عبدالكريم ابراهيم
عندما يَسرقُ الجفافُ من ميسان اسمها
ثنائيةُ الماء والإنسان تتحول إلى أبهى صورها، وهي تعانق ارضَ الخضراء في مشهدٍ تتناغم فيه كل المشاعر والأحاسيس البشرية، لتكوَّنَ معها ضدية الحقيقيةِ المطلقةِ: الحياة والموت ، الليل والنهار في مقابلةِ قدّ نلمسُ بعضَ إرهاصاتِها، وهي تُلهبُ المكانَ وجداً وحماسةً وتحدي، وتعطيه قدسيته التي يتغنى بها أهله، ويحسده أعداؤه على الهبةِ الإلهيةِ من دون غيرهِ من الأمكنةِ .
خصوصية المكان تجعل سكانه يصابون بهوس الانتماء الروحي إليه،كأنهم على اتصال من نوعٍ خاص، لا نجدهُ سوى في الميثولوجيا القديمة، حيث يُصاب إنسان هذا المكان بالانبعاث والهيجان والثورة، وهو يريد أن يرسم ملامحهُ وأفكارهُ بمداد القصب على ألواح الطين وزرقة المياه الدافئ. تشدهُ متعة المكان الأسر الذي وفر له طقساً فردوسياً طالما حلم به وبحث عنه گلگامش.
ميسان واحدة من مدن المياه الجنوبية التي كوّنتْ علاقة وطيدة مع الماء، لأنها من دونه تفقد هويتها واسمها وكينونتها التي أخذتها عبر الأزمنة الطويلة، ليكون الماء والإنسان على علاقة تصالح دائمة قلّما نجدها في عالمٍ قد يُثيرهُ الماءُ ويزرع فيه الرهبةَ ولاسيماً عندما يتحول هذا الغول الفاتك الذي لا يرحم إلى أداة لقتل وسلب أرواح الأحبة واقتلاع الزرع والبيوت، لذا استطاع السومريون الأوائل أن يروضوا هذا المارد بعبقرتيهم، ويطوّعونه بحرفية الماهر والعارف للطبيعة، فبنوا معابدهم على أماكن مرتفعة كي يكونوا على صلح دائم معه. ربما يكون سكان الأهوار، وأهل ميسان أكثر من غيرهم ذكاءً، فعقدوا اتفاقاً مع الماء الذي لا يرحم، أن يجعلوا منه صديقاً يشاركهم أدقَ تفاصيل حياتِهم، فكانت بيوت القصب الطافيةُ التي كأنّها سفينةُ جدهم نوح (عليه السلام)، هي الحلَ، فاستطاعتْ هذه البيوت المائية تطويع الماء ارتفاعاً وانخفاضاً. ارتضى الاثنان العيشَ مجاورةً وهما يحيكان للطيور المهاجرة قصصاً من لحاء القصب والبردي المعطرة برائحة (الخرّيط) الأصفر و (طابگ التمن) و(السياح) مُداف بالدهن الحر.
اعتادَ الميساني أنْ يردّ بعض هبات المكان والماء تقديراً واحتراماً، ليعيش مأسوراً بهذا الكرم الإلهي، فعاش يشدو لحياة الهور الصافية كي تجود عليه من عطائها الوفير عافيةً وسمكاً وشمساً دفيئةً، وطرّزَ بعض آلامه بحصير قصب صاغتها أنامل (زهرون الصبي) وهو يداعب الحلي والقلائد بنات حواء اللاتي طالما اسمعن حفيف القصب والماء والهور سمفونية بطورها (المحمداوي) ورعشة (نسيم عودة) وحزن (المنكوب). وحاول المعيدي المغرم بجاموسته أن يفك رمز معادلة الماء على أنها (H2O) وتفاعلات (عبد الجبار عبد الله) الفيزيائية وكيف أدهش أستاذه أينشتاين .
هكذا عاشتْ ميسان مع هذا العنصر الذي أعطى للمدينة كل شيء: الالم، العنوان، الوجود، التاريخ، الموت والحياة، ولكن اليوم قد يكون يخون الماء مدينته التي انتمى إليها، وتحول علاقة الصداقة إلى المخاصمة والجفاء، فلمْ يعد من الماء سوى تلك الأيام الخوالي وأحاديث الأجداد وهم يطرّون بـ(مشاحيفهم) عباب الهور منشدين "مشحوفي ، طرّ الهور والفاله بيدي" . وقد يتفاخر أهل ميسان على غيرهم من أبناء سومر بأن ماءَهم مختلف بلذته وطعمه، وربما يبلغ فيهم الطرب مأخذاً عظيماً وهم يهجعون بأغنية طالما كان يرددها الناس حتى اليوم "اسمر وين امربه، شارب ماي عماره". سمرة البشرة زادت ملوحة مع صبخة الأرض، ولكن الماء بخِل بجوده المعروف، وانقطعت صلته بأهل العاشقين له، فقد سلب الجفاف من ميسان اسمها الذي طالما تفاخرت به على بنات سومر وأكد.
""""""""""""""""""""""
• گلگامش: بطل أسطوري سومري.
• الخرّيط: حلوى تستخرج من القصب.
• طابگ التمن والسياح : أكلتان جنوبيتان تُصنعان من الرز.
• زهرون الصبي: صائع ذهب صابئي معروف.
• المحمداوي: من اطوار الغناء الريفي العراقي.
• نسيم عودة والمنكوب: مطربان ريفيان من محافظة ميسان.
• عبد الجبار عبد الله: عالم عراقي من الطائفة الصابئة تتلمذ على يد أينشتاين .
• المشحوف: من المراكب المائية.
• مشحوفي طر.....: اغنية ريفية .
• اسمر وين مربه : أهزوجة ميسانية .
• صبخة : ارض بائرة .
962 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع