د. محمود الحاج قاسم
إشتدي أزمة تنفرجي
عاشت الموصل وعاش أهلها خلال أحداث الخليج وما أعقب ذلك من حصار ظالم ، ضنكاً من العيش ، وموجعات وفجائع شوهت الأرض والهواء والماء والسماء والشجر بترنيمة الفناء ، وعم فيها أنين الموتى وبكاء الجوع يهدي للظلمة نواحه الأليم المقهور، مما أضطر أفراداً من ضعاف النفوس وآخرين من الخيرين إلى الانحراف عن جادة الصواب وسلوك طرق غير مشروعة في سبيل الحصول على لقمة العيش . وتداول الناس خبر بعض اللصوص لما فيها من طرافة.
يروى عن سمير الذي كان عفيفاً أميناً كريم النفس ودوداً محبوباً من الجميع ، محباً لأهله لا يمل من العمل في سبيل توفير ما يشبع تلك البطون . إذا به في أحد تلك الأيام النحسة عندما هم بالدخول إلى داره ، سمع صوت بكاء أصغر أولاده وهو ينادي أمه . . أنا جوعان . . وأعاد نفس الكلمات أطفاله الآخرون بابا نحن جوعانين نريد خبزاً . . نزلت تلك الكلمات عليه كالصاعقة هيجت مشاعره وهزت قلبه المكلوم.
وعذاب رؤية أطفال جوعا عذاب لا يطيقه أحد . . وعذاب النوم جوعاً . . ونظرات عيون الأطفال لأب لا يملك لهم شيئاً . . عذاب لا يمكن أن توفيه كلمات .
يا إلهي ماذا أفعل . . من أين أتي لطابور الجياع بالخبز . الحصة التموينية الشهرية انتهت وهناك ثمانية أيام حتى موعد الحصة التالية .
أدار الأب المسكين وجهه والدموع تترقرق من عينيه ، وخرج على غير هدى وخلال جولته في الطريق ساهماً مذهولاً حاملاً أحزان الجياع وسوط القهر يجلده أخذ يفكر ويحدث نفسه . . الراتب الشهري انتهى منذ منتصف الشهر على الرغم من تقتيره . . ليس له مورد آخر . . ما العمل .
وأخذ يمني نفسه علني أجد أحداً من الأقرباء فأستعين به أو المعارف فأستدين منه . ثم سأل نفسه كيف يساعدونك وأنت لعزة نفسك تأبى السؤال من أي أحد.
ومضت ساعتان في التطواف في الشوارع والتسكع في الأزقة في ظلام الليل الدامس دون جدوى ، وبعد أن لم يحصل على ما يسد به جوعة الأطفال . أصيب بخيبة أمل وقرر العودة إلى الدار صفر اليدين وهو يردد رحماك يارب ما عاد في قوس الصبر منزع .
وبينما هو في طريق العودة ، مر أمام دار عامرة فاخرة ، دق جرس الباب . . ليس من مجيب وعندما وجد باب الدار غير مقفل بإحكام . . تقدم . . لماذا . . ودون أن يفكر دلف من الباب عله يجد أحداً . . ليسأله بعض الطحين . . لم يجد أحداً . . سار عبر الحديقة . . دق أجراس الأبواب الداخلية وطرقها بيده ولم يرد عليه أحد ، ودار حول الدار من الخلف . . وتفاجأ أخيراً خلال طرقه الباب الخلفي بانفتاحه من دون عناء ، حيث قد نسي أهل الدار إقفاله بإحكام لدى خروجهم من الدار .
دفع الباب ودخل وأخذ يفتش فوجد الدار مليئاً بكل مظاهر النعمة والثراء ، لم يلمس أي شيْ واتجه صوب المطبخ فوجد ما لذ وطاب إلا أنه لم يحمل منها سوى ربع كيس طحين كان مركوناً في زاوية المطبخ .
جاء بالطحين مسرعاً يحث الخطى ليقترب ويبهج قلوباً ويسكت أفواهاً جائعة . . قامت الزوجة لعمل الخبز ، وعندما مدت يدها داخل الكيس تفاجئت بصرة ثقيلة داخل الكيس . . أخرجت الصرة وصاحت الزوج فتحوها ، إذا بها حلي ذهبية يقدر ثمنها بآلاف الدنانير ، أعاد ربط الصرة كما كانت .
أكل الأطفال الخبز وشبعوا وناموا ، وفي الصباح أخذ الصرة وذهب إلى تلك الدار ، دق الجرس لم يرد عليه أحد . . نادا الجار بأن أهل الدار في سفر ربما سيعودون بعد يومين ، هل من طلب . . أجاب لدي أمانة أريد إيصالها لهم . . إعطني إياها لأوصلها . . لا يمكن لابد من تسليمها باليد . . إذاً تعال بعد يومين .
عاد صاحبنا بعد يومين وطرق الباب . . خرج صاحب الدار . . وفي خجل وصوت خافت ذكر له قصته أنه ليس لصاً وإنما كان قبل يومين جائعاً وأولاده يتضورون من الجوع . . لم يتحمل صراخهم . . ولم يجد سبيلاً مشروعاً لإسكات تلك الأفواه سوى الدخول إلى دارهم وأخذ كيس الطحين . . وهذه الصرة وجدها في الكيس . . ورجاه أن يعتبر ما أخذه إما ديناً أو هبة منه فإنه في ضيق شديد .
تهلل وجه صاحب الدار وتناول الصرة وقال له هنيئاً وحلال لك ما أخذت ، وبارك الله فيك وبأمانتك ، ودع عنك ما تخجل منه وعش بعد اليوم في أمان أيها المعدن النادر في هذا الزمان ، فلك عندي منذ اليوم راتب شهري هبة مني لتستعين به على قضاء حوائجك ولكي تعيش وأطفالك عيشة كريمة . وأعطاه راتب ذلك الشهر وحمله مواد غذائية من لحم ورز ودهن وسكر، وودعه بكلمات ملئها العطف والحنان مشحونة بآيات نابعة عن إيمان صادق وقلب رحيم .
عاد إلى بيته وهو يردد ، حمداً لك ربي وشكراً على ما أنعمت وفرجت كربتي . . وصدق القائل
(( وإذا بك ضاق الأمر فقل . .اشتدي ازمة تنفرجي .. قد أذن ليلك بالفرج ))
1435 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع