موفق نيسكو
سورما خانم ومشكلة التأشور في العراق، ج٢، أثَّروها فثوَّروها
أمَّا البطريرك إيشاي داود ابن أخي سورما خانم الذي تم تعيننه وهو طفل بعمر 12 سنة، فقد تم إرساله إلى إنكلترا سنة 1925م للدراسة في مدرسة القديس أغسطينوس تحت إشراف رئيس أساقفة كانتربري دافيدسن، وعاد سنة 1929م وهو في ريعان شبابه وكله حماس واندفاع لتكوين الأمة الآشورية الجديدة مطالباً الحكومة العراقية بالسلطتين الدينية والدنيوية، تساعده بذلك عمته القوية سورما خانم التي غَدت القائد القومي للآشوريين وأصبحت تلقَّب بالأميرة الآشورية، وهي التي تتصِل، ويُتصل بها من قِبل السياسيين العراقيين والبريطانيين والمحافل الإقليمية والدولية لطرح مشاكل وأمور طائفتها، وأصبحت تشرف وتقود الفصائل العسكرية المقاتلة، وقد تطرَّف البطريرك إيشاي في موضوع الآشوريين كثيراً واستأثر بآرائه الفردية لفرضها على رعيته، وتقدَّم بتشجيع من الإنكليز ومن الكنيسة الأنكليكانية بطلب إلى الحكومة العراقية لتشكيل دولة أو حبيسة آشورية بزعامته تمتد من مدينة كفري جنوب كركوك إلى ديار بكر شمالاً، وتشمل مناطق دهوك، زاخو، عقرة، العمادية، وغيرها، فدخل في مشاكل كبيرة مع الحكومة العراقية.
في رد البطريرك إيشاي على برقية وزير الداخلية العراقي حكمت سليمان المرقمة 1104 في 28 أيار 1933م يقول: إن سلطة بطريركيتي تاريخية عظيمة واستعمالها موروث عن تقاليد الشعب والكنيسة الأثورية، وإنني لم ادَّعِ بالسلطة الزمنية، وإنما ورثتها من قرون مضت كتخويل قانوني من الشعب للبطريرك، وكان معترفاً بها رسمياً من قبل الملوك الساسانيين القدماء والخلفاء المسلمين ومغولي خان وسلاطين عثمان (عبد الرزاق الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج3 ص271–272)، علماً أنه لا يوجد أي اعتراف تاريخي باسم الكنيسة الأثورية، من الساسانيين والمسلمين والمغول والعثمانيين، بل هناك اعتراف بكنيسة المشرق السريانية التي كانت تعرف باسم كنيسة فارس من الساسانيين، وباسم النساطرة من الخلفاء المسلمين، وهو اعتراف كنسي ديني فقط لا دنيوي، والبطريرك إيشاي داود وسورما خانم يعترفان بذلك، ففي الرسالة التي وجهها البطريرك إيشاي في 15نيسان 1952م إلى السفير البريطاني في واشنطن يقول: الآن لا بد أن نقول وكما تعلمون أن كنيستنا كنيسة عريقة، وعُرفت في التواريخ الإسلامية "بكنيسة النساطرة" (أرشيف الخارجية البريطانية، وزارة شؤون المستعمرات، ملف رقم PRO.F.O 371\98778)، وتقول سورما خانم بتاريخ 17 شباط 1920م في الرسالة التي وجهتها إلى وزير خارجية بريطانيا اللورد جورج كورزون George Curzon (1919–1924م) تطالب فيها حماية شعبها: سمحت لنفسي أن أكتب هذه الرسالة وأوجهها لسيادتكم لكوني ممثلة للآشوريين الذين عُرفوا رسمياً في السابق "بملّة النساطرة" (سورما خانم، ص117)، وفي اجتماع مع أتباع البطريرك إيشاي في الموصل بتاريخ 10 و 11 تموز 1933م، ردَّ وكيل متصرف لواء الموصل على طلب البطريرك إيشاي بالسلطتين الدينية والدنيوية قائلاً: ترغب الحكومة جداً في أن تعترف لمار شمعون برئاسته الروحية على الكنيسة النسطورية، فيكون بهذه الصفة حائزاً لنفس الصفات التي يتمتع بها سائر رؤساء المذاهب الدينية في العراق، والحكومة لا توافق أبداً بمنح المار شمعون إيشاي سلطة زمنية لأنها لم تمنح أية سلطة زمنية لأي رئيس من رؤساء العشائر الروحانيين في العراق (الحسني، تاريخ الوزارات العراقية، ج3 ص279).
نتيجة تصلب البطريرك إيشاي في مواقفه انشق عنه بعض الآشوريين بقيادة أغا بطرس إيليا البازي (1880–1932م)، وملك خوشابا (1877–1954م)، اللذين كانا منذ السابق يعارضان توجهات البطريرك الانفرادية وتمسكه بالسلطتين الدينية والدنيوية، وكان شعار آغا بطرس الموجه للبطريرك، "الصليب لك والسيف لي"، علماً أن البطريرك إيشاي وجميع القوى السياسية الآشورية قبله لم يكن في مطالبهم مطالب دينية مسيحية بحتة واضحة مثل منح الحرية الدينية للمسيحيين أكثر، فتح معاهد دينية، تدريس الدين في المدارس، رفع بعض المظالم الدينية أو القانونية، مساواة المسيحيين مع المسلمين في كل شيء..إلخ، بل جميعها مطالب سياسية قومية باسم آشور فقط، وفعلاً فقد كان آغا بطرس وملك خوشابا يحملان فكراً سياسياً أكثر من البطريرك، حيث إنهما وإن قادا كفاحاً مسلحاً، لكنهما كانا عموماً يفضلان حل المشاكل مع الحكومة وتثبيت حقوقهم بطرق أكثر سياسية ومنطقية، واستطاع آغا بطرس أن يقيم علاقات جيدة مع الآخرين كالأيزيديين وغيرهم بغية كسب عدد من الأقليات إلى جانب قضيته، وعندما كانا يراسلان الهيئات السياسية كانت رسائلهما معتدلة ومنطقية وكانا يوقّعان باسمهما أو باسم المخلص أو أخوكم آغا بطرس أو ملك ياقو، بينما نجد أن البطريرك إيشاي وفي رسالته إلى رئيس لجنة الانتدابات الدائمة في عصبة الأمم المتحدة في جنيف في 16 أيلول 1932م يوقّع كالآتي: "سيدي لي الشرف أن أكون خادمكم المطيع"، وهو تعبير لا يليق برئيس أعلى لكنيسة.
أخيراً فتشدد البطريرك إيشاي من جهة وخروج العراق من طائلة الانتداب البريطاني في تشرين الأول سنة 1932م من جهة أخرى، أعطى مسوغاً وفرصة ذهبية لقيام الحكومة العراقية كالأمير غازي ووزير الداخلية العراقي حكمت سليمان والقائد العسكري بكر صدقي بالهجوم على الآشوريين رغم عدم موافقة الملك فيصل الأول والسلطات المدنية على التعرض للآشوريين، ففي آب 1933م جرت احداث مروعة في مدينة سيميل قرب دهوك راح ضحيتها مئات الآشوريين، فضلاً عن تشريد آلاف آخرين، وتدمير قراهم وممتلكاتهم، وفي إشارة إلى النكبة التي حلَّت بالنساطرة بسبب قيام الإنكليز بتسميتهم، أثوريين، يُعلِّق كاهن كاثوليكي كان مع الكاتب اللبناني يوسف يزبك على أنقاض نينوى برفقة رئيس بلدية الموصل أحمد بك الجليلي، بعبارة يقول يزبك إنها أوقفت شعر رأسه هي: إن الإنكليز "أثَّروها وما زالوا بها حتى ثوَّروها"، أي أن الإنكليز جعلوا من النساطرة أثوريين إلى أن ثاروا، وجعلوا من سورما خانم (أثورية)، وظلوا يحقنونها بهذا السم حتى ثارت (يوسف يزبك، النفط مستعبد الشعوب، بيروت، 1934م، ص232–243).
وعلى إثر تلك الأحداث قررت الحكومة العراقية نفي البطريرك إيشاي وعمته سورما واثنين من عائلته، فغادروا العراق إلى قبرص في 18 آب سنة 1933م، وفي طريقهم اجتمع أيشاي في فلسطين مع مسؤولين بريطانيين، وقيل إنه أراد البقاء في فلسطين لأنه من أصول يهودية من الأسباط العشرة التائهة من بني إسرائيل الذين سباهم العراقيون القدماء أيام دولة آشور ونبوخذ نصر،وهو من سبط نفتالي تحديداً، لكن اليهود لم يرحبوا به لأنهم يعتبرون النساطرة مرتدين عن اليهودية، ثم غادر إلى قبرص، وهناك طلب من أحد رجال الدين الألمان التوسط لدى هتلر باستعمال نفوذه لصالح الآشوريين، لكن محاولته، فشلت ثم سافر إلى لندن، واستقر أخيراً في ولاية سان فرنسيسكو الأمريكية. وقد وصف البطريرك إيشاي كثير من رجال الدين ورؤساء العشائر النسطورية التيارية(الآشورية)أنفسهم الذين كانوا ينشدون الاستقرار والعيش بسلام مع الجميع مثل، سركيس مطران جيلو وباز وريكان، المطران يوالاها، القس اوديشو، القس هرمز، ملك خوشابا وجكوكيو من روساء عشيرة تياري العليا، ملك نمرود، ملك خمو، ملك يونان، ملك زيا شمسدين، عوديشو إسماعيل شوا من رؤساء عشيرة باز، ملك مقصود في دهوك، وغيرهم في مناطق النساطرة، ووجه هؤلاء رسائل إلى عصبة الأمم المتحدة عَدُّوا فيها البطريرك إيشاي شاباً ضعيفاً، مغروراً ومشاغباً لا يمثلهم، بل يمثل عصابة شريرة عبثت بأمنهم وأمن الوطن
في 18/8/1973م أعلن البطريرك إيشاي زواجه من الآنسة "إمامة" ابنة الشماس الإنجيلي شمشون شمعون، وكان عمرها أربعاً وعشرين سنة وأنجب منها طفلاً، مما أغاظ رعيته بكونه خالف نظام الكنيسة التي تُحرِّم زواج الأساقفة، فقام أحد أتباعه وهو داود ملك ياقو ملك إسماعيل بقتله في 6 تشرين الثاني سنة 1975م في مدينة سان هوزي، (كلمة ملك معناها رئيس العشيرة أو شيخ)، وعندما قُتل كان له طفل بعمر ثمانية عشر شهراً وكانت زوجته حاملاً بطفل ثان، وقد اتُهم أحد الأحزاب الآشورية بقتله بحجة أنه لم يكن متعصباً للآشورية كثيراً لأنه لم يُسَم كنيسته آشورية، وبعد شهر من وفاته توفيت عمته سورما خانم في 7 كانون الأول سنة 1975م، وانطوت صفحت عائلة أبونا وهي من سبط نفتالي التي تسلطت على بطركية السريان النساطرة منذ سنة 1318م، حيث خلف إيشاي البطرك دنحا الرابع الذي ينحدر هو أيضاً من الأسباط العشرة الإسرائيلية لكنه من خارج عائلة أبونا، وهو ربيب الإنكليز أيضاً، وهو أول من قام بتسمية كنيسته آشورية في التاريخ في 17 تشرين أول 1976م في اجتماع عُقد في لندن.
وشكراً/ موفق نيسكو
للراغبين الطلاع على الجزء الأول:
https://www.algardenia.com/maqalat/57021-2023-01-05-07-44-29.html
3171 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع