بقلم الروائي طارق احمد السلطاني
قصة سفر ايوب الى مدينة اللاذقية في سوريا
اهتم ايوب بدراسة موضوع نقل تلك الارسالية الى بايروس , واكتشف ان العديد من الناقلين البحريين ووكلائهم قد اعتذروا عن نقل هذه الشحنة التي لايتجاوز وزنها المائة طن , والتي تشكل حمولة جزئية او متفرقة بالنسبة للسفينة العائدة والحد الاعلى لحمولتها . وطوال المسافة البحرية مابين البصرة وبايروس , كانت هذه الاسباب سببا لبقاء الارسالية مركونة في مخازن الميناء لمدة تزيد على السنة . رغم هذه الصعوبات والاعذار التي اطلقها العديد من الناقلين البحريين في رفض التعاقد على نقل هذه الارسالية , الا ان ايوب قطع على نفسه عهداً على نقلها الى بايروس في اليونان .
اخذ يلوم نفسه لهذا المأزق الذي وقع فيه . واصل دراسة هذا العرض حتى ساعة متأخرة من الليل , غارقا في بحر التفكير العميق , حتى صار تفكيره صورة من صور آلام الانسانية القاسية !
فهذه الرحلة البحرية الطويلة عبر خلجان وبحور العالم من ميناء ام قصر في البصرة الى ميناء بايروس في اليونان هي سفرة شاقة ومكلفة جدا .
بقي ايوب صاحيا في تلك الليلة , حتى اشرقت الشمس زاهية وضاءة , وانجلى الصباح مؤذنا بحلول يوم دافىء . كانت اضواء ذهبية تتلآلآ فوق صفحة المياه الداكنة , حيث ينحسر البحر .
اخذ يسمع اصوات عرائس البحر تغني ! اصغى بأنتباه الى اغانــي الصــباح
الشجية !!
اخذ يهمس الى نفسه قائلا :
اين سمعت هذا الغناء ؟!
ان الخبرة الطويلة اعطته الحكمة , وكل ما ابدعه الفكر البشري المتعب قد اجتمع في كتلة صغيرة احتوتها هذه الجمجمة التي يحملها فوق كتفه ... يعرف انه اذكى منهم جميعا ! رصدت عينه الثالثة مياه البحر الذي تغني فوقه هذه العرائس ! هذا الغناء الشجي , الآخاذ , الناعم , المرتعش , الغنج, حتى بدت الطبيعة في اللاذقية وكأنما انطلقت في عيد , وهي تستقبل هذا الصباح الجديد مشرقا وجميلا !
* * *
كاد ايوب يطير من الفرح , ففي اللاذقية تسير خطوط للملاحة البحرية يوميا , وتبحر السفن من اللاذقية الى ميناء ليماسول في قبرص ومن ثم الى ميناء بايروس في اليونان مباشرة . كما تبحر سفن اخرى الى موانىء عديدة تقع على شواطىء البحر الابيض المتوسط لنقل البضائع والاشخاص . ان تلك الخطوط الملاحية البحرية تشبه تماما خطوط النقل بالباصات والشاحنات والسكك الحديدية البرية فوق الارض.
بعد اتمام الاجراءات الكمركية ودفع عوائد الميناء واجور الخزن حملت الارسالية على ظهر الشاحنات لنقلها برا الى اللاذقية , ثم تعبأ داخل حاويات لتنقل بحرا الى بايروس .
اوكل ايوب مهمة تعبئة الحاويات وتحميلها على ظهر الباخرة لنقلها الى بايروس , الى احد المخلصين الكمركيين الذي تعرف عليه اثناء سفراته السابقة الى اللاذقية .
* * *
ان لقمة الطعام اذا لم تمضغ في الفم بصورة جيدة , لاتهضم في المعدة بصورة تامة! بل انها تسبب عسرا في الهضم .
ان كل عمل ينفذ من اجل خدمة المجتمع , من قبل أي انسان في العالم , يتطلب منه بذل المزيد من الجهد والمتابعة والنزاهة .
( فعليك يا ايوب ان تواصل الجهد ! ان تتعب ! ان تواصل وصول البضاعة سالمة, فهي امانة في عنقك ! )
كل هذه الافكار اخذت تدور في مخيلته يوم انطلقت الشاحنات نحو اللاذقية . اخذ يتزايد دوران هذه الامور في رأسه اثناء جلوسه مع صديقه عبد لتناول طعام الغداء واحتساء كؤوس البيرة الذهبية المثلجة .
اخذت الكلمات تظهر امام ناظريه بحروف بارزة , من خلال شاشة زجاجية دائرية تشبه قرص الشمس تماما ! بل انها اشرقت امامه كشمس حقيقية ! اخذ شعاعها يتكسر على عينيه , اخذ الشعاع يرتفع رويدا ... رويدا فوق ذرى الجبال والاشجار والبنايات العالية , فتصبح السماء من حولها بلون احمر جميل . قطع ايوب حبل الصمت الدائر حول المائدة وقال :
هيا بنا يا صديقي عبد ! انهض بسرعة !
ماذا حدث ؟
لقد قررت الآن , السفر الى اللاذقية , هل ترافقني في هذه السفرة ؟
لامانع لدي , فانا اتمتع باجازتي الصيفية من نادي الفروسية لتوقف سباق الخيل في الصيف .
* * *
وفي تمام الساعة الرابعة من عصر ذلك النهار , جلسا في المقعد الخلفي لسيارة الاجرة الصالون التي انطلقت بهما مسرعة كالبرق . رفع عينه الثالثة من خلال نافذة السيارة , فأبصر امامه عملاقاً طويلا , اسوداً , مخيفا , ممددا على الارض ؟! الفي كيلومتر ! من البصرة – بغداد – دمشق – اللاذقية . شرعت امامه هذه الرحلة طويلة جدا ! فأقلقه ذلك غاية القلق , واحس فعلا بشيء من الفزع . لم يدوم هذا الشعور الا هنيهه , حين نزل من السيارة وارخى ساقيه قليلا. عاد بمخيلته الى الماضي , الى ايام حداثته, الى بدايات العمل التي غرست في نفسه التفاني في حب العمل بكل امانة وصدق . والواجب عليه ان يكسب المال
( الرزق ) بالجهد والتعب الحلال . كان شعورا رائعا حقا ان يقف ايوب وصديقه عبد هناك , في الاعالي , واصوات الصيف من حولهما والنسيم العليل يداعب وجهيهما , لدى وصولهما الى مدينة العريضة اللبنانية الواقعة على الحدود قبل الوصول الى مدينة اللاذقية السورية , تجولا في المدينة لفترة قصيرة واشتريا كمية من المواد الغذائية والمشروبات التي تباع بأسعار رخيصة ومخفضة للمسافرين كأسعار السوق الحرة للبضائع المعروضة في تلك المخازن الموجودة على الشارع الرئيسي المخصص للسيارات التي تنقل المسافرين الى مدينة اللاذقية . وفي تمام الساعة الثانية من ظهيرة اليوم التالي للرحلة اودعا الحقائب وجوازات السفر لدى ادارة فندق البحري المطل على البحر مباشرة في اللاذقية .
على الفور اتصل ايوب هاتفيا بمكتب المخلص الكمركي للاستفسار عما توصل اليه بشأن شحن الارسالية ؟
لكن ! جرس الهاتف ظل يرن في المكتب دون اجابة . ثم دار قرص الهاتف على بيته, فردت على النداء زوجته قائلة:
ان زوجها رجع الى الميناء قبل قليل . للاشراف على تحميل الحاوية الاخيرة .
رد عليها ايوب بقوله :
طيب , من فضلك اخبريه ان ايوب وصل من بغداد على التو . وقد نزل بفندق البحري . سوف اذهب الان الى مطعم اسبيرو لتناول طعام الغداء .
سوف اخبره بذلك .
شكرا جزيلا , مع السلامة .
كان مطعم اسبيرو مزدحما في فترة الغداء . صفت طاولات عديدة جنبا الى جنب لزبائن يبدو من مظهرهم انهم من البحارة او السياح الاجانب من النساء والرجال. كانت غالبية النسوة اللواتي يجلسن قبالة المائدة الطويلة يرتدين السراويل الضيقة والقمصان الخفيفة ذات الالوان الزاهية . اكثرهن شابات جميلات رشيقات, شقراوات وبيضاوات وسمراوات وبرونزيات البشرة. يحتسين انواع متنوعة من المشروبات , ويتناولن طعامهن بالراحة والبهجة تماما . جلس ايوب وصديقه الى مائدة في مقدمة المطعم , عند الواجهة الزجاجية الكبيرة المقابلة للبحر ... اخذ ايوب يملأ كأسه ويشرب . فبعد هذه السفرة الطويلة اخذت تلتهمه شهية الشراب وسط هذا الجو المريح, يرى بوضوح الشارع السابح بضوء الشمس , وتتراقص امامه امواج البحر الزرقاء .
طلب من رئيس الخدم جلب سمكة بحرية مشوية بحدود كيلو غرام واحد واصناف اخرى من المقبلات .
انتهى الغداء , لم يعد في السمكة سوى الهيكل العظمي . لقد كان غداءً شهياً لذيذاً . اخذ الكثير من رواد المطعم يغادرون القاعة , ليتنزهوا على شاطىء البحر.
لفت نظر عبد ضجة صافرة سفينة مغادرة , زاعقة في البحر. قال لايوب باندهاش :
انظر يا ايوب ! انظر الى الراقصين فوق سطح السفينة . انهم نفس الاشخاص الذين كانوا يجلسون في المطعم قبل قليل!
نعم . انهم نفس الاشخاص . لكن هذه الباخرة محملة في مؤخرتها بسبعة حاويات زرقاء اللون . اعتقد انها تحتوي على الارسالية التي جئنا من اجلها الى اللاذقية !
ان توقعك محتمل وصحيح بنفس الوقت . فقد كان تقديرك للارسالية ووفقا للاتفاق ثمانية حاويات , فمن المؤكد ان التوظيف الجيد داخل الحاويات قد قلل عدد الحاويات من ثمان الى سبع .
اندفعت السفينة تشق امواج البحر بسرعة هائلة , تتعالى صافرة الوداع , وداع ميناء اللاذقية , ملكة جمال البحر الابيض المتوسط ! تزايد عدد الراقصين فوق سطح السفينة , خاصة من الفتيات الشابات الجميلات اللواتي شكلن سلسلة بشرية على طول سطح السفينة . يرقصن بانسجام تام, وكل فتاة منهن تتلوى بخصرها وتعلو بصدرها , وتهز اطرافها طربا مع الانغام في حركات متناسبة بكل خفة ورشاقة .
اخذت السفينة تبتعد رويدا , رويدا حتى دخلت مدى البصر ... البرزخ ... الذي يرى فيه الانسان صفحة مياه البحر تلامس السماء . غابت عن البصر بعد اجتيازها نقطة لقاء ماء البحر مع السماء . وعلى حين غرة دخل المطعم المخلص الكمركي وهو بحالة تعب وارهاق شديدين ظاهرين, بعد تبادل التحيات بينهما , جلس لفترة قصيرة , ثم اخبر ايوب بان البضاعة قد شحنت على التو على ظهر البابور ( الباخرة ) هيلين . وهذه الباخرة مخصصة لنقل الاشخاص والبضائع ايضا,
وان سفراتها منتظمة وسريعة , مابين اللاذقية وليماسول في قبرص وبايروس في اليونان وقد تبحر الى الاسكندرية في بعض السفرات .
سوف ازودك بنسخ اصلية من مستند الشحن البحري (الستمي) يوم غد .
* * *
انتشى ايوب بكأس نجاحه لنقل الارسالية بهذه السرعة القياسية ! والتي عجز الكثيرون عن نقلها لمدة طويلة من الزمن .
كان شعوره بتحقيق هذا النجاح رائعا جداً . بعد قطع تلك المسافة الطويلة ! فقد كتب عليه ان يقطع الفي كيلومتر ليشاهد هذه المسرحية الحية الرائعة ! والتمتع بمشاهدة الحفل الرائع ! عند مغادرة الباخرة هيلين لمرفأ الود , مرفأ ملكة جمال البحر , مرفأ اللاذقية .
سبحان الله ! فقد تزامن وصوله الى اللاذقية ساعة مغادرة الباخرة للميناء بالضبط, دون أي موعد سابق , حتى ان سفره الى اللاذقية لم يكن في الحسبان اصلا . امام عينيه رأى السفينة تبحر بمحاذاة الشاطىء ! حين اخذت صفارتها تصدر صراخا مدويا , احتشد الركاب , نساء ورجالا يرقصون رقصا جميلا فوق سطح السفينة, دون علمهم انهم يرقصون ابتهاجا لنجاحك بذكاء خارق يا ايوب !
بدأ ايوب وللمرة الاولى يتخذ موقفا نفسيا يناسب الرحلة التي امامه . وذلك انه شعر وقتئذ بالفورة الصحية الاولى من التوقع والانتظار للتجارب المثيرة المتعددة التي يعلم ان الايام القادمة تخبئها له . والحق انه شعر وقتها بعزم جديد فآلى على نفسه الا يتوانى عن شيء يتعلق بمهمته المهنية الوحيدة التي عهدها الى نفسه في هذه الرحلة.
اخذت عينه الثالثة تستعرض تاريخ عمله . فاستطاعت ان ترى بنظرة ثاقبة الى ماضيه : انه لابد قد بذل اقصى جهده طوال سنوات عمله لكي يصبح بشكل ما ناقلا دوليا للبضائع !! وقد استطاع وهو في ذروة مهنته , ان يحقق طموحه .
* * *
قبل حلول ظهيرة اليوم التالي استلم ايوب مستند الشحن البحري مع دعوة لتناول طعام الغداء من قبل المخلص الكمركي السيد كمال . بعد نزهة قصيرة على شاطىء البحر, انعطف كمال بسيارته نحو طريق جانبية تحوطها اشجار فاكهة معمرة عالية من الجانبين . واصل مسيره صعودا في هدوء وثقة حتى وصولهم الى اقصى مدينة تقع على الحدود السورية – التركية. كانت تلك المدينة هي كسب ! كما يوجد مركز كمركي على الحدود يحمل نفس الاسم .
بعد جولة قصيرة في المدينة , تم حجز مائدة في الهواء الطلق بمطعم اسبيرو في كسب . تحت ظلال سقيفة اشجار الكروم المتسلقة . انبهر ايوب لهذا المنظر الجميل للطبيعة , فاشجار الكروم تحتضن اعمدة الشرفة. التفت اغصان العنب حول اعمدة السقيفة الخارجية المحيطة بالمطعم . تتراقص عناقيد العنب على انغام موسيقى الهواء العذبة . فبدت الخضرة والطبيعة اجمل واجمل ! كلوحة فنية خالدة في هذا اليوم الجميل . كل ايام السنة , وفي كل فصولها , الصيف والشتاء , الخريف والربيع , وعناقيد العنب دائمة البقاء !
رغم ارتفاع الشمس في كبد السماء ! باقية ابد الدهر فوق هذه الجبال الشماء ! عند الانتهاء من الغداء .
حانت ساعة الوداع , لكنهم تواعدوا على اللقاء عند حلول المساء .
* * *
من المشاهد التي لاتنسى ان يرى المرء قاعة الولائم الكبرى في مصيف الشاطىء الازرق ؟! تلك القاعة البهية الرائعة , وقد اكتظت بالناس وكان حالها في تلك الامسية . غير ان الصفوف المتراصة من النساء والرجال بملابس السهرة الفاتنة بعددهم الذي يطغى عليه الجنس اللطيف , كان تأثيرا حادا بالطبع , فالموسيقى والاضواء تشيع في القاعة جوا احتفاليا حقيقيا يسود بين الزبائن .
وبين الفينة والفينة يمتزج الرقص بالموسيقى والغناء , تتخلل السهرة دوامات الرقص الجماعي , وتتمايل خصور الصبايا مع ايقاعات المزامير ورجات الطبول .
جلس ايوب وصديقه الى مائدة طويلة ثقلت بانواع المقبلات والفاكهة والطعام والشراب . كما دعا مضيفهما السيد كمال لهذه السهرة عددا من زملائه في المهنة واصدقاء من اساتذة الجامعة . كانت الاحاديث تنطلق على المائدة بكل حرية , يتخللها الضحك والمزاح ببعض الامثال والنكات والقاء ابيات من الشعر القصيرة في بعض الاحيان .
انطلقت الموسيقى بلحن جديد اكثر نشاطا , قام غالبية الشباب من الذكور والاناث الى حلبة الرقص , ووضع كلا منهم ذراعه حول كتفي الاخرين للقيام برقصة جماعية مشكلين حلقات , ويوسعونها , ويهشمونها , ثم يشكلونها ثانية. التقطت عين ايوب الثالثة مجموعة من الفتيات اجتمعن حول مائدة قبالته , تتوسطهن فتاة شابه ذات جمال فتان متميز . كانت الاحاديث والنكات تعلو , والضحكات تلحق بها . لكن الفتاة تنظر الى ايوب وهي صامته , كانت نظراتها جريئة وطويلة ! بادلها ايوب بنظرات جريئة وقوية ! اخذ يعريها من ثيابها ويلتهمها. امعن النظر الى عينيها , كم هما فاتنتين في براءة . كم هما فاترتان من حياء . ما من نظرة الا وتتحدث بالحب وتشعل فكره ! ثم خداها ! تعلوهما حمرة الخجل القانية . الخجل مما توحي به عيناها من حديث ! ثم شفتاها ! واها
لشفتيها ... اذ تبتسمان ... ابتسامة الدعوة الى لقاء . فهي لم تشعر بأي خوف من نظراته , ولم تكف عن النظر اليه ! وكل نظرة منها خير من حديث طويل ! بدت له انثى ذات سر غريب ! بكل حب وروحية الوحدة , وحسن النية , نهض من مقعده , مد يده , صافحها بحرارة , سألها قائلا :
عفوا يا آنسة . هل لك في ان ترقصي معي ؟
بدت الدهشة تعلو وجه الفتاة – كما لو كانت هذه دعوة غير عادية في مثل هذا المكان – نظرت الى امها في ارتباك ! تهز كتفها هزة خفيفة , تسحب نفسها من بين امها واختيها – بدون حسد كانت الام تبدو في سن بناتها – سارت امامه نحو الحافة الخارجية من حلقات الراقصين , ترفع يدها لتتخذ وضع الاستعداد للرقص, تنتظر ايوب بتلهف لايمكن وصفه . اخذت تهز اطرافها طربا مع الانغام في حركات متناسقة متناسبة وايوب يجاملها بحركات شبه راقصة . وفي زاوية شبه مظلمة , احاط ايوب خصر الفتاة , والتي عرف ان اسمها شذى , راحا يرقصان على انغام متوافقة , مع دقات قلبيهما وخطواتهما البطيئة الحالمة , كان يشدها الى صدره بين اللحظة والاخرى , فتبتعد ثانية ثم لا تلبث ان تستسلم . اخذ نهداها يرتفعان ويهبطان, هذان النهدان فاتنان مدمران منذران تفجر الاشتهاء والشبقية المتجسد في جمال جسدها , الظاهر من جمال وجهها ورقبتها ! ذلك الجمال الفريد الوضاء .
ظل ايوب يضع ذراعه حول كتف شذى . استمتعا بالرقص حتى جاوز الليل انتصافه, تشرق في وجهيهما الفرحة والسعادة والبراءة في هذا المكان البهيج.
اخذ تعلق وحب ايوب بمدينة اللاذقية يزداد يوما بعد يوم !! حتى انه فكر بطرح مشروع ترتبط فيه مدينة اللاذقية بمدينة البصرة عبر طريق بري مباشر بمحاذاة الحدود العراقية الايرانية والحدود العراقية التركية .
ما اجمل هذا الطريق البري الدولي والاستراتيجي ؟! الحقيقة... انه اشبه بقناة مائية توصل ما بين الخليج العربي والبحر الابيض المتوسط لتسهيل مرور ( عبور ) الاشخاص والبضائع بين قارتي اسيا واوربا .
في اليوم الثالث استأجر ايوب زورقا بخاريا(*) للقيام بنزهة بحرية . كان البحر بقمم موجاته العالية الزرقاء يجري باتجاه الزورق .
بعد تجاوز سفن الشحن المتوقفة انتظارا للتفريغ او التحميل , توقف الزورق لمرور سفينة كانت تبحر لمغادرة الميناء , كادت تقع مشاجرة عنيفة بين صديقه عبد وقائد الزورق ؟! طلب منه عبد العودة الى الشاطىء فورا ! بعد تدخل ايوب بينهما , اقتنع قائد الزورق بالعودة وانزال صديقه عبد عند شاطىء البحر.
واصل ايوب النزهة البحرية وحده , مستمتعا باصوات السفن المتواجدة في الميناء, طيور البحر البيضاء ترفرف من حوله, وهو يتطلع على امواج مياه البحر الزرقاء القوية وهي ترفع مقدمة الزورق الى الاعلى ! ومن ثم تهبط بسرعة كأن الزورق سيغوص الى اعماق البحر السحيقة !
عند الظهيرة رجع ايوب الى الشاطىء . سأل صديقه عبد قائلا :
لماذا لم تكمل هذه النزهة البحرية الجميلة ؟
لقد انتابتني نوبة قوية من الخوف والخجل ! لم استطع ان اخبرك امام قائد الزورق, فأنا لا أجيد السباحة على الاطلاق, شعرت بخوف شديد عند ارتطام مقدمة الزورق بموجات البحر العاتية ! انها اشبه بجبال مــن الامواج! حين يصدم الزورق هذه الجبال يرتفع الى الاعلى ! ثم يهبط بسرعة شديدة نحو الوادي . خيل لي ان الزورق سيغوص فـي اعماق البحر ؟! الحقيقة . ان الزورق نفسه صار اشبه بقطعة صغيرة من الفلين طافية فوق سطح الماء !!
ضحكا كثيرا وهما يتحدثان عن هذه الحادثة الطريفة . التقطا صور فوتوغرافية فورية عند شاطىء البحرالابيض المتوسط في اللاذقية يومي 14 و 15 تموز july 1979م.
تركت تلك الرحلة في نفس ايوب اثرا قويا لن ينساه طيلة العمر . بعد ان قضى مع صديقه عبد اسبوعاً في زيارة معالم اللاذقية . رجعا الى دمشق . نزلا الى التجول في شوارع واسواق المدينة حال تسليم الحقائب الى الفندق . كما زارا معرض دمشق الدولي , عند وصولهما الى الجناح العراقي تعجبا من شدة ازدحام زوار الجناح العراقي , حيث كانت تقدم لهم الهدايا وبكميات كبيرة من التمور العراقية الفاخرة المعلبة والمغلفة بالسيليفون والمحشوة بلب الفستق والجوز واللوز . هذا التمر اللذيذ بطعم العسل الذي يتناوله العرسان صبيحة كل يوم مــن ايام شهر العسل !!
كان لهذه السفرة الطويلة بالسيارة , وكثرة التجول , والزيارات العديدة لمعالم اللاذقية , واختلاف الجو ما بين مدينة واخرى , كل هذه الاسباب كان لها تأثير سلبي شديد وانحراف خطير على صحة ايوب بصورة مفاجئة !
فقد اخذ يتلوى من آلام شديدة في بطنه ! وشعر ان احشاءه تتمزق في داخله ! مما اضطره الى مراجعة احد الاطباء المتخصصين بالامراض الباطنية في دمشق . وبعد اجراء الفحوصات السريرية طلب منه الطبيب ان يخلد الى الراحة.
وفي تلك الليلة اشتد عليه المرض , واصيب بنزيف دموي حاد ! شعر ان ساعة الموت تدنو منه ! اخذت اشباح الموت تتراقص امام عينيه ؟! فالموت لن يخيفه , لكن الذي اخافه ان يموت بعيدا عن زوجته , اولاده , اهله , اقربائه , اصدقائه ! لقد ارتسمت صور الجميع امام عينيه ... الكل ينادون عليه .. يطالبونه بالعودة اليهم سالما . لقد اراد الله ان يمرض في ارض الغربة بصورة مفاجئة . اخذ يرى تغيير الجو في سرعة مذهلة , تبدد الصحو , ادلهمت السماء , زحفت تلك الغيوم من كل الجهات نحوه اصطدام زحفها بجسده لتكون بروقا لامعة , يتبعها هزيم رعود !!
اخذ يصيح بكل ما اوتي من قوة قائلا :
عبد . ارجوك . اذهب بسرعة لاستئجار سيارة صالون خاصة . اذهب فورا!
اريد ان اموت فوق فراشي !
اريد ان اموت بين اهلي !
اريد ان اموت فوق ارض بغداد الحبيبة !
911 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع