د.عبد يونس لافي
في وداعِ "العَمَد"
لك الرحمةُ من الرحمنِ يا وَلَدي
(اليومُ الفارقُ الصاعِق)
يوم الثامن والعشرين من الشهر الأول من عام 2022
الگاردينيا: في العام الماضي نشرنا المادة، وهذه السنة رأينا من واجبنا أن نعيدها و نقدم التعازي للأستاذ الدكتور عبد لافي وهو مصاب جلل لكنه قضاء الله عز وجل ولانملك إلا أن نردد : لاحول ولاقوة الا بالله.. وإنا لله وانا إليه راجعون
هنا ما كنت قد كتبتُه في الأيام الأولى،
لوداعِ وَلَدِي الى حيثُ لا عودةَ،
إسقاطًا لما ترك ذلك الحدثُ الصاعقُ،
الذي لم أكنْ لأحْسِبَ أنَّه سيقعُ،
وقتًا وكيفًا، كما وقع.
كنت أُنَظِّرُ للآخرينَ في مثل هذه الحالات،
ولكنّي سأُقلِعُ عن التنظير.
لأعترفَ بضَعْفي،
وضَعْفي هو اقرارٌ بقوةِ خالقٍ
يُعطي ويأخذ،
وقد أعطاني فأخذ.
ثقتي فيك يا ربِّ،
أنَّك أرحمُ مني بهِ،
فَلِحكمةٍ لا نعلمُها،
تنقلُ عبادَك من طورٍ الى طور،
ومن حياةٍ الى حياة،
ثُمَّ تستدعيهم لملاقاتِكَ أنّى شئتَ،
فلكَ الحكمُ، ومنّا الرضا،
ولا شيْئَ بعد ذلك.
ربَّما يَراني الرائي مُبتَسِمًا،
لوقتٍ قصير،
أو أكونُ مُنشغِلًا في امرٍ من الأُمور،
لكنَّ فكري مُتعدِّدُ الأبعاد،
أعيشُ اللحظةَ مُوَزَّعًا في أماكنَ عديدةٍ،
لا تحِدُّها حُدود،
فكرًا ومشاعرَ،
دون ان يشعُرَ بي أحد.
تغيَّرتْ بفراقِه الأشياءُ عندي والمعايير،
أخالُني أُحَلِّقُ بعيدًا،
أعيشُ عالَمًا آخرَ كما أراه،
مخطِئًا كنتُ أم مُصيبًا،
ثم ما ألبَثُ أنْ اعودَ الى عالم المادة،
لأنظرَ اليه خلافَ ما كنتُ أرى.
حينما أكونُ وحدي،
تنتابُني نوباتُ بُكاءٍ لا أستطيعُ إيقافَها،
أو الإفلاتَ منها،
وحينما أكونُ في موقفٍ،
يتعذَّرُ فيه البكاءُ، نعم يتعذر،
أنتهي الى دموعٍ حارقةٍ تملأُ عينيَّ،
وهذا ما اعْتدتُ عليه، وكم يتكرَّر!
كَلِماتٌ، تَمْتَماتٌ
تدفَّقت وما تزالُ تتدَّفقُ،
دون أنْ تتوقَّفَ،
وهيهاتَ لها ....
ففي كلِّ لحظةٍ،
تَذْكارٌ لعبارةٍ قيلتْ، ولن تتكرَّر،
أوِ اسْتِرْجاعٌ لِبَسمةٍ أفَلَتْ،
لكنَّها لمّا تَزَلْ أمامي ماثلة،
أوِ اجْتِرارٌ لِموقفٍ،
يتراءى لناظري حيًّا كما حدث.
وإذْ أُسَطِّرُ هنا بعضَ هذي الكلمات،
فإنَّما هو القليلُ من دَفْقٍ مُضْطَرِب،
ما انْفَكَّ يُمزِّقُني، فيُحيلُني كائِنًا مشدوهًا،
معصوبَ الرأسِ، مكتوفَ اليدين،
لا يدري مَن، وما، وكيفَ، وأين!
عُذرًا فأنا الوالدُ فقد الولدَ العَمَد،
في ريَعانِ شبابِهِ فَجْأةَ دون مُقدِّماتْ،
فلا تلومَنَّ عباراتٍ،
يُثقلُها الحزنُ، وتخنقُها العَبَرات.
أخالني جُلَّ وقتي،
أُطْلِقُ العَنانَ لِفكري،
أُشَرِّقُ تارةً ثم أُغَرِّب،
تأسرُني اللواعِجُ الكامنةُ في صدريَ المأْزوز!
ولستُ بالقادرِعلى كبحِ ما انا فيه!
كلُّ ما حولي، بهِ يذكِّرُني،
إنْ كنتُ في داخلِ البيتِ أو في خارجِه،
هو في فكري لا يفارقُني!
حينما يُغَيِّبُكَ الموتُ يا "عَمَدْ"
ماذا اقولُ وصبري قد نَفَدْ
كلماتي فيك ايُّها "العَمَدْ "
لن تكونَ كما هي الكَلِماتْ،
انها الجَمَراتُ تُسْتَلُّ من قلبٍ،
هو كالتَّنّورِ إذْ يتوقَّدْ.
هكذا كانت لحظةُ الفراق،
حين تناثرت تلك الجَمَراتُ،
حِمَمًا من الأعماق.
رُحماكَ ربي،
أبَعْدَ هذا الفراقِ تلاقْ؟
(إنَّ القلبَ لَيَحْزَن)
وأيَّ حزنٍ يا "عَمَدْ"!
(وإنَّ العينَ لَتَدْمَع)
وأيَّ دمعٍ يا "عَمَدْ"!
كيف للكلماتِ أنْ تَتَجَرَّأَ
لوصفِ فقدِكَ يا "عَمَدْ"؟
كيف لها أنْ تصِفَ
ما أنا فيهِ من كَمَدْ؟
إني اتألَّمُ أيُّها الوَلَدْ
ألمًا ما تحمَّلهُ أحدْ!
ألَمٌ الَمَّ بمُهْجَتي
أوْدى، وأقلقَ راحتي
لا استطيعُ تحرُّكًا
إنْ قمتُ أقعدني،
إنْ نِمْتُ أخشى نومَتي
هكذا بَعدَك الحالُ!
أبوكَ ما عادَ سعيدْ
هو بين ضَرامٍ مدْلَهِمْ،
وجُرحٍ غارَ لمّا يلْتئِمْ،
دون أن يدري قريبٌ أو بعيدْ!
أذكرُ ذلك اليومَ، سألْتُكَ خدمةً،
حَسَنًا أجَبْتَ،
" لا تعْبَأْ، فإنَّ الأمرَ سهلٌ سوف أُنْجِزُهُ".
وغادرتُ على أملٍ كما اخبرتَني،
أن تقومَ بما أوْعدْتني،
وحين عُدتُ، إذا بكَ
دونَ ذلكَ قد رحلتْ.
كيف يا ولدي تغادرُنا دون وداعْ،
آهٍ، ولا شك، أدري
لم يكن لك في ذاكَ خَيارْ،
إنَّه الله أرادَكْ،
فلهُ التسليمُ في أيِّ قرارْ.
ما زالت يا ولدي،
رسالتُكَ الأخيرةُ في يدي.
لم أدْرِ ألّا رسالةَ بعدها،
نعم، لا رسالةَ بعدها، انْقطعتْ
منك، يا ولدي، الرَّسائلْ!
كان يومًا فارقًا
بل كان يومًا صاعقًا،
صادفَ الثامنَ والعشرين،
من أوَّلِ شهرٍ،
لِعامِ الفينِ واثنينِ وعشرين.
نعم وكان مساءَ يومِ جمعة،
حين رُحْتُ إلى سوقٍ قريب،
بعدها يمَّمْتُ وجهي شطرَ مسجدِنا،
أنوي الصلاة،
ليفاجئَني نِداء،
لم اكنْ أقدرُ ان أجيب،
كنت في طريق مزدحم،
لكنْ اجبتُ مرغَمًا،
عند تكرارِالنداءْ،
واذا بالصوتِ يصحبُه صُراخْ:
عَمَدْ... تعالَ إنَّه عَمَدْ،
غيَّرتُ وِجهَتي دون شعورْ،
لم يعُدْ معنى لِشاراتِ المرورْ،
كدتُ أصدِمُ غيري،
كلُّ شيئٍ أماميَ أظلَمَ،
غير أنَّ الله سلَّمْ.
دخلتُ شارعَنا،
واذا بوسائطِ الإسعافِ،
لبَّتْ نداءَ الأهلِ، تملأُ كلَّ ركنٍ حولَنا،
ومضاتُها الحمراءُ أرْهبَتِ الطريق،
سدَّت منافذ بيتنا.
وهَرَعْتُ يغشاني الذُّهول.
دخلت البيت أركضُ صوبَ غُرْفتِه،
أحدُ الاشخاصِ أوقفني،
منعَ الدُّخول،
ففريقٌ مُسْعِفٌ كان هناك،
سألتُ ما القِصَّةُ؟
قالوا سيُخبرُكَ الفريق.
وطفقتُ ألهَجُ بالدعاء وبالنجوى،
صُراخي راحَ يعلو ثم يعلو،
مُحالًا كان أن أُوقَفَهُ،
حاول مَن قربي يهدِّئُني،
ولكنْ دون جدوى.
بعد وقتٍ، جاء مسؤولُ الفريق،
قال لي نأسفْ،
بذلْنا جهدَنا،
بَيْدَ أنَّ الأمرَ فوقَ ما نقوى،
إنَّها نوبةُ قلبٍ... فتوقَّفْ.
فصُعِقْتُ لا أعرفُ ما جرى لي،
ذهولٌ قاتلٌ مزَّقَني واحْتلَّني!
كيفَ للوقتِ يبدو طرفةَ عينٍ،
بين تلك الثواني من ولادتِهِ،
وتلك التى فيها يُوَدِّعُنا،
ففي كِلَيْهما كان لعينيَّ حظٌّ في البكاء،
قلت في الأُولى:
"قلُ هو الله احدْ"
ليس إنْ أنعمَ حَدْ
يرزقُ المالَ وإنْ
شاءَ انثى او ولدْ
تلك آياتٌ لهُ
بئس إنسانٌ جَحَدْ
ربِّ قد أعطيتَني
قرَّةَ العينِ العَمَدْ
ربٍّ جنِّبْهُ أذى
ما طوى نفثُ العُقَدْ
واحْمِهِ ربِّ وصُنْ
خطوَهُ انّى قصدْ
والآن أُودِّعُهُ الى غيرِ رَجعة،
لكنَّ عزاءيَ أنَّني
سلَّمْتُهُ من هو أرحمُ مني.
أحِنُّ إلَيك أيُّها العَمَدْ،
نعم إليكَ يا ولدي انا مشتاق.
العيدُ بعد العيدِ يأتي،
وليس من يعانقُني عناقَكَ!
كم كنتَ تباغتُني به،
دون أن تترك لي وقتًا لأنهضَ،
كي أبادلَكَ العناق.
975 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع