د. جابر أبي جابر
قصة كوبرين الخالدة " سوار العقيق"
ولد الكاتب الروسي الواقعي ألكسندر كوبرين يوم 26 آب/أغسطس (7 أيلول/سبتمبر) عام 1870 بمدينة ناروفتشات (مقاطعة بنزا) وذلك في أسرة موظف بسيط. وقد توفي والده في عام 1871. وفي ضوء هذه الظروف انتقلت الأسرة الفقيرة لاحقاً إلى موسكو. وعندما بلغ الصبي السادسة من عمره أُدخل في مدرسة رازوموف للأيتام بموسكو المعروفة بانضباطها الشديد. وفي عام 1880 انتسب كوبرين إلى الثانوية العسكرية الثانية ثم التحق في عام 1887 بأكاديمية ألكسندر العسكرية. والمعروف أن كوبرين وصف تلك الفترة من حياته في بعض أعماله ومنها : قصة "نقطة التحول" ورواية "طلاب المدارس العسكرية". وقد نشر أول عمل أدبي له " الظهور الأخير" عام 1889 وذلك في"الجريدة الروسية الساخرة". وفي عام 1890 تخرج من الأكاديمية برتبة ملازم ثانٍ وعيّن في فوج المشاة بمقاطعة بودولسك. وقد قدمت له الخدمة في الجيش مادة غنية لأعماله الأدبية اللاحقة.
وخلال هذه الفترة نشر كوبرين العديد من المقالات الأدبية والقصص المختلفة ومن ضمنها " الاستجواب" و"ليلة مقمرة" و" في الظلام", و"ملجأ للمبيت"و "المسيرة". وبعد خدمة استمرت أربعة أعوام تقاعد من الجيش ثم قام بجولات كثيرة في مختلف أرجاء روسيا وبالأخص جنوب روسيا وأوكرانيا . وخلال ذلك جرّب نفسه في ممارسة شتى المهن حيث اشتغل في السيرك ووكالة إعلانات وعمل ممثلاً وصحفياً ومعلماً ومسّاحاً وصياد سمك ووصل عدد المهن التي زاولها إلى حوالي العشرين مهنة. وفي تسعينات القرن 19 نشر كوبرين مقالة" مصنع يوزوفسكي" والقصص التالية: " مولوخ" و"الملازم الثاني في الجيش" و"كيت" إلى جانب أقصوصة" المنافق".
وعلى تخوم القرنين التاسع عشر والعشرين تعرف كوبرين على كبار الكتاب الروس مثل أنطون تشيخوف وإيفان بونين ومكسيم غوركي. وقد كانت اللقاءات معهم مفيدة جداً بالنسبة له. وآنذاك بدأ في العمل كسكرتير ل" مجلة الجميع". وفي تلك السنوات صدر للكاتب مجموعة من أهم أعماله وهي: " نهر الحب" و"هامبرينوس"(1907) والمقال الأدبي" أحداث في سيفاستوبل"(1905) بالإضافة إلى قصة "سوار العقيق" (1911).
وتشمل أعمال كوبرين الأدبية موضوعات كثيرة بعضها ذات صبغة عسكرية والبعض الآخر تصور قضايا اجتماعية وغرامية. والمعروف أن قصة" المبارزة"(1905) جلبت للكاتب نجاحاً منقطع النظير. كما أن وصف الحب في قصة" أوليسيا"(1898) كان أكثر وضوحاً وبلاغة وأول عمل كبير له حصل بفضله على حب وتقدير القراء إلى جانب قصة"سوار العقيق". وقد كتب كوبرين قصصاً للأطفال أيضاً. ومنها : "الفيل" و"الزرازر" و"كلب البوديل الأبيض".
في عام 1905 أثناء الثورة الروسية الأولى كان كوبرين يعيش في بلدة بالكلافا بشبه جزيرة القرم. وآنذاك ساعد بعض البحارة والجنود المشاركين في انتفاضة الطراد "أوتشاكوف" في الاختفاء بمنزله من ملاحقة السلطات القيصرية لهم وبذلك أنقذهم من الإعدام. ولدى انكشاف أمره طُرد من القرم وعاد إلى العاصمة حيث ترشح في عام 1906 لعضوية مجلس الدوما عن مقاطعة بطرسبورغ. وعند اندلاع الحرب العالمية الأولى فتح كوبرين في منزله مستشفى عسكرياً ثم التحق بالجيش كمتطوع وأُرسل إلى فنلندا قائداً لسرية مشاة. ولكنه ما لبث أن سرّح من الجيش بعد ثمانية أشهر لتدهور حالته الصحية.
في أواخر عام 1915 أنهى الكاتب قصة"الحفرة"، التي يتحدث فيها عن مومسات بيوت الدعارة. وقد تعرضت هذه القصة إلى الانتقادلت الشديدة والإدانة نظراً للوصف الطبيعي المفرط، الذي تناوله في قصته لهذه الظاهرة الاجتماعية. وفي ضوء ذلك صودرت كافة نسخ الطبعة الأولى.
استقبل كوبرين ثورة فبراير عام 1917 وتخلي القيصر نيكولاي الثاني عن العرش بحماس فائق وأعلن تأييده لمتابعة الحرب ضد ألمانيا حتى النصر الأخير. وقد بدأ على الفور العمل في ثلاث صحف متعاطفة مع الاشتراكيين الثوريين وهي: "الحرية" و " صحيفة بتروغراد" و" روسيا الحرة". وفي العام نفسه أكمل عمله على قصة "نجمة سليمان" حيث أعاد صياغة دراما يوهان غوته الفلسفية عن فاوست وميفيستوفل طارحاً أسئلة عديدة حول الإرادة ودور الصدفة في مصير الإنسان.
لم يرحب الكاتب بثورة أكتوبر حيث كان يرى أن الكلام لدى البلاشفة يتعارض مع الفعل وأنهم متعصبون لأفكارهم شديد التعصب ويشكلون تهديداً مباشراً للثقافة ويحملون معهم كل المسؤولية عن الحرمان والمجاعة والإرهاب والخراب في البلد. وقد أسفر هذا الموقف في نهاية المطاف عن اعتقاله في حزيران/ يونيو عام 1918. ومع ذلك التقى كوبرين بلينين بواسطة غوركي واقترح عليه إصدار صحيفة مخصصة للفلاحين تحت عنوان"الأرض" وحصل خلال ذلك على موافقة الزعيم السوفيتي. ولكن رئيس بلدية موسكو ليف كامنيف نسف هذه الفكرة من جذورها. وقد تأكد آنذاك أنه لا مجال إطلاقاً للعمل مع البلاشفة.
بحلول خريف عام 1919 انضم كوبرين إلى جيش الشمال الغربي، الذي يقوده الجنرال الأبيض نيكولاي يودنيتش حيث عمل محرراً لجريدة" إقليم برينفسكي". وفي عام 1920 هاجر إلى فرنسا. وفي المهجر لم تهدأ حماسته للتأليف الأدبي. فقد كان يكتب الروايات والقصص والعديد من المقالات الأدبية.. وفي عام 1927 صدرت له بباريس مجموعة" قصص جديدة" ثم تلاها كتاب" قبة القديس اسحق المعترف" (1928) ثم مجموعة" "ايلان" (1929). ونشر بعد ذلك مجموعة "عجلة الزمن" (1930) ورواية" طلاب الكلية العسكرية". ورغم ذلك كان يعاني دائماً من شظف العيش ويتوق للعودة إلى بلده ".
وفي مطلع عام 1937 تدهورت حالته الصحية. وبعد بضعة أشهر (أيار/مايو من العام نفسه) عاد كوبرين إلى الاتحاد السوفيتي مع زوجته بعد أن حصل على موافقة السلطات السوفيتية بهذا الشأن. ثم توفي في 25 آب/أغسطس من عام 1938 من جراء إصابته بسرطان المريء. وقد دفن في لينينغراد بمقبرة" فولكوفسكويه" بجوار قبر إيفان تورغينيف.
في عام 1902 تزوج كوبرين للمرة الأولى الفتاة ماريا ابنة عازف الفيولونتشيل المعروف كارل دافيدوف، التي أنجبت له البنت ليديا. وبعد خمس سنوات من العيش المشترك انفصل الزوجان. وفي عام 1909 تزوج للمرة الثانية والأخيرة من إليزابيت هنريخ. وقد أنجبت البنتين كسينيا وزيناييدا. وبعد أربع سنوات من وفاة الكاتب اضطرت أليزابيت إلى الانتحار تحت وطأة ظروف حصار الألمان النازيين للينينغراد والقصف المستمر على المدينة والمجاعة الفظيعة التي كان يعاني منها السكان.
خلال أوقات مختلفة (من عام 1914 إلى عام 1997) نُقل إلى السينما 18 فيلماً روائياً من الأفلام المستوحاة من مؤلفات كوبرين الأدبية بما في ذلك فيلم" سوار العقيق (1965) من إخراج أبرام روم. وقد عُرض الفيلم آنذاك في سوريا وبعض الدول العربية الأخرى، ثم عرضته من جديد قناة روسيا اليوم (2013).
ينحدر كوبرين من أصول تترية (عن طريق والدته) وكان دائماً يفتخر بذلك. ولهذا كان يعتمر في عز شهرته القبعة الصغيرة "تيبوتيكا"، التي يستخدمها عادة مسلمو روسيا رجالاً ونساء، ويرتدي أحياناً الرداء التتري الفضفاض ( الخالاط). موضوع القصة مستمد من أحداث واقعية. ففي عام 1910 روى لكوبرين أحد معارفه، وهو محافظ مدينة فيلنوس دمتري لوبيموف، قصة موظف بسيط وقع في حب زوجته. وكان خلال فترة طويلة يبعث لها رسائل حب ثم أهدى لها ذات مرة سواراً من العقيق. وقد أخذت أسرة لوبيموف هذا الأمر على محمل الفكاهة حتى أنهم صاروا يضعون رسائل الرجل المغرم المنحوس داخل ألبوم خاص مزود برسومات مضحكة. ولكن كوبرين اهتم بهذه القصة بكل جدية وعكف على كتابة مؤلفه الجديد الذي استغرق إنجازه ثلاثة أشهر. استقى الكاتب الكثير من التفاصيل الحياتية للقصة الواقعية ونقلها إلى قصته الأدبية. ولكن انتحار البطل في الخاتمة كان من تأليفه. أما في الواقع فقد اختفى الموظف العاشق من حياة محبوبته إلى الأبد بعد حديث قاسي اللهجة أجراه معه زوج تلك السيدة. بيد أن كوبرين أراد أن يبرز قوة هذا الحب، الذي ينبغي أن يكون تراجيدياً ولغزاً عظيماً في هذه الحياة، والذي" لا يتكرر إلا مرة واحدة كل ألف عام". فأنهى القصة بهذه الخاتمة المأساوية.
تبدأ القصة باحتفال عائلة شيين الأرستقراطية في ضيعتها بعيد ميلاد الأميرة فيرا الموافق يوم السابع عشر من أيلول/ سبتمبر حيث يضع نقيب النبلاء المحليين الأمير فاسيلي على طاولة النوم علبة تتضمن قرطين رائعين من اللؤلؤ الكمثري الشكل كهدية بمناسبة هذا العيد وذلك قبل ذهابه في الصباح إلى المدينة لأمور عاجلة. ويشير الكاتب إلى ان أسلاف الأمير فاسيلي شيين قد بددوا تقريباً هذه الضيعة الضخمة بينما يتعين عليه العيش بحكم مقامه الرفيع في مستوى أعلى من دخله الفعلي. أما زوجته فيرا، التي تحول حبها العارم السابق لزوجها منذ أمد طويل إلى شعور بالصداقة الراسخة، فهي تسعى بكل طاقتها أن تحمي الأمير من الإفلاس التام.
استقبلت الأسرة في ذلك اليوم عدداً غير كبير من الضيوف، الذين جاءوا لتهنئة الأميرة ومشاركتها في الاحتفال بعيد ميلادها وهم: شقيقتها الصغرى آنا فريسيه وزوجها غوستاف فريسيه، والشقيق معاون النائب العام نيكولاي ميرزا- بولات توغانوفسكي، والجنرال المتقاعد ياكوف أنوسوف صديق والد الأميرة فيرا وآنا ونيكولاي، والأرملة لودميلا دوراسوفا شقيقة الأمير فاسيلي، وجيني ريتير صديقة فيرا، وفون زيك نائب حاكم المقاطعة وبعض الضيوف الآخرين.
يستهل الكاتب قصته بوصفه لحالة الطقس في المنطقة بمنتصف آب/أغسطس ثم في مطلع أيلول/سبتمبر حيث نرى صور المطر الخفيف والطين والإعصار العنيف والعاصفة وهدير صفارات الإنذار ليلاً نهاراً ونتعرف على مصير الصيادين الذين أُلقى البحر بجثثهم بعد أسبوع، مما يوحي للقارئ بأن نهاية القصة ستكون مأساوية. أما إشارة كوبرين إلى تبدل الطقس من الغائم والممطر إلى أيام دافئة ومشمسة فإنه يرمز إلى منح فيرا فرصة نظراً لأن ذلك الحب الجامح الذي استحال إلى صداقة عادية يتعارض من حب جلتكوف الطاهر المتفاني.
بعد أن جلس الجميع وراء المائدة للاحتفال بهذه المناسبة البهيجة جاء أحد الأشخاص إلى المنزل وأعطى الخادمة داشا علبة مجوهرات صغيرة وفيها سوار من العقيق ورسالة. وقال لها: سلميها لسيدتك شخصياً ثم انصرف على عجل. وعندما فتحت الاميرة فيرا الرسالة أدركت على الفور أنها من ذلك العاشق المسكين الذي واظب على الكتابة لها منذ سنوات طويلة. وقد جاء فيها: " صاحبة السعادة، الأميرة فيرا نيكولايفنا المبجلة!
إنني، إذ أهنئكم بكل احترام بعيد ميلادكم السعيد المشرق، لأتجاسر على رفع هديتي المتواضعة المخلصة لكم......كان هذا السوار ملكاُ لأم جدتي، وكان آخر من حمله المرحومة والدتي.... استمحكم العفو مرة أخرى لإزعاجي لكم بهذه الرسالة التي لا داعي لها. عبدكم المطيع حتى الموت غ. س.ج"
وكما جرت عليه العادة في لقاءات كهذه جلس البعض على مائدة القمار يلعبون في البوكر وجلس آخرون يلعبون في الفنت. وقد سارت السهرة على ما يرام حيث غنى فاسيوتشوك بصوت هادئ وبمصاحبة عازفة البيانو جيني ويتر العديد من الأغاني الشعبية الإيطالية. وكان صوته ضعيفاً ولكنه سلس وصادق وذو نبرة رقيقة. وخلال هذه السهرة تتحدث لودميلا لفوفنا شقيقة الأمير المضيف مع هاوي الرقص الملازم أول باختينسكي حول الأمر المتعلقة بنشاطها الاجتماعي والخيري بينما يجيبها بعبارات مفعمة بالمزاح والهزل. وفيما بعد أخذ الأمير فاسيلي يعرض على شقيقته والجنرال أنوسوف وعديله غوستاف فريسيه ألبوما عائلياً فكاهياً برسوم أنجزها بنفسه مما أثار ضحك الجميع. فجذب ذلك إليهم شيئاً فشيئاً الضيوف، الذين لم يكونوا مشغولين باللعب. وكان الألبوم بمثابة إضافة، أو رسوم توضيحية لقصص الأمير. وكان يعرض بهدوئه المعروف، مثلاً، "قصة المغامرات العاطفية للجنرال الشجاع أنوسوف في تركيا وبلغاريا أثناء الحرب الروسية التركية" (1877-1878)، و"مغامرات الأمير الغندور نيقولا بولات توغانوفسكي في مونت كارلو" وغيرها. ثم قال فاسيلي وهو يوجه نظرة ساخرة إلى أخته: - سترون الآن يا سادة وصفاً قصيراً لحياة شقيقتنا المحبوبة لودميلا لفوفنا وبعد قصة الآنسة ليما جاءت رواية أخرى هي "الأميرة فيرا وعامل التلغراف العاشق"، ثم أضاف فاسيلي لفوفتش:
- إن هذه القصيدة المؤثرة لم تسطر إلا بالريشة والأقلام الملونة فقط. أما النص فيجري إعداده.
وعلق العجوز أنوسوف على ذلك قائلاً:
هذا شيء جديد، لم أره من قبل
- آخر طبعة. حدث جديد في سوق الكتب
وقد طلبت فيرا من زوجها العدول عن ذلك. ولكن فاسيلي لفوفتش إما لم يسمع ما قالته زوجته أو أنه لم يعره اهتماماً. وبدأ الامير فاسيلي رواية قصته قائلاً: " تعود بداية القصة إلى عصور ما قبل التاريخ. وذات مرة تسلمت فتاة تدعى فيرا بالبريد رسالة تحمل صورة زوج حمام يتبادل القبل وهاهي الرسالة وهاهو الحمام. وتحتوي الرسالة على اعتراف حار بالحب، مكتوب ضد جميع قواعد الإملاء. وهي تبدأ على هذا النحو " يارائعتي الشقراء ...أنت التي... بحر عاصف من اللهيب يتأجج في صدري. ونظرتك قد أنشبت أنيابها في صدري الممزق...إنني لا أجرؤ على الفوح باسمي كاملاً، لأنه اسم بذيء جداً. ولذلك أوقع بالأحرف الاولى فقط: غ.س.ج....
ولما كانت فتاة نبيلة الخلق ومهذبة فقد عرضت على والديها الموقرين وكذلك على صديق طفولتها وخطيبها الشاب الوسيم فاسيا شيين. ويرد فاسيا دبلة الخطوبة لفيرا وهو ينتحب قائلاً: " لست أجرؤ على تعكير صفو سعادتك، لكنني أتوسل إليك ألا تتخذي الخطوة الحاسمة على الفور, فكري وتمعني، واختبري صدق شعورك وشعوره....". ويمر نصف عام. وتنسى فيرا في خضم الحياة عاشقها وتتزوج فاسيا. غير أن عامل التلغراف لا ينسى حبيبته. "فهاهو يتنكر في زي منظف المداخن، ويلوث نفسه بالسناج ويتسلل إلى مخدع الأميرة فيرا. وهاهو في مستشفى المجانين, وهاهو قد ترهبن. ولكنه يواظب كل يوم على إرسال الخطابات العاطفية الملتهبة إلى فيرا. وفي تلك المواضع التي تسقط دموعه على الورق، يسيح الحبر فيصبح بقعاً. وهاهو أخيراً يموت، ولكنه يوصي لفيرا قبل وفاته زرين من أزرار حلته الرسمية وبقارورة عطر مملوؤة بدموعه".
ثم جلست فيرا وآنا عن يمين أنوسوف وشماله وهما تحيطانه برعايتهما وتملآن كأسه بالنبيذ الغليظ.... وأسبل القومندان العجوز جفنيه من شدة المتعة. وهنا يصطدم القارئ بوصف رائع لظلمة آخر الغروب:
" كان الغسق الخريفي الطويل يرسل آخر أضوائه. وانطفأ آخر خيط أحمر رفيع كالشق كان يتوجه في أقصى أطراف الأفق بين سحابة زرقاء والأرض. ولم تعد تتبين لا الأرض ولا الأشجار ولا السماء. وتراقصت فوق الرأس رموش نجوم كبيرة في ظلمة الليل. بينما ارتفع شعاع أزرق من الفنار كعمود رفيع إلى أعلى مباشرة وانسكب على قبة السماء دائرة رقيقة ضبابية مضيئة وتهافتت فراشات الليل على أغطية الشموع الزجاجية. ومن الظلام والبرودة تضوع شذى زهور الطباق الأبيض النجمية أكثر حدة".
ثم تحدث الجنرال العجوز أنوسوف عن مغامراته النسائية في رومانيا وبلغاريا خلال فترة الحرب الروسية التركية. وكانت الأختان تصغيان له بإعجاب كما كان الحال أثناء طفولتهما. وبعد ذلك طلب أنوسوف من فيرا أن تحكي له لوحده قصة عامل التلغراف فوافقت على ذلك بكل سرور. فرويت له بالتفصيل عن شخص مجنون بدأ يطاردها بحبه قبل زواجها بعامين. "لم تره ولا تعرف اسمه ...كان يوقع رسائله بالأحرف : غ .س.ج. وذات مرة ذكر أنه موظف صغير في إحدى الدوائر الحكومية... ويبدو أنه كان يراقبها على الدوام لأنه كان يذكر في رسائله بكل دقة أماكن الحفلات التي ترتادها. ... ولكن فيرا طلبت منه ذات مرة ألا يضايقها بعد ذلك باعترافاته الغرامية. ومن وقتها كف عن حديث الحب ولم يعد يكتب لها إلا نادراً... في عيد الفصح ورأس السنة وعيد ميلادها". كما أخبرت فيرا الجنرال عن هدية اليوم، بل ونقلت له بالحرف تقريباً محتويات الرسالة الغريبة لعاشقها الغامض. وأخيراً قال الجنرال ببطء: "نعم ... ربما كان شاباً غير طبيعي...مهووس، ولكن من يدري؟ ربما يكون ذلك الحب الذي تحلم به النساء والذي لم يعد الرجال قادرين عليه بعد هو الذي عبر درب حياتك يا فيرا". وبعد توديع العجوز أنوسوف وانصراف بقية الضيوف جاء نيكولاي إلى شقيقته فيرا وأكد لها ضرورة وضع حد لسخافات هذا الرجل المجهول. فالمسألة، في اعتقاده، تجاوزت حدود الهزل ورسم الرسوم المسلية. وأشار الشقيق إلى أن كل مل يهمه بهذا الصدد سمعة شقيقته وزوجها. غير أن الامير فاسيلي اعتبر كلام نيكولاي مبالغاً فيه. كما أعربت فيرا لشقيقها عن شعورها بالرثاء تجاه هذا الرجل . ومن الواضح أن شقيق الأميرة اتخذ موقفاً قاسياً ومتشدداً تجاه هذا العشيق المجهول، الذي اعتبره شخصاً أهان سمعة العائلة وأزعج شقيقته برسائله الغرامية خلال سنوات عديدة. أما الزوج الأمير فاسيلي فقد كان له موقف آخر حيث أدرك أنه صادق في حبه لزوجته. وقال لنيكولاي بهذا الصدد:"... وبالفعل يا كوليا، هل هو مذنب في الحب، وهل يمكن التحكم في عاطفة الحب، عاطفة لم تجد حتى الآن من يفسرها". ثم أضاف" إنني أرثي لهذا الشخص ولا يقتصر الأمر على الشفقة ، إذ إنني أجد نفسي شاهداً على مأساة روحية كبرى ولا أستطيع هنا أن أهرج". ولكن نيكولاي رد عليها قائلاً بأنه ليس هناك ما يوجب الرثاء ولو كان هذا الرجل من وسطهم لاستدعى الأمر دعوته للمبارزة. وأضاف قائلاً:" ولو حدث ذلك في العهود السابقة لكنت قد أرسلته إلى الإسطبل وأمرت بجلده". وفي نهاية المطاف اتفق الزوج والشقيق على ضرورة الكشف عن هوية هذا الشخص ومعرفة عنوانه وإنذاره بالكف عن ألاعيبه وإرجاع السوار إليه. ولم يمض إلا القليل من الوقت حتى استطاع نيكولاي بفضل مركزه الوظيفي وعلاقاته الكثيرة معرفة الاسم الكامل لهذا العاشق التعيس وعنوانه فاتضح أن اسمه غيورغي ستيبانوفتش جلتكوف... أتى الأمير فاسيلي ونيكولاي إلى مكان سكن جلتكوف وأعادا له سوار العقيق وطلبا منه ترك الأميرة وشأنها. وقد وضع نيكولاي أمامه خيارين لا ثالث لهما. فإما أن يحجم تماماً عن ملاحقة شقيقته الأميرة أو إذا لم يوافق على ذلك فسيتم اتخاذ الإجراءات اللازمة المتاحة للاثنين بحكم علاقاتهما ووضعهما الاجتماعي. وعقب ذلك أرسل جلتكوف بالبريد رسالة وداعية إلى حبيبته طلب فيها أن تعزف سوناتا بيهوفن الثانية في ذكراه. ثم أقدم على الانتحار. وعندما جاء زوجها إلى فراشها ليلاً قالت فيرا له وهي توليه ظهرها: "دعني....إنني أعرف أن هذا الشخص سيقتل نفسه". وفي الصباح قرأت فيرا في الصحيفة خبر وفاة جلتكوف. وبعد وقت قصير جاء ساعي البريد برسالة جلتكوف الوداعية إلى فيرا، التي جاء فيها ما يلي:" لست مذنباً يا فيرا نيكولايفنا في أن إرادة الله شاءت أن تبعث إليّ بحبي لك كسعادة ضخمة. وقد اتفق أنني لم أهتم بشيء في الحياة، لا بالسياسة، ولا بالعلم، ولا بالفلسفة، ولا بالتفكير في سعادة الأجيال القادمة... كانت الحياة بالنسبة لي تنحصر فيك وحدك. والآن أحس بأنني حشرت في حياتك إسفيناً مزعجاً. اغفري لي ذلك. فاليوم سأرحل ولن أعود أبداً، ولن يذكرك بي شيء...
إنني مدين لك بعرفان لا حدود له على مجرد وجودك. وقد تحققت مشاعري... ليس هذا مرضاً أو فكرة جنونية... إنه الحب، الذي شاء الله أن يكافئني به على شيء لا أدريه... فإذا تذكرتني فلتعزفي أو اطلبي أن يعزفوا سوناتا بتهوفن الثانية...
لا بأس إن كنت مضحكاً في نظرك أو نظر أخيك نيكولاي نيكولايفتش، إنني أقول بإعجاب وأنا امضي: "فليتقدس اسمك"... ليس هنالك وحش أو نبات أو نجمة أو إنسان أروع منك وأرق. كأنما كل جمال الدنيا قد تركز فيك". لم تستطع فيرا كبح جماح رغبتها الشديدة في إلقاء النظرة الأخيرة على هذا المسكين، الذي أحبها حباً لا نظير له طيلة ثمانية أعوام. ولهذا طلبت من زوجها السماح لها بالذهاب إليه ثم انطلقت على الفور إلى مسكنه. وقد جاءت إلى هناك حاملة معها وردة حمراء"... كان في عينيه المغمضتين أهمية عميقة، وافترت شفتاه عن ابتسامة رضى واطمئنان، كأنما أدرك قبل مفارقته الحياة سراً مكنوناً عذباً فسّر كل ألغاز حياته في هذه الدنيا...وفرّقت الشعر على جبهة الميت وضغطت بيدها على صدعه بقوة وقبّلته في جبينه البارد الرطب قبلة أخوية طويلة". ولدى خروجها من هناك قالت لها صاحبة المنزل:" لو تعرفين إلى أي حد كان هذا الإنسان رائعاً. لقد بقي عندي ثماني سنوات ولم يكن بالنسبة لي مجرد مستأجر وإنما كابن من لحمي ودمي". وعند عودتها في المساء إلى المنزل وجدت فيرا العازفة جيني ريتر في انتظارها فطلبت منها بانفعال شديد عزف شيء ما وهي على ثقة تامة بأن جيني لابد ان تعزف لها السوناتا الثانية لبتهوفن. وهذا ما حصل بالفعل. ولدى سماعها النغمات الأولى لهذه السوناتا فكرت في آن واحد بأنه قد مر بجوارها حب كبير لا يتكرر إلا مرة واحدة كل ألف عام...وقد انسجمت أفكارها مع الموسيقى حتى بدت كمقاطع تنتهي بعبارة "فليتقدس اسمك". .....هاهو الموت قادم، الموت الناشر للسكينة على كل شيء، أما أنا فأقول: المجد لك..." احتضنت الأميرة جذع الأكاسيا والتصقت به وأجهشت بالبكاء. وارتعشت الشجرة برقة. وهب نسيم خفيف فهفهفت الأوراق كأنما تعزي الأميرة وازداد شذى الطباق حدة... وفي تلك اللحظة مضت الموسيقى المدهشة تنساق لحزنها: اهدئي يا عزيزتي. أنت تذكرينني؟ تذكرينني؟ أنت حبي الوحيد والأخير. اهدئي. إنني معك... فإننا أحببنا بعضنا البعض لحظة واحدة ولكنها إلى الأبد. أتذكرينني؟ تذكرينني؟ تذكرينني؟ ها أنا أحس بدموعك، اهدئي. إنني أنام نوماً عذباً، عذباً، عذباً".
خرجت جيني من الغرفة وقد فرغت من العزف فرأت الأميرة فيرا جالسة على الأريكة مبللة بالدموع. فسألتها:
- - ماذا بك؟: فأخذت فيرا تقبل وجهها وشفتيها وعينيها باضطراب وانفعال وعيناها تلتمعان بالدموع. وقالت:
- - لاشيء، لا شيء. لقد سامحني الآن...
وصف الكاتب الروسي قسطنطين باوستوفسكي هذه القصة بأنها عمل"معطّر" عن الحب وقارنها النقاد بسوناتا بتهوفن. تأسر القصة القارئ بحبكة مثيرة وصور عميقة وتفسير مبتكر لموضوع الحب الأبدي. فهي تحفل بأفكار وتأملات عن الحب وماهيته. وهو، حسب اعتقاد الكاتب، ذلك الشعور الرقيق الذي قد يكون أحياناً قاسياً لايرحم. وفي القصة يقول العجوز أنوسوف بهذا الصدد:" ...إنني أتحدث عن الحب المنزه، المتفاني، الذي لا يطمع في مكافأة... ذلك الحب الذي يقولون عنه" أقوى من الموت"... ذلك الحب، الذي يجعلك مستعداً للقيام بأية بطولة في سبيله، إلى التضحية بحياتك، إلى تحمل العذاب... هذا الحب ليس مشقة بل سعادة...الحب يجب أن يكون مأساة، أعظم أسرار الكون، ولا ينبغي أن تمسّه أية راحة من راحات الحياة ولا أية حسابات أو مساومات". يجعل كوبرين بطلته الأميرة فيرا تشفق على جلتكوف بعد انتحاره ثم تشعر بأنها مذنبة في موته وبعد ذلك تتأسف بشدة على أنها فقدت حبه. إنها مصدومة لأول مرة في حياتها. فقد أشرق الحب الأبدي في مصيرها كحب صادق خالٍ من الانانية تحلم به كل امرأة. فبعد كل هذه الأحداث الحزينة ادركت الأميرة فداحة الخسارة التي لحقت بها. ولكن، من جهة اخرى، أضاء هذا الحب فجأة حياتها الرتيبة المملة.
930 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع