح اليوم التالي تلقى تقرير المختبر الجنائي بكل التعديلات الجديدة ومن ضمنها الرصاصة التي عثر عليها بثقبٍ في الحائط ببيت المجني عليها فبالرغم من انها كانت من نفس العيار اي 38 ملم لكنها لم تطلق من نفس المسدس الذي عثر عليه ببيت داود لتوضع تحت مخدته.
<<<<<<<<<<
بعد مرور شهرين تلقى ماهر مكالمة من اللواء فاضل مدير شرطة مرور بغداد يخبره فيها بان احدى الدوريات القت القبض على المشتبه به المدعو خليل ابراهيم حبيب وهو قيد التوقيف بمركز الشواكة. ركب ماهر سيارته وتوجه على عجالة الى مركز الشواكة. دخل المركز فاستقبله اللواء فاضل واصطحبه الى مكتبه ثم طلب من احد عناصره ان يحضر خليل ابراهيم حبيب ففعل. وقف المتهم امامهم مكبلاً بالاصفاد فقال له ماهر.
ماهر : اسمك الكامل؟ عمرك، المهنة والحالة الاجتماعية؟
خليل ابراهيم حبيب : اسمي خليل ابراهيم حبيب عمري تقريباً 45 سنة عاطل عن العمل متزوج بثلاث نساء ولدي 11 طفلاً.
ماهر : عامل فريق كرة قدم حضرتك. اريدك ان تحدثني عن كل شيء.
خليل ابراهيم حبيب : اقسم لك بعلي انني لم اقترف اي ذنب سيدي.
ماهر : لا تقسم لي ولا اقسم لك. انا اعرف كل شيء عنك لكنك إن اعترفت بذنبك الآن فسوف نخفف عنك الحكم.
خليل ابراهيم حبيب : وكيف اعترف بشيئ انا لم اقترفه؟ فالكذب حرام.
ماهر : يبدو انك تعرف الفرق ما بين الحرام والحلال.
اخرج صورة لخليل من الملف ووضعها امامه ليسأله،
ماهر : اليست هذه صورتك؟
هنا بدا على خليل الارتباك وصار يتصبب عرقاً وراح يمتمت ويقول كلام غير مفهوم،
خليل ابراهيم حبيب : انا... اقصد ربما... اقصد لا اعلم... كلا... اقصد بلى.
ماهر : اسمع خليل، نحن نعرف انك هارب من سجن من البصرة وانك كنت تنتمي الى عصابة تسرق السيارات وتطبع ارقام جديدة لها ثم تقوم بالسطو على عدة منشآت.
خليل ابراهيم حبيب : هذا كان في الماضي سيدي. الآن انا اعلنت توبتي امام الله.
ماهر : مبروك على التوبة، ونحن نعلم ايضاً انك جلبت معك آلة الطبع الثانية من البصرة وقمت بعملية سطو على بيت سيدة تدعى فاطمة سعيد الهلالي وقمت بقتلها مع سبق الاصرار والترصد وسرقت مالها ومجوهراتها.
خليل ابراهيم حبيب : سيدي انت تعرف كل شيء لكنك غلطان بحاجة واحد فقط. انا لم اكن انوي قتل احد. دخلت بيتها بعد ان راقبتها ليومين كاملين حتى تأكدت من انها غادرت بيتها بسيارتها الفارهة فاوقفت السيارة امام بيتها ودخلت لاسرق. لكنها فجأة رجعت لبيتها بعد فترة قصيرة وداهمتني اثناء العملية ثم سحبت مسدساً من حقيبتها واطلقت علي النار فاخطأت الهدف ولم تصبني فاضطررت لقتلها. لذلك فهي عملية دفاع عن النفس، اليس كذلك؟
ماهر : اعرف كل ذلك يا خليل. ولكن قل لي، كيف اخترت سيارة الفوكسواگن (الرگة)؟
خليل ابراهيم حبيب : بالبداية ذهبت الى بيت فاطمة بعد ان شاهدتها بالعرصات وهي تتسوق وتشتري تحفيات واغراض ثمينة من هناك فتتبعتها بسيارة اجرة الى بيتها. تمشيت بعدها قليلاً بالمنطقة لابحث عن سيارة اقوم بعملية التمويه من خلالها. وعندما وجدت سيارة واقفة امام احدى العمارات القريبة، قمت بتسجيل رقمها ثم رجعت وصرت ابحث عن سيارة تشبهها. بعد ذلك وجدت سيارة تكاد تكون اختها واقفة جنب الجندي المجهول. سرقتها ورجعت بها الى مكاني وقمت بطبع رقم السيارة الثانية ثم ثبته على السيارة المسروقة. رجعت بعدها واوقفتها امام بيت القتيلة جميلة...
قاطعه ماهر وقال،
ماهر : المجني عليها تدعى فاطمة.
خليل ابراهيم حبيب : اجل فاطمة. انتظرتها حتى خرجت من الدار فدخلت بيتها. صرت ابحث عن الرزق حتى وجدته في دولاب خشبي بغرفة نومها. وبينما انا اجمع الرزق واضعه في حقيبتي دخلت علي العجوز العاهر حاملة مسدساً، وجهته نحوي واطلقت منه رصاصة فلم تصبني (الله ستر سيدي) فاخرجت مسدسي من جيبي الذي جئت به من البصرة واطلقت عليها رصاصة واحدة فقط جائت بوسط جبينها لانني هداف ماهر مثل اسمك سيدي هههههه. فسقطت على الارض.
ماهر : ماذا فعلت بعد ذلك؟
خليل ابراهيم حبيب : هنا استعملت ذكائي سيدي. قررت ان انظف مسدسي الذي قتلت به جميلة من البصمات...
قاطعه ماهر وقال،
ماهر : اسمها فاطمة يا حمار.
خليل ابراهيم حبيب : اجل فاطمة. فاخذت مسدسها لاستعمالي الشخصي ثم اخذت مسدسي ورجعت به الى بيت الشخص الذي يسكن بالعمارة، صاحب السيارة الفوكسواگن فدخلت من شباك مطبخه لاضع المسدس تحت مخدته بعد ان مسحت جميع بصماتي عنه.
ماهر : وكيف عرفت باي شقة يسكن؟
خليل ابراهيم حبيب : شاهدت اطفالاً يلعبون (الدعبل) خارج العمارة، سألتهم عن صاحب السيارة فادلوني على شقته.
ماهر : واين وضعت المسدس الذي اخذته من المجني عليها؟
خليل ابراهيم حبيب : احتفظت به لمدة قصيرة من الزمن لكني خفت ان يكون سبباً في اعدامي لذلك قررت ان اتخلص منه لذلك رميته بالشط.
نظر المحقق ماهر الى الشرطي الذي يكتب المحضر وسأله،
ماهر : هل دونت كل شيء يا ابني؟
الشرطي : اجل سيدي.
ماهر : تعال يا خليل وقع على اعترافاتك هنا.
وقع على اعترافاته وبعدها خرج ماهر مع المتهم وقوة صغيرة الى الجسر الذي رمى منه المسدس كي يحدد موقعه ولما حدد لهم الموقع بشكل تقريبي امر المحقق بارسال الضفادع البشرية كي تحاول العثور على المسدس رجع بعدها مع المتهم الى المركز. امر المحقق ماهر بايداعه الزنزانة مع تشديد الحراسة عليه واحضار داود سلمان عبد المجيد.
خرج الشرطي بالمتهم من مكتب المحقق ماهر مكبلاً بالاصفاد واغلق الباب ورائه. بعد قليل عاد الى مكتب المحقق متأبطاً داود ليدخله المكتب. نظر اليه المحقق ماهر وابتسم بوجهه ثم امر الشرطي كي يفك عنه الاصفاد ففعل. قال،
المحقق ماهر : اجلس يا استاذ داود لو سمحت.
داود : مادام ناديتني باستاذ داود فهذا يبشر بخير. انه يدل على انك مقتنع من برائتي.
المحقق ماهر : اجل امسكنا بالفاعل الحقيقي وقد اعترف بكل شيء ووقع على اعترافاته. والآن جاري البحث عن سلاح آخر كانت تستعمله المجني عليها في الدفاع عن نفسها. وحتى لو لم نعثر على ذلك المسدس في النهر فاننا حصلنا على اعترافات الجاني وهذا كافٍ لتبرئتك.
داود : حمداً وشكراً لك يا رب. وشكراً لك يا عقيد ماهر على جهودك في اظهار الحق.
المحقق ماهر : اريد ان اقدم لك اعتذارنا عن احتجازك كل هذ المدة مع انك كنت بريئاً.
داود : انت كنت تؤدي واجبك يا حضرة الضابط. وانا اقدر ذلك. اشكرك شكراً جزيلاً. هل بامكاني العودة الى بيتي الآن؟
المحقق ماهر : اجل بالتأكيد. ستوصلك سيارة شرطة الى منزلك. فهذا اقل ما يمكننا تقديمه اليك.
داود : ولكني اريد ان اذهب الى المشفى اولاً لاطمئن على حالة الشاب الذي دهسته الشاحنة.
المحقق ماهر : إذاً، ستوصلك السيارة الى المشفى.
داود : شكراً جزيلاً لك سيدي.
وصل داود المشفى فاخبره السائق بانه سينتظر بالمراب في الخارج حتى يكمل زيارته. الا ان داود رفض ذلك وطلب منه العودة الى المركز بعد ان شكره كثيراً. دخل داود وسأل موظفة الاستعلامات عن المريض الذي اصيب بحادث السير فادلته الى الغرفة رقم 114. طرق الباب فاذن له فدخل ليجد الشاب واقفاً الى جانب رجل يرتدي بزة شرطة برتبة رفيعة ومعه سيدة مسنة تمسك بيد الشاب اليمنى. حياهم جميعاً وقال،
داود : السلام عليكم.
اللواء فاضل : وعليك السلام يا ولدي، من انت؟ وماذا تريد؟
داود : انا اسمي داود، انا الذي جئت بهذا الشاب الى المشفى بسيارتي بعد ان تعرض لحادث الاصطدام.
اللواء فاضل : وانا والد هذا الشاب الوسيم الذي اسمه قيس وهذه والدته. انا اسمي اللواء فاضل مدير شرطة مرور بغداد.
داود : تشرفت بمعرفتكم سيدي.
اللواء فاضل : بل نحن نتشرف بانسان رائع شريف مثلك قام بمساعدة ولدنا قيس دون ان يعرف عنه حتى اسمه. نحن مدانون لك بالكثير يا ولدي.
السيدة : انك انقذت حياة ابني الوحيد قيس وسوف لن أنسى لك صنيعك ابداً يا ولدي.
داود : انا سعيد لانه يتعافى وعلى ما يبدو انكم جاهزون لاخذه للبيت.
اللواء فاضل : اجل اخبرنا الطبيب اليوم انه على احسن حال وبامكاننا اخذه معنا. نحن ننتظر من المشفى كي ينهوا الاجرائات.
داود : طيب هذا شيء مطمئن جداً. ساترككم الآن، وداعاً.
اللواء فاضل : لحظة، لحظة، اي وداع هذا؟ هل تعتقد اننا سنتركك بهذه السهولة؟ بل انت ستأتي معنا الى البيت.
داود : انا اعتذر منك سيدي ولكني خرجت للتو من التوقيف. فقد اشتبهوا بي بجريمة لم ارتكبها ومكثت هناك طويلاً. لذا ساذهب الى شقتي اولاً ثم اقوم بزيارتكم بفرصة ثانية.
اللواء فاضل : إذاً سيوصلك سائقي الى شقتك وسوف تشرفنا ببيتنا على العشاء اليوم. هذا هو العنوان.
داود : انا موافق سيدي وسيشرفني ان ألبي دعوتكم.
ام قيس : شكراً لك يا ابني ونحن بانتظارك.
هنا قال الشاب،
قيس : شكراً لك يا عمي لانك انقذت حياتي.
داود : حمداً لله على سلامتك يا ابني قيس.
خرج داود من غرفة قيس ومعه اللواء فاضل الذي اصطحبه حتى الباب الخارجي للمشفى فنادى على سائقه وطلب منه ايصال داود الى شقته والعودة الى المشفى كي يرجعه هو وعائلته الى البيت.
رجع داود الى شقته واصيب براحة نفسية كبيرة فور دخوله من باب الشقة. نظر الى الآيات القرآنية على جانبي الممر وشكر الله على برائته ثم دخل الصالة فجابهته صورة زوجته. وقف امامها قليلاً ثم ذرف دمعة مقتضبة وغير اتجاهه وسار نحو غرفة النوم. تخلص من جميع ملابسه وسار عارياً الى الحمام ليأخذ دوشاً يغسل به جميع آلامه وهو يفكر كيف نجّاه الله بان ارسل اليه محققاً ذكياً مثل ماهر الغول بحيث عمل كل ما بوسعه ليظهر الحق ويخرجه من التوقيف. جفف نفسه جيداً ثم رجع الى غرفة النوم ونام نوماً عميقاً. واثناء النوم رأى نفسه يسير بنفس الحديقة الغناء التي تطغي عليها الوان الازهار الوردية الجميلة، لقد تكرر الحلم الذي رآه في السابق. سار يتتبع صوت خرير الماء حتى وصل الى البركة التي يصب فيها الشلال. وقف امامها فخرجت له سمكة القرش وكان الغضب بادياً عليها. سألها،
داود : لماذا انتِ غاضبة الآن؟
سمكة قرش : الم اخبرك بان اخاك بخطر كبير وعليك مساعدته؟
داود : اجل لكن ليس لي اخ يا سيدتي؟
سمكة قرش : بل لديك يا داود. لديك اخ وهو بحاجة اليك.
داود : الا ذكرتِ لي اسمه؟
لكنها لم تجبه بل غطست بالماء من جديد وبقي داود حيراناً لا يعرف اسم الاخ الذي حدثته عنه. استيقض من نومه وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم وفكر بذلك الحلم الغريب الذي تكرر معه. "من هو الشخص الذي عليّ مساعدته؟ هل تقصد الشاب قيس؟ لكن قيس تعافى اجب تعافى وخرج اليوم من المشفى الى منزله فمن تقصد؟. حتماً انها اضغاث احلام"
نهظ من فراشه وراح يستعد ليخرج ثانية ويلبي دعوة اللواء فاضل ببيته. وعندما انتهى من حلاقة ذقنه، ارتدى افضل ما لديه من ملابس، نزل الى الطابق الارضي ليستقل سيارته الفوكسواگن وادار المفتاح فهبت للعمل كما كانت دائماً تخدمه بكل نشاط. انها لم تخذله ولا مرة واحدة بحياته فهو يحبها كثيراً. قادها بشوارع بغداد اثناء فترة المغرب حتى وصل الى منزل اللواء فاضل. طرق الباب فخرج له اللواء ورحب به ترحيباً كبيراً وعاتبه إذ قال،
اللواء فاضل : لماذا تأخرت يا استاذ داود؟
داود : والله يا سيادة اللواء رجعت الى بيتي ونمت هناك مثل القتيل. بعدها جئتكم لالبي دعوتكم.
اللواء فاضل : طبعاً، طبعاً نحن نرحب بك كثيراً ولكن ارجوك نادني ابو قيس من الآن فصاعداً.
داود : سافعل ذلك يا ابا قيس. وانت نادني داود.
اللواء فاضل : تفضل يا ابني داود. لقد اعدت ام قيس طعاماً رائعاً سوف يعجبك بلا شك. هل تحب الدولمة؟
داود : وهل هناك من يكرهها؟ بالطبع انها اكلتي المفضلة. فبالرغم من انني طباخ متمرس لكني لا اجيد عمل الدولمة.
دخلا الى الصالة فوجدا ام قيس واقفة بوسطها قالت،
ام قيس : دعنا نتوجه الى المائدة مباشرةً، لقد قلبت الصينية للتو وانا لا اريد للطعام ان يبرد.
جلس داود مع العائلة وصار يتناول الطعام بشهية كبيرة ويدردش مع مستضيفيه ويمازحهم، فيحدثهم عن الامور الساخرة التي مرت به اثناء فترة توقيفه. وعندما انتهى من الحديث تذكر الحلم المتكرر فقرر ان يقص عليهم حلمه الاول ثم الثاني. اصيب الجميع بالذهول وبقوا صامتين يفكرون بما قاله داود حتى سأله،
اللواء فاضل : بما انك قلت ان لا اخ لديك لانك وحيد لابويك فهل لديك صديق بورطة ويستحق المساعدة؟
داود : لا ليس لدي... اقصد... لا اعلم... فقط ربما...
اللواء فاضل : ربما ماذا؟
داود : عندما القو القبض علي اول يوم، وضعوني بزنزانة مع رجل تعرف علي بنفسه واسمه جرجيس.
راح داود يحدثهم عن ذلك المسيحي الطيب استاذ الفيزياء وكيف وقع بمشكلة مع استاذ آخر يعمل معه بنفس المدرسة. فسأله،
اللواء فاضل : وهل ما زال صاحبك بالتوقيف؟
داود : لا اعلم، بالحقيقة عندما نقلني العقيد ماهر للاستجواب، ابتعدت عنه وانقطعت عني اخباره.
اللواء فاضل : هذا امر هين، دعنا ننتقل الى الصالة وسف استقصي الامر من هناك.
ترك داود واللواء فاضل المائدة ومعهم الشاب قيس ليجلسوا بالصالة بينما ذهبت ام قيس الى المطبخ لتعد لهم الشاي فسأل،
اللواء فاضل : هل لديك اسمه الكامل؟
داود : اجل، اسمه جرجيس بطرس وهو مدرس باعدادية تموز.
اللواء فاضل : حسناً دعنا نرى.
رفع سماعة الهاتف الذي الى جانبه وراح يدور القرص و صار يتحدث مع احدهم ثم نظر الى داود وقال،
اللواء فاضل : لقد كنت على حق يا داود. الاستاذ جرجيس بطرس لا زال بالتوقيف وسوف اذهب غداً بنفسي لاحاول اخراجه من ورطته.
داود : لا اعرف كيف اشكرك يا سيادة اللواء، اقصد يا ابو قيس.
اللواء فاضل : هذا اقل ما يمكنني تقديمه لك يا داود فافضالك غرقتنا.
باليوم التالي يأتي اللواء فاضل بسيارة الخدمة الى منزل داود ليأخذه من هناك ويتوجهان الى مركز شرطة الكرادة. يجلسان لدى العقيد منتصر فيبدأ اللواء فاضل بالحديث،
اللواء فاضل : لقد بلغني ان احد الموقوفين لديك من الاخوة المسيحيين اسمه جرجيس قد اختمر لأنه موقوف لديكم منذ اشهر طويلة دون تقديمه للادعاء العام، اهذا صحيح يا منتصر؟
العقيد منتصر : اجل سيدي. انه متهم بالاعتداء الجسدي على احد زملائه.
اللواء فاضل : وهل علمتم السبب؟
العقيد منتصر : كلا ولكن... قضيته معقدة نوعاً ما سيدي.
اللواء فاضل : معقدة؟ كيف هي معقدة؟ اخبرني؟
العقيد منتصر : يبدو انها متعلقة بالاديان. لقد تولى القضية احد ضباطنا ملازم اول صفاء وهو الذي يحقق معه.
اللواء فاضل : اريد ان اتحدث مع ملازم اول صفاء.
العقيد منتصر : حسناً سيدي ساستدعيه فوراً.
رفع سماعة الهاتف وتحدث بها بصوت منخفض ثم وضع السماعة وقال،
العقيد منتصر : ملازم اول صفاء في طريقه الينا سيدي.
بعد قليل سمع طرقاً على الباب فاذن له فدخل ملازم اول صفاء والقى التحية الرسمية للعقيد منتصر وقال،
ملازم اول صفاء : استدعيتني سيدي؟
اللواء فاضل : بل انا الذي استدعيتك يا ملازم اول صفاء. انا اللواء فاضل.
ملازم اول صفاء : احترامي لك سيادة اللواء.
اللواء فاضل : هل انت الذي امرت باحتجاز المدعو جرجيس بطرس قبل شهرين ونصف؟
ملازم اول صفاء : اجل سيدي. انه متهم بالاعتداء الجسدي على زميله في العمل باعدادية تموز.
اللواء فاضل : وهل حققت معه؟
ملازم اول صفاء : اجل، تحقيق اولي سيدي.
اللواء فاضل : تحقيق اولـــــي؟ تحقيق اولي لاكثر من شهرين يا رجل؟ هل انت مجنون؟ اتريد ان تخسر وظيفتك وتطرد من سلك الشرطة يا ملازم اول؟
ملازم اول صفاء : بالحقيقة سيدي، المجني عليه هو نسيبي. لقد اوسعه المتهم ضرباً وكاد يقتله.
اللواء فاضل : مبروك عليك. يبدو انك فتحت دكان شرطة خاص بك يا ملازم اول. اهكذا تعملون هنا بالكرادة؟
ملازم اول صفاء : سيدي لقد قام بضرب نسيبي ضرباً مبرحاً وكاد ان...
اللواء فاضل : ولماذا لم تترك العدالة تأخذ مجراها؟ هل اصبحت انت القاضي وانت الجلاد بنفس الوقت؟ ثم تعال هنا، هل حققت مع شهود العيان اثناء الشجار؟
ملازم اول صفاء : كلا سيدي، آسف سيدي. لم يتسنى لي ذلك بعد.
اللواء فاضل : لم يتسنى لك بعد؟ وكم يلزم يا ملازم اول، سنة؟ سنتان؟ اسمع مني جيداً، لديك خياران لا ثالث لهما. اما ان تقدمه للادعاء العام اليوم او تقوم باطلاق سراحه دون اي قيد او شرط، مفهوم؟
ملازم اول صفاء : ساطلق سراحه فوراً.
اللواء فاضل : تطلق سراحه لانك لا تريد ان تُسأل عن سبب توقيفه لفترة طويلة. اليس كذلك؟
ملازم اول صفاء : انا آسف سيدي. اجل سأطلق سراحه فوراً. اكرر اسفي.
اللواء فاضل : اريد ان ارى المتهم هنا خلال 5 دقائق والا سوف اتصل بوزير الداخلية مفهوم؟
ملازم اول صفاء : سيكون بين يديك بعد قليل سيدي، لا تقلق.
خرج الملازم اول من مكتب العقيد منتصر وبعد مرور بضع دقائق سمع طرقاً على الباب فأدخل الاستاذ جرجيس بطرس مكبلاً بالاصفاد بصحبة احد العناصر. فأمر العقيد العنصر إذ قال،
العقيد منتصر : فك وثاقه فوراً يا عريف.
قام العريف بفك الاصفاد من معصمه فنظر جرجيس الى صاحبه داود واومأ برأسه تعبيراً عن شكره ثم نظر الى اللواء وصار يبكي ويقول،
جرجيس : سيدي اقسم بالله انني لم اقصد ان...
قاطعه اللواء إذ قال،
اللواء فاضل : لا تقل شيئاً، لقد اخبرني داود بكل القصة، ولو كنت مكانك لقتلت ذلك الاستاذ المتخلف. والآن اعتبر نفسك حراً طليقاً من الآن.
صار جرجيس يبكي ويمسح دموعه ثم سار نحو صديقه داود وظمه اليه وراح الاثنان يبكيان. وبعد ان تناول وجبة الكباب التي امر بها العقيد منتصر.
خرج الثلاثة من مركز شرطة الكرادة ليركبوا سيارة اللواء الرسمية فيأخذون الاستاذ جرجيس الى بيته ثم يوصل داود الى شقته ويرحل. يدخل داود بيته وهو بقمة السعادة والرضى. يأخذ منشفته ويذهب للحمام فيتوضأ ليصلي ركعتي شكر لله.
تمت
1542 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع