عادل شهاب الأسدي
فوق سطح عبّارة
تتراقص مويجات الشط يداعبها نسيم شفيف، تبدو وكأنها تتسارع ناحية الجنوب .في الضفة المقابلة مصابيح تشرئب بألوانها المتلألئة وهي تنسرح فوق مياه النهر فتشكل مثلثات ذهبية تتأرجح عند نهاية الشعاع المنبعث.
الجسر الحديدي الذي يستلقي على ضفتي النهر يأنس بالمارة وهم يعبرون الى الضفة الأخرى .العوالم من حوله مغمورة في لجة من سكون إلاّ من صوت الماء الذي يصفع بدن العبارة الحديدية المعطوبة محدثا إيقاعات رتيبة تعلو تارة وتخبو تارة أخرى . ومن خلفه تتراقص أعواد القصب معانقة بعضها البعض. من سنين خلت والعبارة المعطوبة تربض عند الشاطئ الشرقي لشط العرب بعد أن أحيلت ومثيلاتها إلى التقاعد. ثمة آثار لشظايا قذائف تظهر فوق سطوحها الصدئة المتآكلة إذ لم تكُ بمنأى عن القذائف التي تعرضت لها المدينة ابان حرب الاستنزاف الطويلة التي اشتعلت أوارها في ثمانينيات القرن الماضي.
اعتاد ابو رضا الجلوس عند حافتها الملساء عند ساعات الغروب حيث تُسرّح الشمس جدائلها الذهبية وهي تتحول شيئا فشيئا الى حمرةٍ فاترةٍ تذوب عند الأفق الشارد. كلما اعتصر الحزن قلبه وضاقت به الدنيا بما رحبت،تحمله الذكرى ويعصف به الحنين لأشياء وصور كانت يوما الأقرب إلى نفسه فيهرع إلى ذلك المكان الذي طالما أمضى به أجمل أيام صباه وهو يمرح مع فتية من أصحابه على ضفاف شط العرب .علّه يجد مهربا أو خلاصا لأحزانه ألتي تتلبسه من حين لآخر فلا يجد سبيلا للخلاص من عذاباتها . في غمرة ذلك السكون حملق في أعماق النهر ، فتراءى له ذلك المشهد المروع الذي ما زال يستوطن ذاكرته رغم تعاقب السنين التي تخطت أعوامها الخمسين إذ لم يستطع نسيان حادثة غرق صديقه ( ناصر ) أبن ملا حامد حينما أخرجوه من الماء جثة هامدة بجسده الحنطي وقد بدت عيناه كخرزتين جاحظتين ورأسه وقد تدلى إلى أسفل فيما راحت قدماه تتناوشان الأرض وذراعاه المنلفتان يتأرجحان كحبليّ أرجوحة لتحمله مجموعة من الرجال الذين هَبوا لإخراجه من النهر إلى اليابسة، وها هو ذا يسمع نداءات رفاقه وهم يصرخون بـ (ناصر) محذرين إياه أن لا يبتعد كثيرا عنهم .
قال أحدهم محذرا إياه:
ـــ المد آخذ بالارتفاع لا تذهب بعيدا يا (ناصر) !
فيما زجره آخر :
ـــ نخشى عليك من الغرق فأنت حديث العهد بالسباحة .
لكنه لم يُلقِ بالاً لنصائحهم وأخذ يسبح مندفعا ألى عرض النهر. لم يك يعلم إن سهام الموت كانت أسرع إليه مما يحسب حتى قضى غرقا وهو يصارع أمواه المد التي أخذت تدفع به إلى أعماق النهر أمام أعين ودهشة أصحابه إذ لم يقدر أي منهم على فعل شيء لإنقاذه ..
كان ناصر محبوبا وقريبا الى قلوب رفاقه وكانت صحبته تعطيهم نكهة خاصة ومميزة لما يتمتع به من طيبة وحسن خُلق ، وقد هزت حادثة غرقه أفراد أسرته وخصوصا أمه التي راحت تندبه وتنعاه بحرقة آسفة على عمره الغض الذي لم يهنأ عاتبة على إبنها الذي لم يصغِ ِ لتحذيراتها .
وفي غمرة ذلك المشهد استحضر أبو رضا أمه التي كانت توبخه وهو صبي بعمر ناصر محذرة إياه من الذهاب والسباحة في شط العرب خوفا عليه من الغرق.
قالت له أمه : ــ إياك والذهاب الى النهر يا بُني أرجوك لا تفجعني بموتك ! إلاّ إنه كان يتسلل خلسة ساعات الظهيرة القائظة بصحبة رفاقه ليمضوا أوقات مرحهم في السباحة في النهر ، بيد ان حادثة غرق صديقه أمام عينيه تركت أثرا كبيرا في أعماقه جعلته يعزف عن السباحة في النهر رغم عشقه الكبير لها..
لا يعلم ابو رضا سر هذا الحزن والألم اللذين يحيطان به وكأنه وُلِدَ ليعيش محزونا بقية عمره وأنّ القدر لا يريد له أن يحيا مثل الآخرين وإن حاول الهرب يجد نفسه غارقا في لجة ذلك الشعور. ربما حياته الأُسرية وحالته المادية المضطربة التي يعيشها كانتا السبب وراء ذلك الحزن فهو مثقل بهمومه البيتية وسبل تأمين متطلبات أفراد أسرته المكونة من ستة ابناء جميعهم لم يتوفقوا في إكمال دراستهم رغم الجهود التي بذلها من أجلهم في تأمين متطلباتهم المدرسية وضعف مدخوله الشهري وكثيرا ما كان يحثهم لمواصلة تعليمهم من أجل مستقبلهم في ظل ظروف هي الأصعب وهو في هذه السن المتقدمة، ما أثقل كاهله وزاده همّا فوق همّ ..كل ما رمى بشباكه في غور هذه الحياة جاءته بمزيد من الخذلان . ذلك ما كان يدعوه للهرب من واقعه المرير لاسيما وهو إنسان يمتلك إحساسا مرهفا وقلبا طيبا .
فيما راحت شمس الضحى تنشر شعاعها الفضي المتلاصف على الماء ، ارتقى ابو رضا سطح العبارة الجانحة وبيده كيس من الخيش ما لبث أن أخرج منه عدة صيد مؤلفة من بكرة وخيط من النايلون وكتلة من العجين وأخرى وضعت في كيس شفاف تحتوي أبدانا مقشرة للجراد كيما تكون طعوما لصيد أسماك مرتقب .
جلس على الركن الذي أعتاد أن يَقدم اليه كلما عَنَّ له أن يمارس هواية الصيد من اجل ان يصطاد بضع حمريات او من سمك الشانك لوجبة الظهيرة . كانت السماء تعكس زرقة رائقة على سطح المياه تزينها ندف غيوم كأنها قطع ثلجية تناثرت هنا وهناك . أخذ يمعن النظر فيها فَخُيلَّ له كأن فارسا يمتطي صهوة جواد يطل عليه من كوّتها يومئ له مبتسما . عاد ورمى بصنارته إلى أعماق النهر وصار ينتظر ..
شريط ضخم مشحون بالصور والأحداث والذكريات صار يمر أمام عينيه . هاهو وجه أمه ينظر إليه من بين أغوار النهر يطفو مبتسما ثم ما يلبث أن يتلاشى منشطرا ألى قطع فضية متلاصفة . أخذت مياه المد بالارتفاع بينما تلاحقت مويجات صاعدة صوب الشمال تسوقها نُسَيّمات رقيقة عذبة . شعر برعشة انتعاش تغمر كيانه ..سحب نفسا عميقا وعَدَلَّ من جلسته ليكون أكثر ثباتا .. فيما أخذت صنارة الصيد بالاهتزاز .. !
1436 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع