د. سوسن إسماعيل العسّاف*
انعكاسات التمرد المسلح لمرتزقة فاغنر على استقرار روسيا وحربها في أوكرانيا ومكانتها الدولية… المسببات والنتائج
من اجل الحفاظ على جيوشها الوطنية أو لزيادة قوتها الدفاعية-القتالية أو للتنظيمات اللوجستية الاسنادية التعبوية، ولتقليل المسائلة القانونية، بدأت الدول باللجوء الى خدمات الشركات الامنية والعسكرية الخاصة أو ما يطلق عليها بجيوش الظل، والتي في حقيقتها مجاميع من المرتزقة هدفها الأساسي هو الحصول على المال بأقصر الطرق. وهذا الخيار غالباً ما تلجأ اليه الدول الكبرى لحل مشاكل خارجية مستعصية أو للتدخل من اجل اهداف ذات اعتبارات خاصة. ولم يكن لهذه الشركات شهرة كالتي اكتَسَبَتها بعد استخدامها من قبل الولايات المتحدة في حرب احتلال العراق 2003، وعاثت في الارض فسادا وسجلت اكبر خروقات وانتهاكات وجرائم لا إنسانية ولا إخلاقية الى حد القتل العمد، ولم يحرك الاتحاد الاوروبي ولا الولايات المتحدة (التي منحتها الحصانة حتى من القوانين العراقية الداخلية) ولا حتى الامم المتحدة أي ساكن حيالها. وفي الايام القليلة الماضية تكاثر الحديث عن هذه الشركات بصورة كبيرة بسبب ما قامت به شركة فاغنر الروسية ومديرها يفغيني بريغوجين ضد الدولة التي أُسِسَت على اراضيها ورعتها.
ربما لم يكن تمرد مرتزقة فاغنر مفاجئًا، لان تذمر بريغوجين وصراعه مع وزير الدفاع الروسي والقادة العسكريين الآخرين وشكواه المستمرة من نقص الذخيرة وعدم تسليح قواته بالمعدات اللازمة، قد سبق ذلك وفي مناسبات عديدة. لكن المفاجىء كان قراره توجيه القوات بإمرته نحو موسكو بهدف الإطاحة بوزير الدفاع ورئيس الأركان. صحيح انه لم يتحدث عن الرئيس بوتين، الا ان عمله اعطى الإنطباع بأنهُ تحدياً لسلطة الرئيس الروسي أيضاً. بدوره وصف بوتين هذا التمرد بأنه خيانة و(طعنة من الخلف)! ووعد بالقضاء عليه وعقاب للمتمردين. المفاجئة الاكبر كانت التراجع السريع وتوقف قائد فاغنر عن التقدم مع مليشياته (5000-8000 مرتزق) واختياره اللجوء الى بيلاروسيا. رغم سرعة الاحداث التي جرت في غضون ساعات، إلا إنها وضعت ليس روسيا فقط وانما العالم بأسره في حالة ترقب وتأهب لنتائج كان يمكن ان تكون خطيرة بمقاييس تمرد دموي مسلح وصل الى مستوى الانقلاب العسكري داخل دولة نووية عظمى تحتضن ثاني أكبر الجيوش في العالم وتخوض حرب خارجية. ومع انتهاء الازمة، بهدوء نسبي يرضي الاطراف المتناحرة، إلا إن هذا التمرد طرح تساؤلات جمة تبتدئ بماهية الدوافع والمبررات المنشئة له أساساً؟ وهل أثرَ على الاستقرار الروسي (السياسي والاجتماعي) الداخلي؟ وكيف سيعيد حسابات القوة والضعف لواقع ومستقبل حكم بوتين؟ وهل سيؤثر هذا التمرد على مجريات الحرب في اوكرانيا وخفايا الصراع الدولي غير المباشر ودور روسيا العالمي في صياغة النظام الدولي الجديد؟ وما العبر منه لدول العالم الأخرى؟
التفسيرات المختلفة والمتضاربة (العربية والغربية) التي ادلى بها العديد من المحلليين والاستراتيجيين العسكريين، بل وحتى تصريحات المسؤولين السياسيين وخطابات القادة الكبار، تدلل على ضبابية الموقف وصعوبة الحكم بالمطلق. علماً أن الحدث أظهر قدرة الجهات الروسية على المراوغة من خلال اللجوء الى مفاهيم استراتيجية-تكتيكية لخلط الاوراق مثل (كل شئ جائز في الحرب! صديق الامس هو عدو اليوم! صديق عدويّ هو عدويّ! تأمين الحلفاء والاصدقاء! التحرك السريع لغلق المداخيل الكبرى!). أضف لذلك الامكانية الاستخباراتية-المخابراتية العالية على التضليل والتشتيت لخدمة المصلحة القومية العليا للدولة، فروسيا نحجت اساساً في بث الحيرة والشك حول طبيعة الشخصية القانونية لمجموعة فاغنر المتمردة (غالبية اعضائها هم من العسكريين القدامى ولكنهم ممزوجين بأرباب السوابق والمجرمين) فيما إذا كانت صنيعة الاجهزة الامنية-العسكرية الروسية أم أنها شركة مرتزقة عسكرية خاصة مستقلة؟ وهذا اللغز ترك الباب مفتوحاً لاحتمالات وسيناريوهات عديدة، حتى جعلت البعض يغردون خارج السرب!!! طغى تصور أن ما جرى في روسيا هو عبارة عن مغامرة غير محسوبة من قبل رئيس مرتزقة فاغنر حيث استغل النجاحات العسكرية (المدفوعة الثمن طبعاً) التي حققتها شركته العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وبالتحديد بعد السيطرة على سوليدار وباخموت، مما دفعهُ الى الاعتقاد بأن الجيش الروسي قد ضعف استنادا الى ادائه غير الكفوء في المعارك والدولة غير قادرة على كسب الحرب، حتى اعلن في مرات عديدة بأن أي انسحاب لمرتزقته ستنهار معه هذه الانتصارات. وبالتالي فإنه اراد ان يُظهر نفسه بطل هذه الحرب ومجموعته القوة العسكرية الاهم فيها، وأن نجاح التخطيطات التكتيكية-السوقية التي ينتهجها تؤهله لقيادة الحرب.
وتدريجياً تصاعدت علوية (ألانا) لديه ليطرح نفسه (القائد العسكري المحنك ذو الرؤية الاستراتيجية المختلفة)، وليصل الامر الى حد انتقاد الخطط والتحركات العسكرية لوزارة الدفاع والمطالبة بإقالة وزير الدفاع ورئيس الاركان وقيادات اخرى. بدورها لاحظت القيادة العسكرية الروسية ان مجموعة فاغنر عدلت عن دورها التنفيذي وتجاوزت الضوابط العسكرية، فهددت بحل المجموعة وتفكيككها بحلول 1/تموز-يوليو، إذا لم يتم توقيع تعاقدات مباشرة مع الوزارة وتدخل تحت أمرتها. كما أضاف استخدام بريغوجين لوسائل التواصل الاجتماعي (اصبح من الشخصيات العشر الاوائل الاعلامية-انترفاكس) الى إعتقاده بان شعبيته تتزايد خصوصاً لدى الروس المتطرفين والمتعصبين (القوميين اليمينين) التواقين لمزيد من النجاحات العسكرية التي تعثرت في بداية الحرب، حتى وصل الامر به الى الافصاح عن طموحاته السياسية والاعلان عن (الترشيح لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة في أوكرانيا 2024)، ومع سخرية الخبر إلا إن الاعلام المضاد لروسيا حللهُ على أساس أنه قصد انتخابات موسكو وخلافة بوتين. أما التطور الاخطر في زيادة عقدة التفوق السايكولوجية عند بريغوجين فكان ناجماً عن سماح الرئيس بوتين والكرملين له بتجنيد السجناء الروس، غير المدربين على السلاح، من جهات مختلفة، وفق عقود مدتها ستة أشهر للخدمة في أوكرانيا، ( وبهذا تمكن من زيادة قواته الى 50.000 متعاقد لخوض الحرب-سكاي نيوز) مقابل حصولهم على العفو والحرية من السجن. ناهيك عن إعتماد فاغنر على التمويل والتسليح من وزارة الدفاع والمطالبة بذلك علناً وبشكل مثير للجدل! مع أن هذا الامر هو غير متعارف عليه مع الشركات العسكرية التي، يفترض عند استئجارها او التعاقد معها ان: أولا تأتي بأسلحتها ومعداتها ولا تطلب من الجهة المتعاقدة معها سوى اجورها المادية، وثانيا تحاول الشركات إظهار قدراتها التي تتفوق بها على الشركات المماثلة من خلال ما تمتلكه من الطائرات والاسلحة المتقدمة وعدد قواتها البشرية. فمثلا ان النسخة الأمريكية لفاغنر وهي شركة بلاك ووتر-أكاديمي تتبجح بأنها تمتلك 23.000 متعاقد وان لديها اسطول طائرات خاص من ضمنها هليوكوبترات هجومية، أما شركة G4S البريطانية فتفتخر بأن لديها أكثر من 500.000 متعاقد متواجدين حول العالم مع أسلحتهم، في حين ان شركة فاغنر توظف حوالي 25.000 -30.000 متعاقد عسكري (بدون السجناء) وتعتمد بالكامل على تسليح الدولة الروسية. (بالمناسبة فان اريك برنس مؤسس بلاك ووتر ذكر لقناة فوكس نيوز، انه كان بإستطاعته أن يوقف الهجوم الروسي على اوكرانيا لو أن الرئيس بايدن سمح له بذلك). أضف لكل ما سبق فإن علاقة بريغوجين الشخصية بالرئيس بوتين، والتي وظفها أو استثمرها بعقلية تجار الحروب من خلال إمكانية التصرف بحرية كاملة في الحرب، متناسيا ان تشكيلات شركته بالأساس ممولة ومرتبطة بالدولة وبأجهزتها الامنية والعسكرية المختلفة. وخير دليل على ذلك أن اطراف عديدة من شركة فاغنر لم تؤيد تمرده المسلح وان نائبهُ سارع الى المطالبة بوقف أي تحرك ضد الجيش الروسي لانه سيصب في صالح أعداء روسيا الذين “ينتظرون رؤية تفاقم وضعنا السياسي الداخلي” حسب تعبيره. وحتى التحذير من خطورة قوات فاغنر المتواجدة خارج روسيا، في الشرق الاوسط وافريقيا وأمريكا اللاتينية، من إمكانية تمردها على النظام ايضاً، لم يحصل حيث بقيت تلك القوات تقوم بواجباتها بصورة اعتيادية. هذا التحليل يمكن ان ينسحب الى التفسير الثاني لتمرد فاغنر، حيث اعتمد على نظرية المؤامرة الداخلية-الداخلية بين قيادات في الكرملين وقائد مرتزقة فاغنر بمعية جزء من الجيش الروسي، لا سيما بعد ان فُسِحَ المجال لبريغوجين وبحكم واقع الحرب لان يكون قريباً من شخصيات الصف الاول وجنرالات عسكرية وأمنية في القيادة الروسية العليا. وهذا ايضاً يمكن الاستدلال عليه من خلال خطاب بوتين الذي انتقد قادة التمرد ومن تعاون معهم لخيانتهم، وأكد بأن الذين أعدوه سيعانون من عقاب لا مفر منه. وهذا ما دعمه خبر حملة تطهير مسؤولين عسكريين في الجيش الروسي-الجزيرة- وأعلن فيها عن احتجاز وتوجيه تهمة التواطؤ لضابط كبير (سيرجي سوروفيكين) نائب قائد العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا. التحليل الثالث لدافع التمرد يتعلق بالعامل الخارجي وكيف أن مخابرات الغرب واميركا استطاعت الوصول الى بريغوجين واغرائه بالمال، لكي ينشق عن روسيا ويضعفها داخلياً مستغلاً الهجوم المضاد الذي تشنه القوات الاوكرانية المدعومة من كل دول الناتو والولايات المتحدة بصورة غير مسبوقة. وهذا ما أكده بوتين في خطابه 26/6 حينما اتهم الغرب والولايات المتحدة بأنهم حاولوا اشعال صراع عسكري-عسكري الغاية منه أن يتقاتل الجنود الروس بعضهم مع البعض الاخر في حرب أهلية دموية. هذا التحليل (او الإتهام) قد إستند برأيناعلى ثلاثة أمور مهمة: أولها، الفكرة التي تقول ان المرتزقة تعتمد بالاساس على مبدأ الحصول على المال والإستعداد للتحالف مع من يدفع أكثر، وان الولايات المتحدة لها باعٍ طويل في التعامل مع الشركات الامنية الخاصة وتوظيفها من قبل اجهزتها العليا لخدمة اغراضها الخارجية. ثانياً تصريح الرئيس بايدن في وارشو 2022 والذي قال فيه “لا يمكن لهذا الرجل [بوتين] ان يبقى في السلطة، وبالتالي فان الولايات المتحدة تبقى متهمة ومهتمة بإستغلال كل ما قد يضعف سلطة بوتين او إسقاطه. ثالثاً: وحسب CNN، حذرت الولايات المتحدة مسبقا، استنادا الى معلومات استخباراتية عالية الدقة حصلت عليها من داخل روسيا، من نوايا بريغوجين في احداث أمر ما، ولكنها لم تبلغ جميع حلفاءها بذلك.
وقد يعلل هذا الامر إصرار بايدن وحلفائه الاوروبيين على تبرئة جانبهم والاعلان قبل كل شيء بأنهم لم ولن يتدخلوا في الشأن الداخلي الروسي؟ )لكن الجميع يغفل حقيقة أن الولايات المتحدة، نتيجة لتحقيق قام به جهاز الامن الفدرالي FBI، كانت قد أتهمت فاغنر ورئيسها بريغوجين على اساس انه كان راس الحربة في قضية التدخل الروسي بالانتخابات الامريكية في 2016، والذي اثبتته CIA بعد اعوام، وحينها هدد بايدن نظيره بوتين بأنهُ “سيدفع الثمن”)، ووجهت له (رئيس فاغنر) شخصياً تهمة التأمر للاحتيال على الولايات المتحدة، بزعم التدخل والتاثير على نتائج الإنتخابات لصالح الرئيس السابق ترامب. ومع وجود ما يشير الى ذلك، إلا أن هناك من ظل يصر على أن الولايات المتحدة وكسبيل للإنتقام من بريغوجين وشركته، اغرته بالتحرك الداخلي لكي تضعه في مواجهة مع الجيش الروسي، خصوصاً وأن الحرب في أوكرانيا لم تنجح في إذلال روسيا او زعزعة مكانتها الدولية، حتى بعد محاولة تغيير طبيعتها الى حرب استنزاف طويلة ما زالت السيطرة الروسية مستمرة فيها، وبذلك فمن غير المستبعد أن يفتح الجانب المضاد جبهة ثانية وفي عقر دار بوتين. (لقد لمحت مصادر اخرى لدور مشابه لقائد فاغنر في إشارة للدور الروسي، ولكن من دون أدلة، في التأثير على استفتاء استقلال اسكتلندة 2014 واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي). اما التفسير الاخير وهو الأكثر غرابة لسبب تمرد مرتزقة فاغنر فهو الذي وصل الى حد اعتبار ما حدث، ونهايته السريعة الدراماتيكية، عملية مدبرة من الجانب الروسي بهدف التخلص من هذه المجموعة وزعيمها، مع العمل على استبدالها بقوات دفاعية نظامية رسمية أو ادخال متعاقديها تحت قيادة هيئة الاركان ووزارة الدفاع الروسية. ربما الذين يدعمون هذا السيناريو اعتمدوا على حقيقة امتعاض وشعور الادارة الروسية بالحرج الكبير من الخروقات والتصرفات اللاقانونية واللاانسانية التي ارتكبتها شركة فاغنر العسكرية على الاراضي الاوكرانية، والتي قد تتسب في إثارة قضايا قانونية وإنسانية ضد روسيا من قبل المحاكم الدولية. فمن وجهة نظر القانون الدولي والدولي الانساني وبروتوكولات جنيف أن الجرائم التي ترتكبها الشركات الامنية العسكرية الخاصة تُسأل عنها الدولة التي استأجرتها أو تعاقدت معها أو يحمل متعاقديها جنسيتها. ولهذا وبما أن مرتزقة فاغنر قد ارتكبوا اعمال وحشية دموية عنيفة كثيرة في أوكرانيا (وقبل ذلك في مناطق اخرى مثل سوريا وليبيا ومالي)، فلقد وصل الامر الى مطالبة بعض الدول الاوروبية قبل شهرين بوضع فاغنر رسمياً على قائمة الاتحاد الاوروبي للمنظمات الارهابية وايقاف التعامل معها، فإنه من الممكن أن روسيا سارعت لانهاء دور فاغنر المنفصل (المستقل) عن القوات الروسية، واعتبرتها جهة متمردة خارجة عن القانون (حتى وان كانت تخدم الموقف الروسي في الحرب) ووجه المدعي العام الروسي تهمة (تنظيم تمرد مسلح) الى قائد فاغنر وحث الامن الفيدرالي على اعتقاله. هذه الاجراءات قد تجنب روسيا أية تبعات قانونية دولية قد تثار ضدها في المستقبل القريب أو بعد نهاية الحرب، خصوصاً وأن المحكمة الجنائية الدولية كانت جادة في التحقيق بجرائم الحرب المرتكبة في أوكرانيا إثر مذكرة التوقيف (ما زالت سارية المفعول) التي اصدرتها بحق بوتين قبل أشهر، ولكن كل هذه الأمور لا تبرر إتهام روسيا بفبركة هذه العملية. الشيء الوحيد الذي اتفق عليه المحللون ان تمرد فاغنر قد اضعف موقف وهيمنة بوتين على الدولة، وشكل ضربة قاصمه لليد الفولاذية التي يحكم بها البلاد، وسيظل الواقع الداخلي يؤرقهُ.
(هذا اذا ما استثنينا الخيال والمعلومات، التي روجت لها وسائل الإعلام الغربية والأمريكية، حينما قالت ان بوتين مريض ومن يظهر على الشاشات هو بديله، او انه بمجرد ما اعلن قائد فاغنر تقدمه نحو موسكو هرب بوتين او تم نقله الى جهة مجهولة، او الإعتقاد بان كل ما حققته روسيا في الحرب هو من صنع فاغنر أو على الاقل المساهم الاكبر فيه، وان حلها وانسحابها يعني بداية لهزائم روسية كبيرة في الحرب، وكل ذلك يدخل في باب التمنيات- (wishful thinking. فنتائج هذا التمرد يمكن أن تحتمل ايضاً رؤية معاكسة ومغايرة تتجلى في زيادة قوة الرئيس بوتين، بعد أن حُسِمَ مصير بريغوجين بالنسبة لهُ، وإعادة تنظيم وضع قوات فاغنر القانوني بعد تسليم اسلحتها الثقيلة، وبالاخص للذين لم يشتركوا بالتمرد، بعرض عقود مباشرة عليهم ليصبحوا رسميا تحت سيطرة القادة العسكريين في وزارة الدفاع، أو الذهاب الى بيلاروسيا او العودة الى الحياة المدنية. كما عزز بوتين ثقته الشعبية من جديد عبر نجاحه في جعل القوة المسلحة العليا في الدولة هي الجيش و وزارة الدفاع من دون منازع. كما ابدى قدرة عالية على حماية سمعة الجيش الروسي من خلال اعادة بث الروح المعنوية بين جنوده النظاميين التي حاول زعيم فاغنر التشكيك بها، عن طريق الأيحاء ان مرتزقته هم وحدهم من صنعوا الإنتصارات! ناهيك عن قراره الواضح بالاستمرار في الحرب الاوكرانية وبألتاكيد ستشهد هذه الحرب شراسة وعنف واستراتيجيات جديدة حتى تحقيق الاهداف المعلن عنها، ولم يعد هناك من خيار للرئيس بوتين سوى الخروج منها منتصراً، خاصة وانه استطاع ورغم كل العقوبات الاقتصادية الدولية ان يحقق استقرار اجتماعي واقتصادي وأمني فاجأ الروس أكثر من مفاجئة اعدائه في الخارج. أضف الى ذلك نجاحه في تعميق علاقاته الخارجية مع حلفاءه وأهم القوى المؤثرة في النظام الدولي مثل الصين، وشرق اوسطية مثل إيران وتركيا والسعودية والتي تُبقي وتدعم مكانة روسيا العالمية كقوة كبرى لا يمكن التنازل عنه.
واخيرا فأن المسألة المهمة والدروس الأهم التي يجب استنباطها مما حصل مع شركة فاغنر، هي ان هذه تجربة اخرى تتجاوز فيها شركة امنية أو ميليشيا مسلحة مهماتها وتحاول ان تضع نفسها فوق القانون وسلطة الدولة، وتفرض رأيها بقوة السلاح عليها، بل وتهدد وجودها! وهذا الامر حصل مع بلاك ووتر سابقاً، ويحصل في السودان الآن، ويمكن ان يحصل في العراق في اية لحظة. وعلية فإن السؤال الذي مازال ينتظر الاجابة هو هل ستستمر الدول متمسكة بفكرة ومبدأ استبدال القوات الوطنية والجيوش النظامية بالشركات الامنية الخاصة أو الميليشيات المسلحة، وبعد كل التهديدات التي يمثلها وجود وعمل مثل هذه التنظيمات ونشر السلاح من خلالها؟ ومتى يدرك الحكام، الذين يبحثون عن نجاحات آنية إعتمادا على مرتزقة همهم الوحيد هو الحصول على المال والسطوة، بأن أسلوبهم أو نهجهم هذا يعرض سيادة وأمن ووحدة اراضي دولهم وارواح موطنيهم الى اخطار وتهديدات وجودية؟
*أكاديمية وكاتبة عراقية
1154 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع