عائشة سلطان
بائعة الفجل
الحديث يجر بعضه بعضاً، هو التفسير البسيط للمثل الشائع (الحديث ذو شجون)، أي أن الحديث إذا قلبته، وتذكرت قصصه وأحزانه وذكرياته، قلب عليك المواجع والأحزان، وذكرك بما كنت قد نسيته، وبرغم أن المثل قيل في قصة الأخوين سعد وسعيد، وقتل أحدهما، وثأر أخيه لدم شقيقه، إلا أن الحديث قد يستثير الذكريات في أمور حسنة كذلك، والأمر مرهون بما تستدعيه الذاكرة.
جلست على الغداء يوماً، وكان عبارة عن سمك مشوي وأرز أبيض، مع قليل من السمن، فسألت عن السلطة، فقالت أمي، لم تمر علينا اليوم بائعة الفجل (نوع من الاستذكار لا أكثر، للبائعة التي كانت قديماً تدور أنحاء حينا تبيع الفجل)، فتذكرت في طفولتي امرأة متلفعة بالسواد، تحمل على رأسها قفيراً مملوءاً بالخضراوات الطازجة، فتظل تطوف الحي تنادي على بضاعتها، حتى تنتهي من بيعها.
قلت لأمي أو كانت النساء من أهل البلد يمتهن هذه المهنة؟ أجابت بالنفي، لكنها أكدت أن بعضهن جلسن وبعن في السوق السمك، وحاجيات أخرى مما تحتاجها النساء في تلك الأيام، كما أن هناك سيدة عملت كوسيط في مجال البيع بالتجزئة بين التجار الكبار والنساء في المنازل، حيث كانت معظم النساء لا يغادرن البيت، فكانت تقوم بمهمة البائع المتنقل، وسط استهجان البعض، لكنها لم تُعِر ذلك أي اهتمام.
سألتها كيف امتلكت تلك النساء تحديداً هذه المقدرة على مواجهة مجتمع محافظ وصارم جداً تجاه موروثه وعاداته؟ فقالت بعض المهن عملت بها نساء لسن من أهل البلد، وبعضها احتاج لجرأة ومواجهة من قبل نساء قليلات جداً، وأما الجلوس في سوق السمك والبيع فيه، فقد اقتضته الضرورة والحاجة، وسرعان ما اعتاده الناس، بعد إنكار ومجادلات، خاصة أن دبي مجتمع منفتح، يتقبل أهله التغيير بشكل سلس، مع وجود فكرة المرونة وحرية الاختيار.
تمنيت أن أسمع صوت بائعة الفجل لحظتها، فذلك مشهد يمنح اتساعاً أكبر لفكرة الاختلاف والمرونة وتنوع مستويات المعيشة، والاهتمام بالحرف والأعمال الصغيرة.. هي مجرد أمنية تنعش ذاكرة الطفولة لا أكثر!
1528 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع