الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ مُتمرِّس/ جامعة الموصل
المُلا عثمان الموصلِيّ والذكرى المئوية لرحيله- الجزء الثامن
في مثل هذا اليوم 30 كانون الثاني من سنة 1923م والمصادف يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادي الآخرة من عام 1341ه لبى نداء ربه الكريم المُلا عثمان الموصلِيّ عن عمر يناهز التاسعة والستون في بيت ابنه فتحي عثمان الموصلِيّ في منطقة (فضوة عرب) وبالقرب من محلة (باب الشيخ) في بغداد، وكان بجواره تلميذه الشيخ عبد الفتاح معروف (1891-1989).
لقد فُجعت بغداد بوفاة الموصلِيّ في يوم كان شديد المطر، وقد حضر جنازته خلق كثير. ودُفن جثمانه في مقبرة الغزالي في جانب الرصافة من بغداد.
يقول أحد الأصدقاء: سمعتُ من جدّي أن السماء أمطرت بغزارة أثناء تشيع الموصلِيّ مما اضطرهم إلى تغطية التابوت بچادر، وقد قيل في حينها أن السماء تبكي على رحيل المُلا عثمان الموصلِيّ.
يذكر معاصرو الموصلِيّ أنه كان إذا قرأ القرآن تزاحمت الصفوف من حوله، وإذا أنشد أطرب من حوله، وهو مع ذلك خطيب مفوّه وشاعر فصيح يجيد اللغات العربية والتركية والفارسية.
لقد تزوج الموصلِيّ بزوجتين، الأولى موصليّة وهي السيدة (رخيتة الحاج رزوقي) وقد رُزق منها بولديه أحمد وفتحي، والزوجة الثانية هي سيدة تركية واسمها (مُعزَّز) ولم يُخلِّف منها.
ولده الأكبر (أحمد) بقي هو وذريته في الموصل، أما ولده الثاني (فتحي) فقد تزوج من إحدى بنات الأغوات الأكراد في السليمانية، وقد استقر في بغداد في منطقة (فضوة عرب) وبالقرب من محلة (باب الشيخ).
ونحن نستعرض في هذه السلسلة من المقالات سيرة حياة شيخ القُرّاء وعميد الموسيقى العربية وآثاره، نجد من المفيد استعراض أهم محطات حياته والتي كانت حافلة بالعطاء والإنجازات المؤثرة.
ولد عثمان في محلة (باب جديد) في الموصل سنة (1271هـ الموافق 1854م) في بيت قديم لعائلة فقيرة، كأبن رابع لوالده السقاء (عبد الله) الذي توارث مهنة السقاية. وفي السابعة من عمره توفي والده، ثم أصيب بالجدري وفقده بصره ليغرق في عالم الظلام، وليقضي بقية حياته مكفوف البصر.
كفله جيرانهم الوجيه محمود بن سليمان أفندي العُمري، وضمّه إلى أولاده وعَيّن له معلما يُحفظه القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة والأحاديث الصحيحة وجانباً كبيراً من الشِعر. كما رتَّب له من يُدربه على الموسيقى ودراسة قواعدها وأصولها.
درس عثمان العلوم العربية والدينية على يد علماء عصره وأفاضل بلده؛ ومنهم الشيخ عمر الأربيلي والشيخ صالح الخطيب والشيخ عبد الله الفيضي الخضري وغيرهم من علماء الموصل وشيوخها آنذاك. وتعمّق في دراسة الدين وارتدى زي رجال الدين، وهو الزي الذي لازمه ولم يتركه طيلة حياته.
أرسله الشيخ (عبد الله رفعت العُمري) الذي كان يشغل موقع مدير بلدية الموصل إلى تركيا للدراسة عند أحد معارفه هناك والمدعو (أنور متولّي) الذي علّمه أصول القراءات والمقامات.
توفي (محمود أفندي العُمري) والموصلِيّ في العقد الثالث، فأخذه ابنه الوجيه أحمد عزت باشا العُمري (1828-1892) إلى بغداد وفُتح له أبواب المجتمع البغدادي الذي تلقفه إعجاباً بصوته وحباً بفنه وإنشاده الرائع للقصة الشريفة والمقامات العراقية.
تعكَّر صفو حياة الموصلِيّ في بغداد مع والي بغداد (تقي الدين باشا) على أثر خطاب ألقاه الموصلِيّ في جموع الناس المحتشدة غمز فيه بالخلافة العثمانية وتجاهل السلطان العثماني ولم يتوجه بالدعاء له، فتم نفى الموصلِيّ لفترة وجيزة من قِبل والي بغداد إلى مدينة سيواس Sivas شرقي الأناضول القريبة من أنقرة، ثم تدخل وجهاء بغداد وتشفعوا له فأعادوه إلى بغداد.
وبعد أن قضى الموصلِيّ خمسة أعوام في بغداد عزم على أداء فريضة الحج، فحجّ حجته الأولى عام 1886م ثم عاد إلى الموصل ولازم كبار شيوخ بلده؛ منهم الشيخ محمد بن جرجيس الموصلِيّ الشهير بالنوري حيث درس عليه وأخذ عنه الطريقة القادرية، كما قرأ القراءات السبع على الطريق الشاطبية على الشيخ المقرئ محمد بن الحاج حسن والذي أجازه بها.
لم يبقى الموصلِيّ في الموصل طويلا بل سافر إلى إسطنبول وتعّرف على مشاهيرها وعلمائها وأخذ عن الشيخ (مخفي أفندي) القراءات العشر والتكبيرات وقد أجازه فيها.
تعرّف في إسطنبول على شيخ مشايخ الدولة العثمانية (شيخ الإسلام) أبو الهدى الصيّادي الرفاعي الحسيني (1849-1909م)، والذي كان يحظى بمنزلة الكبيرة عند السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، وكان سببا في تقريب المُلا عثمان إلى السلطان.
أرسله السلطان عبد الحميد مُمثلا شخصيا له في مهام دينية وسياسية، منها إرساله إلى ملك ليبيا محمد المهدي السنوسي (1844-1902) حيث طلب إرسال قوة من رجال السنوسي من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا عام 1877، فأكرمه السنوسي أجلّ إكرام ونجح المُلا عثمان في مهمته.
توجه الموصلِيّ من ليبيا إلى مصر عام 1895 ودامت زيارته خمس سنين، وتتلمذ على يديه هناك إمام المُنشدين الشيخ علي محمود (1878-1946) وشيخ قُراء مصر محمد رفعت (1882-1950) وسيد المغنيين والملحنين المصريين عبده الحامولي (1836-1901) والموسيقار محمد كامل الخلعي (1870-1931) الذين درسوا على يديه المقامات وفنون الموشحات.
لقد أدخل المُلا عثمان إلى مصر نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما، كما قام بإدخال المقام العراقي مثل، المقام المنصوري الموصلِيّ في الغناء التركي، ولا يزال هذا الطراز يسمى في تركيا بطراز الحافظ عثمان الموصلِيّ.
وفي العام 1900م طلب السلطان عبد الحميد الموصلِيّ في إسطنبول، واختاره ليكون سفيرا له في الشام والحجاز للعمل على التفاف الجماهير حول الخلافة العثمانية، فاستقل باخرة متوجهة إلى بيروت عام 1906، وأقام فيها ثلاثة أشهر ثم سافر إلى دمشق.
بقي الموصلِيّ في دمشق حتى العام 1913، حيث تتلمذ على يديه عدد من قُراء دمشق، كما التقى به سيد درويش (1892-1923) ودرس على يده لفترتين، وقام سيد درويش باقتباس موشحات دينية وأغان من الموصلِيّ الذي كان له الفضل الأكبر في نمو مواهب سيد درويش ووصوله إلى مرتبة متقدمة.
بقي الموصلِيّ في دمشق ثلاث سنوات، وفي العام 1908 سافر إلى الديار المقدسة للحج ولدعوة الناس لوحدة الصف والولاء للدين، وبعد إنجاز مهمته عاد إلى دمشق بقطار الحجاز. ولم يطل بقاءه في دمشق بعد قيام الاتحاديين بانقلاب عام 1908 وخلعهم السلطان عبد الحميد سنة 1909 مما أثار قلق الموصلِيّ على عائلته وأصدقاءه من رجال الدولة.
سافر الموصلِيّ إلى إسطنبول ليجد صديقه الصيّادي قد نُفي وتوفي. وفي يوم الجمعة ذهب إلى جامع السلطان أحمد وقرأ القرآن وخطب خطبة سياسية باللغة التركية أوضح فيها أن الانقلاب حركة سياسية لا تُغيّر من صميم الخلافة الإسلامية.
وبعد أن شعر الموصلِيّ بتغيّر الجو السياسي والاجتماعي عليه، حزم أمتعته وكتبه وودع أصدقاءه واستقل باخرة إلى بلاد الشام عام 1909.
بقي الموصلِيّ في دمشق حتى العام 1913 بانتظار أن يكمل ابنه أحمد تعمير مسجد (شمس الدين) في الموصل بدعم من الاستانة والذي صار فيما بعد مدرسة خاصة بالملا عثمان.
وفي الموصل قام صديقه الحاج إبراهيم بن الحاج مصطفى دلال باشي بتهيئة دار للموصلي في محلة باب السراي في الموصل.
وفي الخامس والعشرين من حزيران عام 1913 وصل الموصلِيّ إلى بلدته الموصل فاستقبل فيها استقبالاً حافلاً ووجد الناس نشوى بأخباره وتوّاقين إلى رؤيته.
لقد أراد الموصلِيّ أن يُنشئ في الموصل الطريقة المولوية، وجعل مسجد (شمس الدين) مركزاً لها، إلاّ أنّ نشوب الحرب العالمية الأولى عام 1914 قضى على هذا المشروع. كما توفي الحاج إبراهيم دلال باشي، فحزم الموصلِيّ أمتعته متوجها إلى بغداد بالكلك.
وصل الكلك إلى تكريت أولا، وتوجه المُلا عثمان إلى تكية الآلوسي حيث استقبله الشيخ علاء الدين الآلوسي (1861- 1922)، وكان الآلوسي عضوا في مجلس المبعوثان العثماني فأكرم ضيافته.
ثم وصل الكلك بغداد ونزل الموصلِيّ في دار ابنه الثاني فتحي، فتسارع عليه القوم لزيارته ويتبارون في تكريمه. وبقي الموصلِيّ يقيم في دار ولده فتحي في منطقة باب الشيخ (فضوة عرب) ولا تزال هذه المحلة تسمى (محلة الحاج فتحي)، وبالوقت نفسه كانت له غرفة يستريح فيها بعد الصلاة في جامع الخفافين، وفيها جاءه عدد من رجال الدين وابلغوه بقرار تنصيبه شيخا لقُراء بغداد، واخبروه بأن يحضر إلى جامع (نائله خاتون) (جامع المرادية حاليا) مقابل وزارة الدفاع بين باب المعظم والميدان. وقد أسهم المُلا عثمان في تخريج كبار المنشدين والقُراء في العراق.
لم تكن بغداد تختلف عن أية ولاية عثمانية أخرى حيث كان الجو السياسي العام ينبئ بحدوث حرب، وكانت الأنباء تصل تباعا، فكثرت الشائعات وارتفعت الأسعار وشحّت المواد الغذائية في الأسواق. وما أن حل صيف عام 1914 حتى قامت الحرب العالمية الأولى. فدعت الحكومة العثمانية في بغداد من يستطيع حمل السلاح إلى الانخراط في الجيش، وفي أرض خالية في باب المُعظّم اتخذتها كمكان لتجمع حاملي السلاح لغرض ارسالهم إلى جبهة الأناضول.
في تلك الفترة كانت الروح المعنوية لدى المواطنين تجاه حكومة ولاية بغداد ضعيفة، فكثيرا ما كانوا يتهربون من الخدمة العسكرية حيث كان الشباب يُساقون إلى جبهات القتال بعد سفر طويل عبر البراري والقفار حتى حدود روسيا، وقد أطلقوا على هذا السفر اصطلاح (سفربر).
لقد استعانت حكومة ولاية بغداد بالموصلِيّ في رفع الروح المعنوية عن طريق الأناشيد الحماسية لنظمها وتلحينها ومن ثم تدريب التلاميذ عليها وحفظها مع قلة المدارس آنذاك؛ وفي الوقت نفسه تعليم الطلاب مبادئ الموسيقي وأسلوب الإنشاد.
وبعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وانتهت بسقوط الخلافة العثمانية احتل الإنكليز العراق وأحكموا سيطرتهم عليه مما أدى إلى قيام ثورة العشرين سنة 1920 التي أبدى فيها الشعب شجاعة فائقة في مقاومتهم. وكان الثوار يجتمعون في جامع الحيدر خانه للاستماع إلى المُلا عثمان وهو يخطب فيهم ويحرضهم على الجهاد، فيخرجون في مظاهرات عارمة أزعجت الإنكليز، وقد أصدر قائدهم (ساندرز) بياناً يهاجم فيه هذه الاجتماعات والمحرضين لها.
لقد انتهت الثورة وتم تأسيس المملكة العراقية الهاشمية عام 1932. وقد اعتكف المُلا عثمان الموصلِيّ في غرفته في جامع الخفافين في بغداد، وقد زاره فيها الملك فيصل الأول (1883-1933م).
رحم الله المُلا عثمان الموصلِيّ في الذكرى المئوية لرحيله (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) (الأحزاب: 23).
https://www.youtube.com/watch?v=M_MpicoelTo
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
1702 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع