قصة قصيرة - الطبيب المتهم

الدكتور محمود الحاج قاسم محمد

الطبيب المتهم

أنهى صديقنا ( خ ) رحمه الله دراسة الطب في ستينات القرن الماضي واستلم شهادته مسروراً ، ولكن سعادته لم تكن كاملة لأن قلة وزنه وطوله عن زملائه كانا يقلقانه وينغصان حياته . حاول خلال سنوات الكلية جاهداً أن يتجاوز وزن الخمسين من الكيلوات إلاّ أنه ظل دون ذلك حتى بعد التخرج . وعندما قدم مستمسكاته ليلتحق في دورة ضباط الاحتياط كان وزنه شفيعاً له حيث أن قوانين الجيش يومها لم تكن تسمح دخول الجيش لمن وزنه أقل من الخمسين كيلو غراماً. وبذلك أفاد من نقص الوزن الذي كان يقلقه ، فسبق أقرانه في الحياة الطبية المدنية وقاسى الآخرون الأمرين في حرب ضروس في شمال العراق .... وهكذا تحققت إرادة الله ( عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ).

سارت أموره في المستشفى بشكل روتيني كأي طبيب مقيم دوري ، وبعد إنهائه الفترة المقررة في قسم الباطنية انتقل إلى قسم الجراحة . وفي قسم الجراحة قضى فترة ليست بالقصيرة . أصبح خلالها صاحب خبرة لا بأس بها جعل مسؤول الردهة الطبيب الاختصاص معتمداً عليه وواثقاً من خبرته .
ومرت الأيام وصديقنا ماض في عمله برغبة واندفاع دون ملل ، يستقبل المرضى ويثبت طبلاتهم ، ويعرضهم على الاختصاصي الذي يحدد مواعيد العمليات ، يساعد ألاختصاصي في العمليات ، يعتني بالمرضى بعد العملية ويودع من يتشافى منهم بكل رحابة صدر وشعور بالغبطة والسعادة من نجاح العمليات .
وفي مساء يوم مثقل بالعمل ، أخلد في دار الأطباء المقيمين للراحة قليلاً ممنياً نفسه بنوم هانئ حيث أن مرضاه كانوا في ذلك اليوم في أحسن حال ، ليس بينهم من يحتاج للمتابعة المستمرة خلال الليل . ولكن الرياح الطيبة لا تهب كما نرغب دائماً ، ففي ساعة متأخرة من الليل رن الهاتف ... تناول السماعة ... إذا بالطبيب المقيم في شعبة الباطنية ( م ) يستدعيه لفحص مريض أصيب بخراج في منطقة الإلية إثر إعطائه قبل أيام حقنة عضلية من مادة ( البوتازوليدين ) التي ألغيت من التداول فيما بعد . أسرع في إجابة الطلب ، ولدى فحص المريض تبين له أن الخراج ( كانكرين غازي ) ... وأن حالة المريض سيئة جداً .
طلب نقل المريض لشعبة الجراحة ... حيث تم عزله في غرفة منفردة ... أخبر الطبيب الأخصائي المسؤول عن الردهة بالأمر وشرح له الحالة ... أجابه الأختصاصي بأن الحالة شديدة الخطورة ولا تحتمل التأخير ... أسرع بفتح الخراج ريثما أصلك . أجرى شقين في مكان الخراج في الإلية وفجر الخراج ... ولما بدأ بإجراء الشق الثالث لإكمال العمل ، توقف ولم يكمله ، إذ سمع شهقة من المريض سكت بعدها قلبه . وخلال قيامه بهذا العمل كان أقرباء المريض وأصدقاؤه متجمهرين عند باب الغرفة التي كان قد أقفلها وكان بعضهم أعضاء في الجيش الشعبي ومسلحين ، حار بأمره لوهلة ماذا يفعل ؟ وكيف يبلغ ذوي المريض بما جرى ... ولكنه وبكل رباطة جأش فتح باب الغرفة وصرخ في وجه الوقوف ، انتشروا وبسرعة في الردهات ... فتشوا عن الطبيب الأختصاصي الذي من المفروض أنه قد وصل ، وربما قد استوقفه أحد في الطريق ... وفي لحظة انفض الجمع وسنحت الفرصة له بالهرب ... بعد أن أشار للممرضة بأن تسرع في إبلاغ الشرطة المسؤولين عن حراسة المستشفى ، وأن تحذر الدكتور الأختصاصي من الاقتراب من الردهة خشية عليه .
ثم أخذ يتلفت يميناً وشمالاً عله يجد له مهرباً ... حتى ساقته قدماه إلى أقرب باب مفتوح خارج الردهة ... اختبأ خلسة خلفه ... وبقي كذلك لبعض الوقت مرعوباً يرتجف ... حيث سمع المسلحين يتراكضون رواحاً ومجيئاً والشر يتطاير من عيونهم بعد أن علموا بموت صاحبهم يفتشون عن الطبيب الذي كان سبباً في هلاك مريضهم ... وكان يتلصص من شقوق الباب من غير أن يروه ... وبعد دقائق معدودات كانت بالنسبة له دهراَ طويلاً من الزمان ... التفت يمنة فوجد شباكاَ قريباً مطلاً على حديقة المستشفى ... فما كان منه إلاّ أن قفز قفزة لم يقفزها في حياته ولو طلب منه ثانية أن يكررها لن يستطيع القيام بذلك ، إلا أن تلك القفزة كانت المنجية ، حيث أصبح طليقاً بعدها ، وبعد خطوات وصل سيارته وفي لمح البصر استقلها وأدار المحرك وبسرعة فائقة هرب خارج المستشفى ونجا مما لا تحمد عقباه .
ومن هول ما جرى لم يستطع النوم ليلته ، وفي صباح اليوم التالي اتصل بالمستشفى وبعد إطمئنانه على سلامة الجو من أي شيء مريب ، جاء إلى المستشفى وكله ثقة بأن الخطر قد زال والمسألة انتهت والأمور عادت لطبيعتها ، إلاّ أنه بعد ساعات فوجئ بتقرير الطبيب العدلي ( الشرعي ) المدون فيه بأن سبب وفاة المريض (( وجود شقين جراحيين في الإلية ، مع ضربة سكين )) !!!!
راجع الطبيب العدلي وأبلغه القصة وأن الشق الثالث ليس ضربة سكين ، بل شق ثالث قام بإجرائه ...حيث لم يكمله لأن المريض كان قد فارق الحياة ... واحتدم الجدال بينه وبين الطبيب العدلي هو يقول بأنه شق غير مكتمل قام به والطبيب العدلي يقول لا يمكنني أن أسميه شقاً جراحياً وإذا كنت مصراً على قول ذلك تعال وأكمل الشق لكي أعتبره شقاً جراحياً. وكان جوابه ... معاذ الله أن أمثل بجثة ميت ، لكي أبرئ نفسي . واستمر النقاش بينهم وتدخل الجراحون الآخرون والإداريون ... وبعد جهد جهيد اقتنع الطبيب العدلي على مضض ... وبدل تقريره ... فحمد الله صاحبنا على نجاته من تهمة القتل وتهمة ضرب المرحوم بسكين.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1684 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع