د. سعد ناجي جواد*
ما سر زيارة مصطفى الكاظمي وبرهم صالح الاخيرة الى ايران؟ وما تاثيرها على سيادة العراق؟
قبل اسبوع، وبدون سابق انذار، انتشر خبر مفاده ان رئيس الوزراء العراقي السابق السيد مصطفى الكاظمي وصل ايران في زيارة مفاجئة (شبه رسمية)، وكان في استقباله السيد حسين امير عبد اللهيان وزير الخارجية الايراني. وتم نشر صور اللقاء الذي جمعهما مع علمين صغيرين للبلدين على طاولة صغيرة وسطهما. ثم اُعلِنَ ايضا عن وصول السيد برهم صالح الى طهران في زيارة (شخصية) ولم يتم نشر اي صورة او تفاصيل عن هذه الزيارة الثانية.
اثارت الزيارتان الكثير من الاسئلة وعلامات الاستفهام والمخاوف.
علامات الاستفهام جاءت من كل مطلع على المواقف الايرانية من الرجلين، فكلاهما قد اتُهِمَ بصورة مباشرة وغير مباشرة من قبل ايران بانه ساهم في، او سهل وتستر على عملية اغتيال الجنرال قاسم سليماني والسيد ابو مهدي المهندس، (والتي تمت بطائرة مسيرة قرب مطار بغداد كانون الثاني/يناير 2020). اما الفصائل المسلحة الموالية لإيران في العراق فلقد ذهبت ابعد من ذلك بان تحدثت عن مساهمة ودور فعال من قبل الرجلين في عملية الاغتيال، واتهمهما بالارتباط بوكالة المخابرات الامريكية والموساد الاسرائيلي، وهددتهما بقصاص قريب.
فيما يخص الزيارة نُقِلَ عن الكاظمي قوله انه تلقى دعوة من ايران للزيارة، وانه اصر ان تكون علنية وان يتم التعامل معه بما يليق بمنصبه السابق. وهذا ما حصل واظهرته طريقة الاستقبال. ثم ظهر تضارب بين ما قاله هو وبين ما صدر عن ايران، حيث قال وزير الخارجية الايراني عندما سئل عن سبب الزيارة بان الكاظمي ابدى رغبة في زيارة ايران وان الاخيرة رحبت بذلك، بكلمة اخرى ان ايران لم توجه له دعوة!
اما بالنسبة للمخاوف فان اكثر من قلق من هذه الزيارة في البداية هم الاطراف التي نجحت في تشكيل الحكومة الحالية (الاطار التنسيقي). والسبب هو ان قادة الاطار يعلمون جيدا بان نجاحهم في الحصول على الاغلبية جاء بطرق ملتوية سبق وان كُتِبَ عنها الكثير، وان الطعن بوجودهم قانونيا لا زال ممكنا. استنادا لذلك فسر هؤلاء الزيارة بانها تمهيد لعودة الكاظمي للحكم، وان ايران قد قبلت بتلك العودة ارضاءا للولايات المتحدة، وانها استدعت الكاظمي لتأخذ منه تعهدا لان لا ينقلب عليها اذا ما تم ذلك. وهذه تخيلات لا يمكن ان يقبلها اي انسان حتى وان كان محدود التفكير. كما لا يمكن تَقَبُل فكرة ان ايران يمكن ان تضحي بحلفائها في السلطة الان والذين يطيعونها طاعة عمياء، وتستبدلهم بشخص او اشخاص (الكاظمي وصالح) معروفين جيدا بولائهم الى الولايات المتحدة، وقد اثبتوا ذلك من خلال افعالهم وتصرفاتهم واحاديثهم، سواء كانوا في السلطة او خارجها.
آخرون حاولوا فلسفة الامر بطريقة اخرى، حيث قالوا ان الكاظمي عندما كان في منصبه لعب دورا كبيرا في تنشيط الحوارات السعودية-الايرانية، وكذلك لعب دورا في التهدئة بين ايران والولايات المتحدة الامريكية، وان ايران تحتاجه الان للعب نفس الدور. ربما يكون هناك بعض الصحة في ذلك، حيث ان العراق في عهده احتضن لقاءات سعودية – ايرانية قيل انها كانت على وشك ان تتوج بإعادة العلاقات بين البلدين. ولكن هذه هي ليست حقيقة الموضوع. فالكل يعلم ان خلفيات هذه القضية توكد ان الكاظمي لم يكن العقل المدبر لها، ولا بانه هو من بادر فيها او اصر عليها، وكل ما جرى كان برغبة الطرفين السعودي والايراني، ومباركة امريكية، لتهدئة الاوضاع في منطقة الخليج العربي وخاصة بعد الحرب الاوكرانية. اما الان فلقد توترت الامور وتوقفت المحاولات بعد ان علمت الولايات المتحدة ان ايران تقف الى جانب روسيا في الحرب الاوكرانية وتزودها بأسلحة متطورة. اضف الى ذلك ان هذه القضية التي ازدادت تعقيدا لم يعد بإمكان شخص مثل الكاظمي المعروف بقدراته المحدودة حتى عندما كان في الحكم يمكن ان يتصدى لها.
التفسير الوحيد المقنع الذي يمكن ان يكون مقبولا هو ان ايران، التي تحدثت صراحة وفي اكثر من مرة، بأنها انجزت، او على وشك ان تنجز ملف قضية اغتيال الجنرال سليماني لكي تقدمه للمحكمة الجنائية الدولية، او لكي تعلنه لتبرر اي عملية انتقامية قد تقوم بها. ومن اجل ذلك قامت باستدعاء الكاظمي ودونت افادته في تلك الزيارة القصيرة (وكذلك افادة برهم صالح). وهناك ادلة تدعم هذه الفكرة. اولها ان الكاظمي اصر على ان تكون الزيارة علنية كي يضمن عودته سالما، وثانيها انه بعد ان اقتنع ان الموضوع هو مجرد استفسارات قام بإبلاغ برهم صالح وطمنه وشجعه على القدوم كي يتم اغلاق هذا الملف. والاهم كي يتخلص كلاهما من التهديدات والاتهامات الكثيرة التي توجه لهما، خاصة تلك التي مازالت تصدر عن المليشيات المسلحة والمتنفذة الموالية لايران في العراق. وعندما اطمأن برهم صالح لذلك ذهب الى ايران لمدة ساعات وعاد.
هذه الرواية الاخيرة ان صحت، والدلائل المذكورة تقول انها الاقرب للتصديق، قد لا يجد فيها الرجلين اي باس، وربما يستطيعان ان يبرراها على اساس انها خدمة للعدالة في قضية حساسة بل وخطيرة لا تزال المنطقة تعاني من اثارها، وانهما ارادا ان ينفيا عن نفسيهما تهمة التورط في جريمة قتل دولية، الى غير ذلك من التفسيرات الشخصية التي تشعرهما بالراحة النفسية والامان. ولكن هذا المسالة لا يمكن ان يُنظَر له من جانب شخصي بحت. لان ما حدث لا يخص الرجلين فقط، وانما له اثاره على العراق. بكلمات صريحة اكثران هذه القضية، واكرر ان صحت، تمثل اهانة للعراق وخرقا لسيادته. وكان الافضل ان يتم معالجتها بطريقة اخرى تحفظ كرامة العراق والعراقيين، وبعد ذلك كرامتهما كأشخاص، كأن يتم ارسال استفسارات ويتم الرد عليها بوجود محامين يوثقون العملية. طبعا من يقرا هذه الكلمات بالتأكيد سترتسم على وجهه ابتسامة ساخرة وسيقول: وماذا بقى من سيادة وكرامة العراق منذ بداية الاحتلال وحتى اليوم؟ ولهؤلاء اقول ان لا يتم احترام السيادة من قبل الخصم فهذا امر اعتيادي، او ان يأتي ذلك من قبل عملاء فهذا امر طبيعي، او من قبل ناس بسطاء فهذا امر مفهوم ويعذر هؤلاء لجهلهم. اما ان يحصل ذلك من قبل اشخاص كانوا وحتى قريب (رموزا) للسيادة العراقية، سواء شئنا ام ابينا، او اعترفنا بذلك ام لم نعترف، فهذا امر ليس بالهين على الاطلاق. لا بل يمكن القول ان هذه القضية تعتبر اهانة وطنية بكل المقاييس، ناهيك عن كونها تعتبر خرقاً للقوانين العراقية. ويمكنني ان اورد امثلة لها اول وليس لها اخر عن حالات رفضت فيها دول تسليم مجرمين ارتكبوا جرائم ثُبِتت عليهم بالوثائق والادلة وبعد محاكمات واضحة، لكن دولهم رفضت تسليمهم الى دولة اجنبية، او لم تسمح باستجوابهم من قبل أطراف خارجية، وتولت هي اتخاذ الاجراء القانوني المناسب بحقهم لانهم من رعاياها، وهذا الامر توكد عليه كل القوانين المرعية حول العالم.
اتمنى بصدق ان يكون استنتاجي خاطئا، واتمنى ان تكون التأكيدات التي سمعتها من اخوان من الداخل هي ايضا غير صحيحة، واتمنى أكثر ان يبادر الرجلان الى تكذيب هذه الرواية، ليس من اجل كرامتهم وسمعتهم فحسب، وانما من اجل كرامة وسمعة وسيادة العراق التي هي فوق كل شيء. وعند عدم صدور هكذا تكذيب فلا يحق لاحد ان يلوم كل من يحمل نظرة سلبية تجاه الاشخاص الذين حكموا العراق منذ بداية الاحتلال ولحد اللحظة.
*كاتب واكاديمي عراقي
1569 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع